محاضرة أعدها واستقاها من مصادر عدة وقدمها الناقد المسرحي يوسف الحمدان في الملتقى الثقافي لمسرح الصواري ..
يوسف الحمدان:صوت العرب – البحرين.
يعتبر مسرح الصواري أول مسرح في البحرين ، بل وفي الخليج العربي يتأثر بمنهج وتعاليم الفيلسوف والمفكر وعالم النفس المخرج الياباني المعلم تاداشي سوزوكي ، وتحديدا في تجربة المخرج المعلم المسرحي الفنان الراحل عبدالله السعداوي ، ويتجلى ذلك التأثير بوضوح في مسرحياته سكوريال والكمامة والحلاج ، حيث اشتغل السعداوي في المناطق الصعبة والحرجة في الأداء التي كان يدعو إليها ويطبقها في عروضه المسرحية ، وفي استثمار علاقة الممثل ومواجهته للمتفرج للكشف عن إنسانيتهما المشتركة لديه ، والتي على ضوئها أطلق السعداوي مسمى كتاب تجربته المسرحية المختبرية ( المسرح قلب الإنسانية المشترك ) .
المعلم سوزوكي .
هذه المقاربة تدعونا للوقوف على فلسفة سوزوكي في تدريب الممثل والذهاب به إلى مناطق صعبة ومركبة تتصل مباشرة بالجسد وكيفية جعله مادة سخية سحرية صعبة مواربة ومخاتلة ، وتتجلى خميرة هذه التجربة المختبرية الصعبة في منهجه وتحديدا في كتابه ( ثقافة الجسد ) ..
لنقف إذن عند منطلق ومتكأ المنهج والرؤية عند المعلم سوزوكي ..
يحدد سوزوكي رؤيته للمسرح باعتباره ( مستشفى للأمراض العقلية، نحن جميعاً نزلاؤه) ، وهذه الرؤية هي زاده الأساسي والمحرك الطاقوي الأهم في كل تجاربه المسرحية التي قدمها للمسرح ، ومن بينها إلكترا سوفوكل ، وعابدات باخوس ليوربيديس ، وكليتمنسترا وديونيزوس ومسرحيات رواد العبث وتشيخوف وغيرها ..
وقد أسهمت ثقافته العريضة المتنوعة في تشكيل رؤية لا تنحاز إلى موروثه المسرحي الياباني كالكابوكي تحديدا ، فهو قد نشأ بين أسرة تسمع وتتذوق الموسيقى الغربية الكلاسيكية مثلما تسمع الأغاني التقليدية لمسرح الدمى ، كما تميز بين أقرانه وأساتذته إبان دراسته الأكاديمية بجامعة طوكيو بشخصيته المولعة بالجدل وبالأفكار اليسارية المشتعلة غضبا ..
هذا التمرد المتفرد في شخصية سوزوكي ، دعاه لأن يذهب مبكرا إلى أفكار ورؤى تتمرد وتخرج على النمط الكابوكي المتشدد ، وإن انحاز إليه فيما بعد ، فذلك بغية تفرد منهجه المسرحي النابع من قلب التراث المسرحي والحضاري الياباني عن منهج ستانسلافسكي .
وكانت نصوص كتابّ مسرح اللامعقول "يونسكو، أداموف، أرابال وأدوارد ألبي" يومها قد ألهبت مخيلة سوزوكي لاسيما في استخدامها تقنيات تجريبية في ما يتعلق بعنصري المكان والزمان المسرحيين.
شّكل سوزوكي وبتيسوياكو فرقتهما المسرحية عام ١٩٦١ وكانت الفرقة هي جزءاً من تلك الفترة المزهرة التي كانت تدعى بـ (المسرح السري).
كان سوزوكي يبحث عن طريقة للفرار من واقعية مسرح شينجيكي المعاصر ذو التأثيرات الغربية، وقد استطاع أن يبلور أسلوبا أكثر تخييلية ونأياً عن الواقعية.
نصوص بيتسوياكو المتضمنة لغة مبتكرة وتلميحية، والطريقة الإخراجية لسوزوكي المعتمدة على تفجير الطاقة الجسدية اتحدتا معاً لخلق توليفة جديدة أثارت الانتباه للفترة ما بين ١٩٦٢- ١٩٦٧ وهي الفترة التي أخرج فيها سوزوكي خمس مسرحيات لبيتسوياكو لعل مسرحية "الفيل" عام ١٩٦٢ هي الأشهر.
في العام ١٩٦٦ استبدل سوزوكي اسم فرقته المسرحية بتسمية جديدة أخرى حملت اسم (فرقة مسرح واسيدا الصغير) مدشناً ريبورتوارها بنص لبيتسوياكو بعنوان "البوابة"، وبعدها في ذات العام أخرج للكاتب نفسه مسرحية "زواج الطفلة الصغيرة" العرض الذي حقق نجاحاً كبيراً للكاتب والمخرج على حد سواء. يومها شرعا معاً في تشييد إستوديوهما المسرحي الصغير على سطح مقهى طوكيو والذي كان يضم ١٢٠ كرسي. كان الأستديو صغير جداً ومن دون ستائر أو أجنحة وبخشبة مسرح من الطراز القديم، استخدمت مداخله السفلى كأجنحة مركزية.
ومنذ أن أسس سوزوكي فرقته التي تحمل اسم مسرح واسيدا الصغير الذي يتعرش سطح مقهى طوكيو والذي يضم 120 كرسيا تجنب سوزوكي الكثير من الخدع المسرحية جاعلاً من الممثلين وسيلة تعبير (جسدية وصوتية) بالقدر الممكن. وقد ارتبط أسلوبه إلى حد ما بإسلوب المسرح الفقير لجروتوفسكي.
طريقة سوزوكي في التمثيل ..
لقد ابتدأ سوزوكي التركيز على تأسيس طريقة جديدة ومبتكرة في فن التمثيل. فقد طبق طريقته تلك على نسخ منقحة اقتبسها من القصص اليابانية القديمة ونصوص جديدة لكتاب الأفانغارد اليابان أمثال ماكوتو ساتو وجورو كارا.
لقد أراد سوزوكي أن يحل بدل النص المنطلق من واقعية شينجيكي Shin-Geki، مسرحاً مركزه الممثل المّفكر والجّيد التأسيس والذي تخضع أفكاره إلى الكثير من التعديلات المتنوعة.
لقد بدأ في أواخر الستينات يؤمن بأن التمثيل يعني مواجهة الممثل لقدراته التعبيرية الذاتية، وليس لتفسير أو ترجمة النص المسرحي للكاتب.
تحت تأثير نفوذ الفلسفة الوجودية فسر سوزوكي سلوك الممثل في مواجهته للمتفرج على أنه نوع من إثبات الذات، فمن خلال تلك المواجهة بين الممثل والمتفرج، يكتشف الاثنان إنسانيتهما المشتركة المثقلة بالخراب والأسى.
النموذج الأول والرئيسي لأسلوبه المبتكر كان عمله الخاص " آنذاك ماذا بعد ذلك؟" وهو نص مسرحي ساتيري لمسرح الكابوكي الشعبي والذي أعدّ لغرض إظهار المناهج المضادة لمنهج ستانسلافسكي، وقد تضمن عرضه استخدام الإعلانات التوضيحية التي تفوح منها النكهة البريختية.
لقد أنجزت فرقة سوزوكي العديد من العروض التجريبية والمرتجلة معتمدة على مواد استمدت من المسرحيات الغربية واليابانية الحديثة وكذلك من مسرح الكابوكي علاوة على الأدب غير الدرامي، إلا أن مسرح الكابوكي، على وجه الحصر، كان قد ترك تأثيراً كبيراً وحاسماً على أعمال المخرج السابقة واللاحقة.
كان الارتجال الهدف منه ليس التعبير عما أراده المؤلفين عبر حواراتهم، إنما وظف لغرض ارتباط الممثلين بكلمات ذلك النص على المستوى ما دون الوعي. بناءاً على ذلك فإن الكلمات والطرق التي يُجسد فيها ذلك النص في مجرى العملية، تتخذ دلالات جديدة وغير متوقعة.
يعتقد سوزوكي أن مهمة المخرج وعملية الإخراج معاً هدفهما مساعدة الممثلين للتعبير عن علاقتهم الشخصية بالدور عبر العثور على طرائق مبتكرة حية تجعل أرواحهم الخلاقة من الداخل تتبنيّ وتستوعب مغزى نتائج تلك التمرينات باستخدام نهج استعير من السورياليين يسمى بـ (التشويش) يجري بمقتضاه جمع تلك التمرينات وتشكيلها داخل كولاجات درامية أدائية.
الديالوج غالباً ما يتعارض أو يتباين مع السلوك، خالقاً إحساساً أو مغزى من التشويش واللامنطق، إلا إنه في ذات الوقت يُنتج قوة من الإدراك وعمق البصيرة.
كايوكا شايراشي الممثلة التي مثلت في مسرحية الآلام الدراماتيكية للسيد المسيح ، هذا العمل والذي كان هذا العرض هو الأول الذي رسم ملامح مميزة لها، أصبحت مثالاً لإمكانيات منهج سوزوكي، حيث كان لطاقاتها الصوتية والجسدية والعاطفية وقعاً ما دعى النقاد العالميين اعتبارها واحدة من أعظم الممثلات في العالم!.
تابع سوزوكي عام ١٩٧٠ الجزء الثاني من عمله (الآلام الدراماتيكية للسيد المسيح) والتي لعبت فيها كايوكا شايراشي دور امراة مجنونة تتخيل نفسها وقد تحولت في أوضاع درامية متنوعة من مسرحيات الكابوكي.
الجنون ..
(لابد من التنويه هنا من أن الشخصيات المجنونة تتكرر في أعمال سوزوكي، وإن نزعاتهم من أجل لعب الأدوار يقدم الأساس المنطقي للمشاهد الدرامية الممزوجة والمتعددة الأشكال).
كانت فرقة "مسرح واسيدا الصغير" دعيت لحضور المهرجان الوطني للمسرح في باريس بدعوة من رئيس المهرجان جان لوي بارو والذي من خلاله استطاع ممثلو سوزوكي إحراز شهرة عالمية واسعة. أما سوزوكي فقد بوغت بـحقيقة أن "المسرح المعاصر"، وهو المسرح الخاص بجان لوي بارو، كان يقع في المنطقة السكنية للمشاهدين، مما دفعه وشجعه على البحث عن مكان شبيه له في اليابان لبناء مسرحه. وهكذا وفي عام ١٩٧٦ شيّد سوزوكي مسرحه في منزل مصنوع من القش في مزرعة تقع في قرية جبلية صغيرة ونائية في ولاية تويمان تدعى "توغو"، هناك حيث أقام مركزه الرئيسي والذي يبعد عن العاصمة طوكيو حوالي ٤٠٠ ميل. قراره هذا واقع الأمر كشف عن ضرورة أخرى وهي أن المسارح اليابانية ينبغي بل ويمكن أن تشيّد في القرى والأرياف وليس بالضرورة أن تكون متمركزة في العاصمة، على الرغم من أن فرقته التي أعيد تأسيسها عام١٩٨٠ كانت اتخذت من العاصمة طوكيو مقراً لها.
العرض الأول الذي دشن به سوزوكي مسرحه الريفي آنذاك هو الجزء الأول من كولاج "المساء والمأدبة" وهو عبارة عن مواد مزيجة من تشيخوف وبيكيت ويوربيدس.
قام سوزوكي عام ١٩٨٢ بتأسيس مهرجان المسرح العالمي (توغو) الذي صار يأمّه الكثير من الفنانين المعروفين في العالم سنوياً، وكان البيت الذي يقع في المزرعة هو عبارة عن مسرح خشبي جميل يحتوي على مائتي مقعد سمي بـ (مسرح توغو سامبو) وهو شبيه إلى حد ما بمسرح (نـو)، والذي توسع فيما بعد ليحاط ببحيرة من كل جانب وهو يستوعب ٨٠٠ مقعداً. وهذه الأماكن بالنسبة لسوزوكي هي بمثابة أماكن مقدسة وهو الذي كان شيّد مسرحاً يحيط به أهالي قرية توغو.
منهجه
لقد انهمك ممثلي سوزوكي في توغو وتحديداً من عام ١٩٧٥- ١٩٨٠ في تدريب مكثف ومضاعف حسب منهج سوزوكي، تلك الطريقة التي اقتبست الكثير من التقنيات الكلاسية لمسرح (نـو) و (كابوكي) فضلاً عن استفادتها من الفنون القتالية اليابانية والتزامها بنظام تدريب صارم للجسد والصوت.
شخصيته
كان من عادة سوزوكي وهو يجري تدريباته مع الممثلين حمل سيف من الخيزران بيده وضربه على الأرض بقوة وقسوة. تقول الممثلة ماريا ميكرسكوف: "سوزوكي شخص صارم، وفي بعض الأحيان استبدادي، إلا أنه يمكن أن يكون أنيساً مرحاً وعذباً وأقل حّدة وصرامة.
إنه شخصية انتقادية إلى أبعد الحدود حين يرى عيوباً في التمثيل حتى وإن كانت طفيفة، وهو لا يتردد أحياناً في توجيه الشتائم أو الإهانات إلى الممثل، بل ويمكنه أن يصرخ بشكل وحشي.
تمريناته تندمج وتتوحد في سلسلة من العروض المبتكرة كان قد استمد العديد منها من مصادر كلاسية غربية لذا فهي تُظهر دمج وصهر طرق التمثيل الشرقي بالدراما الغربية. إن التركيز والتشديد ينتقل من اكتشاف الذات إلى براعة الحركة والنطق".
الكلمات، حسب سوزوكي، تتجسد عبر جسد الممثل وليس من خلال مجرى العملية الذهنية. الجسد والصوت ينبغي أن يكونا شيئاً واحداً. إنه يريد من ممثليه ان يكونوا اشبه بالممسوسين يتماهون تماماً وكهنة الشامان.
القدم ..
إن طريقته تتطلب حركة القدم الواسعة مع جسد يستخدم المركز الأدنى لجاذبية الأرض والاستخدام الكبير لتشكيلة واسعة من الضربات بأخمص القدم والسقطات الحادة وجر القدمين على الأرض والانزلاقات والرفسات. لقد كان يطالب أن تكون تمريناته مؤسسة في المقام الأول على الشكل الياباني للحركة، إلا انه صار فيما بعد يعيد تشكيل تمريناته لتأخذ طابعاً شموليا أكثر هذه المرة.
في عروضه تتوحد الحركات مع ديكور بسيط، عروض الواجهة الأمامية، الرقص الإيقاعي، موسيقى النقر التي هي عادة ما تصم الآذان لشدة ضجيجها، ومقدار كبير من السرد الكلامي المتحول إلى مونولوغات طويلة تستخدم سلسلة واسعة من التعبيرات بحدها الأقصى.
لقد طبّق سوزوكي منهجه في العمل على تراجيديات إغريقية مختلفة معيداً تركيبها وتنظيمها من جديد للتعبير بشكل ضمني عن الأفكار ذات الصلة بالموضوعات الاجتماعية. ومع ذلك وعلى الرغم من أمانته لتلك النصوص أو الأصل إلا أنها بدت من خلال موشوره الرؤيوي كما لو أنها مرايا لليابان المعاصرة وللعالم بشكل عام.
لقد أعاد سوزوكي بعث الحياة في بعض النصوص الإغريقية منقحاً إياها بطريقة مبتكرة، أمثال "نساء طروادة" ١٩٧٤ ليوربيدس، "الباخوسيات" ١٩٧٨، "كليتمنسترا" ١٩٨٠، "ديونيزيوس" ١٩٩٠.
"سقوط منزل أتريوس" المعدة عن كليمنسترا عرضت عام ١٩٨٣ على قاعة المسرح الإمبراطوري ذو الـ ١٩٠٠ كرسي في طوكيو.
"الباخوسيات" و "كليتمنسترا" قدمتا باللغتين اليابانية والأنكليزية وكان تأثير ذلك جذاباً وهاماً.
أما العمل الأكثر أهمية من بين جميع أعماله الأغريقية فهو "نساء طروادة" التي تعتبر ثيمة مضادة للنزعة القومية والتي عبر عنها سوزوكي بأسلوب المسرحية داخل المسرحية كما هو الحال مع "الباخوسيات".
في محاضرته يحدد سوزوكي هدفه الرئيسي في منهجه فيقول : " إن الهدف الرئيسي لمنهجي هو رفع وتعميق القدرات التعبيرية الفطرية لدى الممثل والسعي إلى تطويرها من خلال الكشف عن الإحساس المُدرَك جسدياً ومحاولة إبرازه إلى السطح، وأعني بالإحساس المدرك جسدياً، هو ذلك الإحساس الذي كان يمتلكه الممثل أو المؤدي أصلاً قبل أن يحرز المسرح أساليب عروضه المنظمّة والمصنفة منهجياً.
لقد تزامن بدء تفكيري في هذا المنهج والفترة التي كنت فيها منهمكاً في البحث عن طرق لفحص وتحليل درجات اختلاف الأدراك الجسدي بين أشخاص متباينين، اختلافات كتلك التي نجدها أثناء تواجد الممثلين على خشبة المسرح، سواء كانوا في حالة سكون كامل، أو في حالة حركة، أو عبر شروعهم بفعل ما. كان هدفي من ذلك جمع تلك التباينات ومن بعد توحيدها في شيء يمكننا نحن البشر جميعاً أن نتقاسمه كخاصية مشتركة بيننا بعيداً عن كل تبايناتنا العرقية أوالقومية.
لقد أحسست في المقام الأول، بضرورة البحث عن العلاقة المباشرة والمحددة لأحاسيسنا أو مشاعرنا إزاء الأرض التي نقف أو نسير عليها، وأعني بالتحديد جاذبيتنا نحو الأرض التي يتحسسها النصف الأسفل من جسدنا.
لقد استخلصت أخيراً بعض الطرق الأساسية لاستخدام الجسد بوصفه وعاء يحوي مشاعر مُدرَكة تختلف بعضها عن بعض بشكل طفيف. وهكذا، ولأجل صياغة منهجي شرعت في تنظيم وتنسيق تلك الاختلافات الطفيفة.
تقنياً، يتألف منهجي من مجموعة من التمرينات تتعلق بكيفية تعّلم النطق والألقاء بحيوية وصفاء، وكذلك تعّلم كيفية جعل الجسد كله ينطق، حتى وإن كان الممثل صامتاً!. بهذه الوسيلة، يستطيع الممثل أن يتعّلم أفضل الطرق لوجوده على خشبة المسرح.
لقد أردت من خلال التطبيق العملي لهذا المنهج أن أمنح الممثل فرصة لإظهار القابليات التعبيرية لجسده، وأيضاً القدرة على التحّكم بذاكرته وقوة تركيزه.
باختصار، إن هذه التمرينات، إذا جاز لي القول، هي بمثابة قواعد لغوية ضرورية لترجمة صورة المسرح الذي في مخيلتي وتجسيده مادياً.
أما الشيء الأكثر جاذبية في الأمر فهو إن هذه القواعد ينبغي أن تستوعب داخل نطاق الجسد كما لو أنها غريزة ثانية، تماماً مثلما لا يمكنك الاستمتاع بالمحادثة اليومية من دون أن تكون ملمّـاً بقواعد فن الكلام.
ينبغي لهذه التقنيات أن تدرس وتطوّع لحين أن تصبح قيد الاستخدام كما لو أنها فرضية جاهزة للعمل ليتمكن الممثلون وقتها من الاحساس حقاً أنهم شخصيات وهمية أو تخييلية على خشبة المسرح.
ولكي يدرك الممثلون الصور الذهنية أو الشخصيات التخييلية التي يسعون إلى تجسيدها على المسرح، ينبغي لهم أن يُظهروا ويطوروا هذا الاحساس الأساسي، وأعني به الاحساس المُدرك جسدياً.
إن المجتمع المثقف من وجهة نظري، هو المجتمع الذي تستخدم فيه القدرات التعبيرية والمدرِكة للجسد الانساني إلى حدودها القصوى، لأنها هي من يزودنا بالوسائل الرئيسية لإقامة الصلات وتبادل الأفكار.
ينبغي التشديد هنا على أنه ليس بالضرورة دائماً أن يكون البلد المتمدن أو المتحضر هو بلداّ مثقفاً. إن الحضارة أو المدنية نشأت وتطورت حقاً بالارتباط مع تطور وظائف الجسد البشري، ومن الممكن جداً أن ُتفسر على أنها توسيع لتلك الوظائف، أو امتداد للمَلكات الجسدية كالعيون والآذان واللسان والأيدي والأقدام. فاختراع التلسكوب والميكرسكوب مثلاً، لم يكن سوى محصلة للطموح البشري في مساعيه لرؤية أشياء لا تقوى حاسة البصر العادية عن رؤيتها.
وهكذا فإن التأثير المتراكم لمثل هذه المساعي هو ما يمكن أن نطلق عليه كلمة حضارة أو مدنية والتي هي ثمرة لتوسيع وامتداد لتلك المَلكات الجسدية . أما الشيء الذي ينبغي علينا بعد ذلك أخذه في نظر الاعتبار، فهو نوع الطاقة الضرورية لتحقيق طموحات كهذه، وهذا بدوره يقودنا منطقياً إلى التفكير في موضوع الحداثة.
إن المعيار الأساسي للتمييز بين مجتمعات الحداثة ومجتمعات ما قبل الحداثة، حسب بعض السوسيولوجيين الأمريكيين مثلاً، هو نسبة استخدام الطاقة الحيوانية قياساً بالطاقة غير الحيوانية في تلك المجتمعات.
(المقصود بالطاقة الحيوانية هنا، هي تلك التي يبذلها الأنسان والحيوان، أما الطاقة غير الحيوانية، فالمقصود بها الطاقة الكهربية والنووية وما شابه).
لاتوجد سوى وسيلة واحدة لقياس حداثة ذلك البلد من عدمه، وهي حساب حجم الطاقة غير الحيوانية المستخدم في مجرى عملية الإنتاج لذلك البلد.
من هنا، يمكن القول، وبشكل تقريبي، أن البلدان الأفريقية والكثير من البلدان الشرقية، على سبيل المثال، والتي عادة ما تكون نسبة استخدام الطاقة الحيوانية فيها عالية جداً، هي مجتمعات ما قبل الحداثة مقارنة ببلدان متقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان مثلاً، حيث الطاقة فيهما تشتق من البترول والكهرباء والقدرة النووية، والتي تستخدم عادة في كل عمليات الإنتاج.
لو طبقنا الآن وجهة النظر هذه على المسرح فسنلاحظ في هذه الحال أن كل المسارح المعاصرة هي مسارح حديثة ذلك لأنها تستخدم الطاقة غير الحيوانية إلى أقصى الحدود. فالإضاءة والمصاعد والرافعات وخشبات المسارح الدوّارة إلخ..، كلها تدار بواسطة الطاقة الكهربية، فضلاً عن دُور العرض نفسها، بدئاً من الأساسات الكونكريتية وانتهاء بآخر مبتكرات أدوات وعناصر العرض التقنية والفنية، ماهي إلا المحّصلة النهائية لتنوع ميادين النشاط الصناعي .
أما لو أخذنا النموذج الياباني الوحيد الباقي لمسرح ما قبل الحداثة وأعني به مسرح نـو لوجدنا أن العملية معكوسة تماماً، أي أن هذا المسرح لم يكن يستخدم الطاقة غير الحيوانية على الأطلاق.
فلنأخذ الموسيقى، على سبيل المثال، ففي المسرح الحديث، تسجل الموسيقى ويعاد إنتاجها عبر عملية التوليف ومكبرات الصوت، فيما نرى أن أصوات الممثل ـ المغني والكورس وصوت الآلات الموسيقية في مسرح نـو تؤدّى وُتعزف جميعها بشكل حي لتصل مباشرة إلى الجمهور. أما ملابس وأقنعة هذا المسرح فهي تصنع باليد عادة، بل إن المسرح ذاته قد شيدّ وفقاً للقواعد التقليدية لحرفة النجارة اليابانية القديمة.
أما فيما يتعلق بالإضاءة، فعلى الرغم من استخدام العروض الحديثة لـمسرح نـو للطاقة الكهربائية في توليد تلك الإضاءة (والتي مازلتُ معارضاً لاستخدامها، لأن العروض القديمة كان مصدرها الشموع فقط)، إلا أن الإضاءة الصناعية تلك تستخدم الآن بحدّها الأدنى قياساً بالإضاءة الملونة ذو التقنية العالية الجودة، تلك المستخدمة في المسارح الحديثة.
لقد انبثق مسرح نـو بإدراك روحي لخلق شيء ما عبر جُهد الجسد الإنساني وبراعته، إلى الحد الذي يمكننا أن نصفه، حسب السوسيولوجيين الأميركيين، بأنه خلاصة لمسرح ماقبل الحداثة! لأنه إنتاج إبداعي مصدره الطاقة الحيوانية.
ونظراً لأن على المسرح مجاراة الزمن وإن عليه أن يستخدم الطاقة غير الحيوانية في كل وجه من أوجه نشاطاته، سواء كان ذلك في الغرب أو في اليابان، فإن إحدى أكبر المعضلات التي واجهته هي الإنفصال الواضح لملـَكات الجسد عن الإحساس الجسدي، فمثلما وسّعت الحضارة من وظيفة العين في اختراعها التلسكوب، أسهمت الحداثة في تقويض وتمزيق ملـَكاتنا الجسدية وفصلها تماماً عن ذواتنا الإنسانية.
إن ما أسعى إليه حقاً هو أن أبعث تكامل الجسد الإنساني وسط البيئة المسرحية، ليس عبر العودة إلى الأشكال المسرحية التقليدية لمسرح نـو أو مسرح نو او كابوكي ، بل بتوظيف المزايا الإستثنائية لهذين المسرحين من أجل خلق شيء ما، يمكن أن ينقل تجاربنا الحالية في العمل مع الجسد إلى المسرح الحديث.
ما ينبغي لنا القيام به هو أن نعيد لحمة ملـَكاتنا الجسدية التي قوضّت يوماً ما، وأن نستعيد طاقات جسدنا البشري وقدراته التعبيرية والمُدركة. فإذا نجحنا في تحقيق ذلك، نستطيع عندئذ الحفاظ على الثقافة واستمرارها داخل نطاق الحضارة أو المدنية.
إن منهجه في تدريب الممثل يؤكد بوجه خاص على أهمية الأقدام ، لأنه يعتقد إن إدراك الصلة القائمة بين الجسد والأرض، يقود بدوره إلى إدراك هائل لكل الصلات الفيزيائية الأخرى للجسد.
يتطلب القسم الرئيسي لطريقته في التدريب أن يضغط الممثل بقدميه على الأرض بشدة وقسوة لفترة محددة من الوقت وفقاً لموسيقى إيقاعية، أو على نحو أدق، السير بشكل دائري وركل الأرض بالقدمين بقوة، في وضعية يكون الجسد فيها شبه جاثم بعدها، وحال توقفّ الموسيقى، ينبغي على الممثل إرخاء جسده تماماً والإستلقاء على الأرض، شرط أن يكون هذا الإستلقاء ساكناً وهامداً.
وبعد فترة وجيزة ينبغي أن تبدأ الموسيقى ثانية، لكنها يجب أن تكون هذه المرة بطيئة وناعمة. ووفقاً لهذا التغيّر الحاصل في الموسيقى، ينهض الممثل ويقف على قدميه ببطء، بأية طريقة يشاء، منتصباً بشكل عمودي، عودة ً إلى وضعه الطبيعي السابق.
يتضمن هذا التمرين في الواقع حركتين متعاكستين، إحداهما ديناميكية والأخرى ساكنة، أي، حركة وسكون، سكون وحركة. بكلمة أخرى، إنها عملية إطلاق وكبح متناوب للطاقة الجسدية. الهدف من هذا التمرين في الواقع هو إظهار قوة التركيز على الجسد عبر التحّكم في عملية التـنفس.
إن المغزى الرئيسي للنصف الأول من هذا التمرين هو المحافظة على إستئناف ضرب الأقدام على الأرض بقوة دون إحداث أي اهتزاز للنصف العلوي من الجسد ، أما إذا فقد الممثل تركيز إحساسه على قدميه وساقيه ووركه، والتي ينبغي لها أن تكون قد خضعت لمران جيد وصارم، عندئذ يصبح من الصعب عليه الاستمرار في الضرب على الأرض بشكل متماسك ومتناسق مهما أوتي من قوة ونشاط.
فضلاً عن ذلك، أنه بدون طاقة روحية وإرادة في التحكم في عملية التنفس، فأن النصف العلوي للجسد سيبدأ حتماً في التأرجح تدريجياً، ومن ثم سيفقد إيقاع الضربات هارمونيته.
نقطة أخرى مهمة هي إذا ضرب الممثل الأرض بقدم واحدة، فإن قوة الضرب تلك ستؤثر بشكل طبيعي على النصف العلوي من الجسد وتجعله يهتز.
إن ما أثار انتباه سوزوكي خلال التدريب مع الممثلين وهم يضربون الأرض بأقدامهم بعنف وقوة هو أن ردة الفعل تتجه آلياً نحو الأعلى. بمعنى، أنهم كلما ركلوا الأرض بشكل أكثر قوة، كلما بدأ الجزء الأعلى من أجسادهم يتأرجح أكثر، لذا فإن الطريقة الوحيدة لتخفيف حدة التأرجح تلك إلى حدّها الأدنى يستلزم منهم كبح تلك القوة عبر الورك.
ينبغي على الممثلين وهم يضربون الأرض بأقدامهم أن يدركوا دائماً العلاقة التي تربط النصف السفلي بالنصف العلوي لأجسادهم، هذان النصفان اللذان يدوران معاً على محور واحد هو الورك ، إن التشديد على حقيقة أن بنية جسم الأنسان وتوازن القوى التي تساعده تتمحور في المنطقة الحوضية هي ليست بالطبع فكرة خاصة بمنهجه، فهي تستخدم في كل أنواع فنون الأداء تقريباً،
ومع ذلك، يعتقد سوزوكي أنها الشيء الذي يميز منهجه في تدريب الممثل، والتي تستلزم من الممثلين قبل كل شيء، أن يحسوا تلك المنطقة بوعي تام عن طريق ركل الأرض بأقدامهم وضربها بقوة ، إن منشأ هذا مصدره إعتقاده الراسخ أن الأحساس الجسدي الرئيسي لأي ممثل مسرحي يتوقف كله على أقدامه!
وكما يرى سوزوكي أن المصيبة تكمن في أننا نميل دائماً في حياتنا اليومية إلى التغاضي عن أهمية الأقدام، في حين أن الشيء الهام والضروري يتطلب منا أن ندرك جيداً أن الجسد الإنساني يقيم صلته بالأرض فقط عن طريق القدمين، وأن الأرض والجسد هما شيئان غير منفصلين، وأن الثاني هو جزء من الأول ، بمعنى آخر، أننا حين نموت سنعود ثانية إلى الأرض. ينبغي علينا ان نجعل من الجسد، الذي هو عادة ما يقيم مثل هذه الصلة مع الأرض بشكل غير واع ٍ، أن يدرك هذه الحقيقة عن طريق خلق إحساس قوي لوقع التأثير أو الصدمة خلال ضرب الأرض بالأقدام.
قيل أن فكرته هذه هي فكرة يابانية بحتة، إلا أن ذلك غير صحيح حسب ما يؤكد سوزوكي ، فحتى الباليه الأوربي الكلاسيكي الذي يبدو فيه أن هدف الراقصين من القفز نحو الأعلى ما هو إلا لغرض التحليق في الهواء، إلا أن الإحساس الجسدي الرئيسي يتكون من خلال الإحساس بالجاذبية نحو الأرض.
مرة أخرى نرى في الأشكال المسرحية التقليدية اليابانية النـو والكابوكي أن توازن القوتين الموجَهتين، ويعني بذلك تلك التي تتجه إلى السماء، صوب القمم، والأخرى صوب الأرض باتجاه الأعماق، هي مسألة جوهرية جداً في التعبير الجسدي. ففي الأشكال المسرحية التقليدية اليابانية نرى أن هاتين القوتين تكونان متعاكستين في وجهتيهما، إحداهما إزاء الأخرى، إلا أنهما تلتقيان في المنطقة الحوضية، ومن هاتين الحركتين أو الإتجاهين تنشأ الطاقة لتشع فيما بعد بشكل أفقي.
وهكذا، فإن محاولة النصف العلوي من الجسد للتحليق في الهواء، والنصف السفلي للغوص نحو القاع، ماهي إلا عملية موازنة لهذه الحركة، وبناء على ذلك يتضاعف الإحساس أكثر بأن القدمين راسختان بثبات على الأرض، وهذا ما يُرمز له بحركات مثل:Suri-ashi) ) أي الخطوات الأنزلاقية، أو ( (Ashi-byoshi أي السير والضرب على الأرض بالأقدام. هاتان الحركتان اللتان تعبّران عن الصلة أو الإنجذاب نحو الأرض.
شينو أوريغاتشي ..
لقد وجد الأنثروبولوجي الياباني الشهير شينوبو أوريغاتشي Shinobu Origuchi في دراسته لفنون الأداء اليابانية، أن المؤدّين أو الممثلين حين يركلوا الأرض بأقدامهم بشكل متواصل في بعض أجزاء العرض فإن ذلك يوحي في حد ذاته بالتعبير عن سحق الأرواح الشريرة القابعة تحت الأرض.
إنطلاقاً من وجهة النظر هذه، نرى أن الخطوات الإنزلاقية (Suri-ashi) في مسرحيات النو والكابوكي ، يمكن اعتبارها حركات تمهيدية للبدأ في الضرب.
وهكذا، وحسب أوريغاتشي، فإن جوهر الرقص التقليدي الياباني هو المشي والتجوال فوق خشبة المسرح والذي كان يعبّر أصلاً عن تطهير المكان من الأرواح الشريرة عبر ضرب الأرض بالأقدام بقوة محاولة لسحق تلك الأرواح القابعة تحت سطح الأرض.
إن سلسلة الحركات في تدريبات سوزوكي تتكون من شدّ الجسد بأكمله بقوة وإحكام وتكثيف وتركيز القوة في منطقة الورك، ثم الضرب على الأرض بنفس الإيقاع المتواصل، وبعدها السقوط على الأرض والاستلقاء دون حراك، ثم النهوض ثانية وفق الموسيقى، تماماً مثل الدمية التي تتحرك بواسطة الأسلاك، عن طريق نشر قوة ساكنة في كل أنحاء الجسد ،وكل ذلك يتحقق بواسطة التبّدل النوعي التام لما يمكن أن نسميه بـالجسد الاعتيادي الخام الخامل وغير المّركز. لهذا السبب نرى الكثير من المبتدئين يشعرون أنهم مجبرون بشكل آلي على الحركة، وأن الفوارق الطفيفة والرقيقة لأجسادهم تكاد تتلاشى شيئاً فشيئاً.
وفقاً لخبرة سوزوكي في إعطاء هذه التدريبات ،لاحظ أن الممثلين الأمريكيين المولعين بالتمثيل الواقعي، يميلون على الدوام لشعور كهذا ، فعلى الرغم من أنهم يبتدئون في الضرب على الأرض بأقدامهم بنشاط وجديّة، إلا أنهم سرعان ما يفقدون تركيزهم، ومن ثم ترتخي أجسادهم وتنحّل ، ثمة شيء آخر وهو أن البعض من الناس ممن شاهد تدريباته اعتبرها يابانية صرفة حالاً, قائلين أنها لا تتلائم مع الممثلين الأمريكيين!.. لماذا؟ لأن سيقانهم طويلة مقارنة مع اليابانيين!.
الواقع أن المسألة ليست لها علاقة بسيقان طويلة وسيقان قصيرة أو قدرة على الإحتمال، إنما المسألة لها علاقة باكتشاف الإحساس الداخلي الجسدي الملموس، أو بتمييز ومعرفة الذاكرة الفطرية العميقة والداخلية وعلاقتها بالجسد الإنساني. بكلمات أخرى، إن الموضوع كله متعلق بالقدرة على الكشف عن هذا الإحساس الجسدي العميق ومنحه حرية الحركة كاملة. من هنا ـ حسب سوزوكي ـ يمكن القول ليس بالضرورة أن الممثلين اليابانيين وحدهم فقط بإمكانهم استيعاب الهدف من تمريناته، فيما الآخرين لا.
إن ضرب الأقدام على الأرض حسب سوزوكي ، سواء كان ذلك في أوربا أو في اليابان، هو حركة جسدية كونية شاملة ضرورية لنا جميعاً، الهدف منها أن نحس بأجسادنا بشكل مثير ومتميز، أو لكي نخلق أو نبتكر الحّيز المتـَخيّل والذي يمكن لنا أيضاً أن نسميه بـالحّيز الطقسي أو الشعائري ، هناك حيث يمكننا أن نحقق التحّول الشخصي أو الذاتي.
إن ضرب الأرض أو ركلها بالأقدام كان قد نشأ وتأصل في الطقوس اليابانية القديمة، فقد ذكرالأنثروبولوجي أوريغاتشي في كتابه الشهير (ستة محاضرات في تأريخ فنون الأداء اليابانية القديمة) من أن الطقس الاستهلالي للحائط الحجري المقدس في أسطورة الخلق اليابانية، هو بمثابة الجذر الأساسي للرقص البوذي المقدس (Kagura) ، وقد تحدّث أوريغاشي أيضاً عن الرقص الإيقاعي الذي يهّدىء الأرواح والذي تؤدي رقصته الإلهة آمينو أوزامينو ميكوتا التي تدور حول حوض غسيل خشبي وتضرب قاعه بنهاية عصا، بشكل إيقاعي.
يقول أوريغاتشي:
ربما يرمز حوض الغسيل هنا إلى الأرض أو قاعها ، وإن ضرب الإلهة آمينو لقاع الحوض بالعصا، وهي تطلق صيحاتها عالياً، ماهي إلا سلسلة من الأفعال، الغرض منها إيقاظ النفس أو الروح، التي يُعتقد أنها كانت تختبىء أو ترقد تحت ذلك الحوض، من أجل إرسالها إلى الجسد المقدّس غير المرئي للإله المجاور.
يستنتج أوريغاتشي أن الغرض من فعل الضرب والركل هذا، ليس هدفه بالضرورة سحق وقمع الأعداء الأشرار، بل لإيقاظ واستثارة طاقاتهم، لغرض الإفادة منها في تنشيط حياة الأنسان.
وكنتيجة، فإن ذلك التأثير هو مشابه لتأثير التعويذة التي تقول أنه عن طريق امتلاك روح الشرير يمكن التغلب عليه.
لذا فإن حقيقة ضرب ممثلي مسرح النو والكابوكي لأرضية المسرح بأقدامهم، ما هو إلا ممارسة عملية لهذا التقليد.
معروف أن المسارح اليابانية القديمة كانت تشّيد فوق الروابي والقبور، هناك حيث ترقد أرواح الموتى، كما كان يُعتقد ، وهذا ما دفع الناس، حتى وقتنا الراهن، إلى ممارسة فعل أصبح عادة، وهو حفر تجويف في الأرض، أو دفن وعاء فيها قبل تشييد مسرح النو فوقها، والغرض من ذلك، هو ليس فقط لخلق تأثيرات تقنية، بدعوى أن الأرض المجّوفة عادة تخلق صدىً قوياً لصوت الضربة، بل هو مجرد إجراء لخلق وهم يستطيع من خلاله الممثل أن يستحضر في ذهنه أرواح الأرض أو أرواح الأسلاف الذين يعودون إلى الأرض، بغية امتلاك طاقاتهم. أما الرنين الذي يحدثه صوت الضرب على الأرض فهو بلا شك يقوي ويعزز بدوره الإحساس الجسدي في الاستجابة لتلك الأرواح.
إن وهماً كهذا يعتبر حتى يومنا هذا بمثابة عنصر ضروري جداً للممثلين وهم على خشبة المسرح، وهو أن طاقة الأرواح يمكن الإحساس بها عن طريق الأقدام لغرض تنشيط فعالية أجسادنا، والذي هو أكثر الأوهام طبيعية وقيمة للكائنات البشرية.
من هنا يمكن الجزم بأن سر قدسية مسرح النو تكمن في مواصلته على تغذية وإنعاش هذه الفكرة حتى يومنا هذا.
أن القبور والروابي يمكن اعتبارها حقاً بمثابة الأرحام التي وُلدنا منها. بهذا المعنى المجازي، يمكن أن تصبح الأرض هي (الأم) نفسها ، بوسع الممثلين أن يلعبوا أدوارهم بافتراض أنهم يرتبطون بالبشرية جمعاء، باعتبارها ذوات موّحَدة ومتكاملة، ومن المحتمل جداً أن النصف السفلي للجسد وليس نصفه العلوي، هو الذي يمكن من خلاله التعبير بشكل أكثر وعياً عن الإحساس الجسدي، الإحساس العام المشترك لكل الأجناس البشرية. ولكي نكون أكثر دقة وتحديداً نقول ليس النصف السفلي كله، بل القدمان .
الأقدام هي الجزء المتبقي من الجسد الإنساني الذي ظل على اتصال بالأرض، وهي الداعم الرئيسي لجميع أنشطة البشر.