ويرحل الفنان محمد بن عريك وفي القلب زهور لم يفرح بها بستان الحياة بعد .
2024 ,11 تشرين الأول
المرحوم الفنان محمد بن عبدالرحمن بن عريك
المولد النبوي كي نتطهر شوقا ..
يوسف الحمدان :صوت العرب – البحرين.
يعتبر الفنان الإنسان الأب والعم النبيل محمد بن عبدالرحمن بن عريك أحد الفنانين الشعبيين في مدينة الرفاع الشرقي الذين عززوا حبي وعشقي للمسرح منذ الطفولة المبكرة،  حفزني عليه كبير عندما تناهى لي خبر رحيله وهو الذي كنت أظن بأن الله سيكتب له عمرا جديدا بتحديه للوعكات والأحزان التي رافقت روحه بعد وفاة قرينته الوالدة أسماء بنت بحر، حيث كان يقاوم هذه الملمات بالرسم والتلوين وهو على سريره، وكما لو أنه يدرك من خلال رسمه وتلوينه للورود بأنه بالإمكان زرع بستان كبير وواسع في حياتنا... 
ويعتبر حي العمال الذي أقطن فيه والذي يتوسط مدينة الرفاع الشرقي ، أحد أهم الأحياء التي تعج بكل ما له صلة بالأساطير والطقوس والشعائر وفنون الفرجة بمختلف أنواعها ، ومن بين هذه الشعائر والطقوس التي تفتحت عيناي عليه مبكرا ، المولد النبوي ، وهو يوم مولد رسول الله محمد بن عبد الله والذي كان في 12 ربيع الأول ، حيث يحتفل به المسلمون في كل عام في بعض الدول الإسلامية فرحة بولادة نبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تبدأ الاحتفالات الشعبية من بداية شهر ربيع الأول إلى نهايته، وذلك بإقامة مجالس ينشد فيها قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، وتكون فيها الدروس من سيرته وذكر شمائله ويُقدّم فيها الطعام والحلوى.
وكان يقام هذا الاحتفال في البيت المجاور لبيتنا مباشرة ، وهو بيت محمد بن جاسم بن عريك ، هذا الإنسان النبيل الجميل الذي نعده أنا وجميع أخواتي بمثابة الأب الحاني الودود من بعد الوالد رحمه الله ، وزوجته أسماء بنت بحر الذي تتولى تربيتي ورعايتي في أوقات انشغال والدتي أو توعكها أنعم الله عليهما بالصحة والعافية وطول العمر ..
ويعتبر العم محمد بن عريك من أعز أصدقاء الوالد ، وأكثرهم قربا لأسرتنا ، كما أنه فنان شعبي بكل ما تعني الكلمة من معنى ، خاصة وأنه نمى وترعرع في وسط أسرة فنية ، وهو  صاحب فرقة الشباب وهي إحدى دور الرفاع الشرقي الشعبية التي تعنى بالفن الشعبي ويتولى أمر إدارتها عنه نجله جاسم إذا داهمه التعب..
وكنا عندما نسمع أو نعلم بأن هناك ثمة احتفال بالمولد النبوي الشريف في بيت محمد بن عريك ، تغمرنا نحن الأطفال فرحة لا تضاهى ، وكنت أنا وصديق الطفولة وحتى الآن ، سعود عبدالعزيز بن عريك ، ابن شقيق الفنان محمد بن عريك ، أول السباقين لهذا الاحتفال قبل أن يبدأ ، وكنا نتوسل من صاحب المولد في أن نساعده في ترتيب كل ما يخص المولد ، كفرش السجاد في الحوش للمحتفلين والحضور ، أو ترتيب سفرة المدعوين بعد انتهاء أمسية المولد ، أو دعوة بعض أصدقاء صاحب المولد للحضور والمشاركة في هذا الاحتفال ، المهم أن نشارك بأي شكل من الأشكال ، فالليلة مضيئة ومغمورة بالفرح وهذا الذي يعنينا بالدرجة الأولى . 
وعندما يتوافد المحتفلون والمدعوون مساء إلى بيت العم محمد بن عريك ، والابتسامة العريضة تغمر وجوههم وأرواحهم ، يسبقهم طبعا عازفوا الدفوف الذين يهيئوا النار والجمر لصقل وتحمئة هذه الدفوف كي تبدوا متناغمة ومتفاعلة مع شوق الاحتفال للنبي ، كما تسبقهم مهيآت الطقس الروحي للاحتفال ، من نبات السكر والبخور والعود والماء ، يبدؤا في تشكيل صفين متقابلين بعضهم يحمل الدفوف وبعضهم يشارك في الإنشاد وفق إيقاع هذه الدفوف في علوها وهبوط نغماتها ، وكلما زاد شوق المنشد في الولد ، ازداد بالمقابل شوق العازفين والمرددين وازدادت وتلاحقت أكتافهم علوا وهبوطا وهم يتمايلون يمينا وشمالا وهم يرددون وراء المنشد كلمات عن الرسول (ص) وآله 
وهناك ثلاثة شروط لابد من توفرها لأداء فن المولد وهي :
 أولاً: النص وهو عبارة عن منظومة طويلة موضوعها قصة النبي محمد عليه الصلاة والسلام والسيرة النبوية العطرة. 
ثانياً: المنشد وعادة ما يكون من الذين تتوفر فيهم القدرة على فهم السيرة وحفظها عن ظهر قلب، وجمال الصوت وحلاوة النبرة. 
كذلك لابد من أن تتوفر في صفة القيادة للفريق المؤدى للفن. ويسمى المنشد 
ثالثاً: المنشدون .. وهؤلاء ينقسمون إلى مجموعتين، الأولى حملة الدفوف "الطيران" ويقومون بالضرب عليها برفقة المنشد والمجموعة الثانية ويكون عددها أكثر من المجموعة الأولى حيث يقوم أفرادها بترديد البيت الذي يمثل لازمة للنشيد كله .
ولو تتبعنا أو وقفنا على هذه الشروط مليا ، لوجدنا روح العرض الطقسي الاحتفالي فيه ، من ممثل وجوقة وإيقاع وفضاء عرض وفرجة ، ولوجدنا كل ممكنات الأداء الدرامي وعناصره متوافرة فيه ، بدءا من الاستهلالية وحتى خاتمة الحفل أو الطقس .
ولشد ما كان يستوقفني في هذا الطقس ، اللحظات التي تعلو فيها أجساد المؤدين وهي تتمايل يمينا وشمالا مرددا بعضهم هذه الكلمة ( شوقا ) ، وكما لو أن هذه الكلمة تعتبر أشبه بمفتاح التصاعد والتنامي في الدراما خشية أن يهبط إيقاع المؤدين ، وكنا خلفهم نحن الأطفال نبالغ في هذا الشوق كلما ارتفع إيقاع الدفوف وكلما علت أكتاف المشاركين في الحفل وكلما طفرت كلمة الشوق لإثارة الحماس في روح المشاركين . 
وتعتبر هذه اللحظات التصاعدية في ذروتها ، أشبه بحالة التطهير ( الكاثارسيس ) في المسرح اليوناني ، وهي أشبه بحالة ( السكر ) لدى المتصوفة وخاصة في احتفالات المولد النبوي بمصر . 
وعندما ينتهي الحفل ويُفض المولد ، ينتابنا شعور بأن هذا البيت الذي احتوانا في طقوسه الدينية المبهجة ، أشبه بقاعة عرض مسرحي شعبية التكوين والتشكيل ، تظللها شجرة ( النبق ) الكبيرة التي تظللها نجمة الشوق ويتخفى خلفها بعض أطفال صاحب المولد ليرو ونرى معهم هذا الطقس أشبه بقاعة ولجناها من أجل أن نشاهد عرض مسرحي فيها ، نهايته طبعا سعيدة بتناولنا مختلف أنواع الفواكه والحلوى وخاصة البطيخ الأصفر المرشوش بالسكر الذي أعشق تناوله حتى يومنا هذا ..
أخشى في هذه اللحظة أن يستعيد العم بوجاسم ذكرياته لليالي المولد عندما يصغي لهذا المقال فتهطل عيناه بمطر الشوق..
لروحه الرحمة والسكينة والسلام ولاهله ولنا الصبر والسلوان ..
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون