2025 ,10 أيار

الكاتبة التونسية فاطمة بن محمود.
*كافية الراجحي تونس:صوت العرب-تونس.
تُعدّ "فاطمة بن محمود" من أبرز الكاتبات التونسيات اللواتي أثرين الساحة الأدبية العربية بأعمال تتميّز بالجرأة والعمق والانخراط في أسئلة الوجود والهوية والأنوثة. وتكوّنت أكاديمياً في مجالي الفلسفة والآداب، مما أضفى على كتابتها بعداً فكرياً واضحاً، يُزاوج بين الحس الجمالي والتحليل الفلسفي. وتكتب "فاطمة بن محمود" الشعر والرواية والنصوص المفتوحة، وتسعى من خلال كتابتها إلى تفكيك الأنساق الثقافية المهيمنة، ولا سيما ما يتعلق بصورة المرأة في المجتمعات العربية. وتنظر إلى الكتابة كـ"مخاض داخلي"، وكأداة لكسر القيود الموروثة، حيث تتجلى الذات الأنثوية في نصوصها بوصفها كياناً متمرداً، يطلب المعنى، ويخوض معاركه على أكثر من صعيد: الجسد و اللغة والوجود.وتعتمد في أسلوبها على لغة شعرية ذات طابع مكثف وتهتم بالإيقاع الداخلي، والصور المركبة، والتجريب على مستوى البناء السردي. وفي رواياتها وتتداخل الأزمنة، مما يعكس انشغال الكاتبة بالممكنات الجمالية للنص بقدر ما تهتم بالمضامين.
وما يميزها هو كونها لا تكتب عن الأنوثة بوصفها موقعاً اجتماعياً فقط، بل كمعركة وجودية وجمالية. شخصياتها غالباً ما تكون "نساء خارج القطيع"، يرفضن الامتثال، ويبحثن عن خلاص داخلي في مجتمع لا يعترف بهشاشة النساء ولا بذكائهن العاطفي والوجودي. إنها تستدعي الحلم والجسد والرغبة، كمفاهيم مركزية في مشروعها الأدبي. وإلى جانب كتاباتها تُعدّ فاطمة بن محمود فاعلة ثقافية بارزة، تشارك في مهرجانات وملتقيات فكرية وأدبية، وتُدير ورشات للكتابة، كما تساهم في النقاشات المتعلقة بحرية التعبير وقضايا النساء في العالم العربي. وترى في الوجود رحلة غير ثابتة تتطلب جهادًا دائمًا لاكتشاف الذات، إذ تبرز الرواية لدى بن محمود الصراع بين واقع مقيَّد وأحلام متحررة، مما يجعل كل عملٍ منها بمثابة نداء للتمرد على النُظم الاجتماعية والتقاليد المُقيَّدة. وبهذا الأسلوب الشعري والتجريبي، تُعيد الكاتبة تعريف المفهوم الوجودي باعتباره سعيًا مستمرًا نحو التحرر وإيجاد معنى جديد للحياة، حيث يتحول كل نص إلى مرآة تعكس الصراع بين الذات والمعاني المتجددة في عالم دائم التغير.
أما عن تجربتها في "بيت الرواية" فهيا محطة بارزة في مسيرتها الأدبية، حيث أسهمت في تعميق رؤيتها السردية وتعزيز تفاعلها مع المشهد الثقافي التونسي والعربي. ومن خلال مشاركتها في هذه المؤسسة، التي تُعنى بتطوير فن الرواية ودعم الكتّاب، استفادت بن محمود من بيئة محفزة على الإبداع والتبادل الفكري، مما أتاح لها فرصة الانخراط في ورشات ولقاءات أدبية جمعتها بأسماء بارزة في عالم السرد.وفي هذا السياق، ساهمت تجربتها في "بيت الرواية" في إثراء أعمالها، حيث انعكست هذه التجربة في رواياتها مثل "الملائكة لا تطير" و"زمن الغبار"، التي تُظهر تطورًا في أسلوبها السردي وعمقًا في تناولها للقضايا الوجودية والاجتماعية. ومن خلال هذه التجربة، أكدت فاطمة بن محمود على أهمية المؤسسات الثقافية في دعم الكتّاب وتمكينهم من تطوير أدواتهم الفنية، مشيرة إلى أن مثل هذه الفضاءات تُعدّ ضرورية لتجديد الخطاب الأدبي ومواكبة التحولات المجتمعية. وبذلك، تُبرز تجربتها في "بيت الرواية" كيف يمكن للمؤسسات الثقافية أن تكون حاضنة للإبداع ومسرحًا لتلاقح الأفكار والرؤى.
ومثّلت مشاركة الروائية فاطمة بن محمود في ورشة البشير خريف بـ"بيت الرواية" بتونس تجربة غنية على المستويين الإبداعي والفكري، حيث أتاحت لها فرصة التفاعل مع أصوات سردية متنوعة ضمن سياق ثقافي محفّز على التجريب والتجديد. وفي هذه الورشة التي تجمع بين أسماء شابة اشتغلت بن محمود على نصوص تنفتح على أسئلة الذات والهوية واللغة، ومؤكدة على أهمية الكتابة كفعل تأملي ووجودي في آن واحد. وقد ساهمت هذه التجربة في تعميق وعيها بالبنية السردية، ومكّنتها من الاشتغال على مشروع روائي أكثر تماساً مع الواقع المعاصر، دون أن تتخلى عن حسها الشعري وجرأتها الأسلوبية. ولم تكن الورشة مجرّد فضاء للتكوين، بل شكلت امتداداً لرؤيتها الأدبية التي تؤمن بأن الرواية ليست فقط سرداً للأحداث، بل ساحة لصراع الأفكار وتحولات الذات.وليست الورشات الأدبية مجرّد فضاءات للتكوين أو تنمية المهارات السردية، بل هي في عمقها مختبرات للذات في محاولتها المتكرّرة للإمساك بما يشبه المعنى. ومن هذا المنظور يمكن النظر إلى تجربة فاطمة بن محمود في ورشة البشير خريف ببيت الرواية كتجربة وجودية بالأساس، حيث تتحوّل الكتابة من تقنية إلى تمرين وجوديّ، ومن حرفة إلى طقس تأمّليّ، تُمارس فيه الذات محاولتها في التشكل والتجاوز.
ولم تكن بن محمود مجرّد كاتبة تُراكم التجربة، بل ذاتًا تبحث عن أثرها داخل اللغة، عن سؤالها الشخصي في حضور جماعي. ولقد مثّل الانخراط في الورشة بالنسبة إليها وقوفًا في مرآة الآخرين – لا لمجرد المقارنة، بل لاكتشاف عمق الصوت الداخلي حين يتجاور مع أصوات أخرى، ولطرح أسئلة حاسمة حول حدود الشكل وإمكانات المعنى، ومصير النص في عالم يضج بالفوضى. فالكتابة هنا لا تُفهم بوصفها إنتاجاً فقط، بل استجابة لقلق دفين، وتَصَيُّدًا للحظة هاربة يتقاطع فيها الذاتي بالجماعي، والوجداني بالفكري. فاطمة بن محمود، التي عرفها القارئ بشِعريتها العالية وحساسيتها تجاه الجسد والهوية، بدت في هذه الورشة أكثر انخراطاً في جدل النص ككائن حيّ، يتحرك ويتلوّن ويعكس هشاشة صاحبه. ولقد تعاملت مع الورشة كما يتعامل الوجوديّ مع العالم: لا باعتباره معطًى نهائيًّا، بل مادة للقلق وللتجريب ولإعادة الكتابة.
وهكذا، كانت تجربة البشير خريف بالنسبة لها معركة صغيرة ضدّ السكون، وفسحة للمساءلة، حيث تتقاطع الأسئلة الجمالية بالأسئلة الأنطولوجية: من نحن حين نكتب؟ ومن نُصبح بعد أن نكتب؟ وهل يمكن للنص أن يخلّصنا، أن يرمّم كسورنا، أو يمنحنا شكلاً أكثر احتمالاً للذات؟ وفي النهاية ما خرجت به فاطمة بن محمود من هذه التجربة ليس مجرد نصوص، بل إحساس أعمق بجوهر الكتابة كممارسة وجودية، فيها من الحفر بقدر ما فيها من الحلم، ومن الصمت بقدر ما فيها من الإنصات إنها رشة خيال...
*باحثة تونسية.

