د. أمــل الجمل:صوت العرب - المغرب.
«متألقة مثل لوحة من لوحات عصر النهضة، جسدت أدواراً للمرأة بجودة معاصرة لا يمكن إنكارها. إنها كريمة، لطيفة، جامحة ومتناغمة مع كل ما يحدث حولها بفضل قدرتها الفورية على فهم الواقع والانصات إليه. هذا الاستماع الجاد والعميق ينبع بالتأكيد من تجربتها المسرحية الطويلة - في الموسم الماضي لعبت دور كليتمنسترا لروبرتو أندو. مع ذلك يبدو أن قدرتها على الاستماع هى أيضًا استعداد طبيعي للروح، مما جعلها مصدر إلهام للعديد من المخرجين الإيطاليين المعاصرين، مثل إيمانويل كرياليس، وباولو فيرزي، ودانييلي لوتشيتي، وكارلو مازاكوراتي، وماريو مارتون، وماركو توليو جيوردانا، وروبرتو. أندو، دانييل فيكاري.»
إنها الممثلة والمخرجة الإيطالية إيزابيلا راغونيسي Isabella ragonese، كما وصفتها الكاتبة الإيطالية ومبرمجة المهرجان فيرونيكا فلورا، وذلك أثناء تقديمها على خشبة مسرح إسبانيول في مدينة تطوان العريقة ليلة إفتتاح الدورة التاسعة والعشرين من مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط والممتد بين ٢٧ أبريل - ٥ مايو ٢٠٢٤.. حيث تم تكريم النجمة الإيطالية التي تعد أحد أهم نجوم المشهد السينمائى المعاصر في إيطاليا والتي تُحسب على تيار النسوية بتضامنها ومساندتها لقضاياهم.
تقول عنها فلورا: إن إيزابيلا رمز للديناميكية المهنية والعاطفية والوجودية لجيل كامل، ولكنها أيضًا رمز لقوة الروح المذهلة وأهمية الثقافة في خلق مستقبل أفضل مقارنة بخراب الحاضر. فقد نقلت إيزابيلا قيمًا مثل التضامن بين النساء من خلال عدة أدوار، وحقوق الفقراء والمحرومين من أجل المساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية.
بهذه المناسبة التكريمية عرض مهرجان تطوان العريق فيلمها «روزا.. نشيد الحوريات» وهو أول تجربة لها في مجال الإخراج.. الفيلم وثائقي يمتاز بمستوى سينمائى رفيع في مجمله، وبقوة الخيط الحريري الناظمٍ. يعكس رؤية كاشفة للمجتمع الذكوري القمعي، وفي ذات الوقت يكشف عن تمرد النساء وقدرتهن على النجاة وتحويل المحنة إلي منحة يتألقن خلالها، ورحلتهن بين الألم والرغبة في الخلاص متخذين من روزا قدوة ومثالاً، فعندما تكون الإرادة قوية فكل أمنية تتحقق، وهذا ما كانت تعنيه روزا بالنسبة لكثير من النساء والرجال أيضاً، فقد كانت في نظرهم تبدو خليطاً من الغضب والحب.
يحكي الفيلم قصة روزا باليستريري المولودة عام ١٩٢٧ والمتوفاة عام ١٩٩٠.. واحدة من أشهر وأقوى النساء في المشهد الثقافي الإيطالي الشاسع، إنها أول وأشهر مطربة صقلية. كانت بصوتها وكلمات أغانيها قادرة على سرد رواية أرضها، وهي صقلية، بقوة روحية لا تصدق. لم تكن حياة روزا سهلة أبدا. عاشت منذ طفولتها حياة الفقر المدقع، والجوع والحرمان، في سن السادسة عشر تزوجت من مدمن على الكحول والذي خسر فيما بعد كل مهر ابنته بسب المقامرة. حاولت روزا قتله، وسلمت نفسها للشرطة. لكن الرجل لم يمت وخرجت روزا من السجن بعد بضعة أشهر.
عملت روزا في مهن متعددة من أجل إعالة ابنتها: وتنقلت بين محل صانع زجاج إلى جمع وبيع القواقع والتين الشوكي والسردين، ثم خدمة عائلة نبيلة وثرية في باليرمو، حيث ستتعلم كيفية القراءة والكتابة في سن الثانية والثلاثين. تحطمت بمقتل أختها على يد زوجها، ثم انتحار والدها. واصلت التنقل بين الوظائف والمدن، التقت شعراء ومثقفين، وبدات خطواتها في الغناء والكتابة والعزف، حتى صارت نجمة في قلوب الناس.
مخرجة الفيلم لم تتوقف أمام كل هذا، رغم أن عملها الفيلمي يعد دراسة متأنية متعمقة للماضي وبحثاً في الحاضر، لكنها اختارت محطات بعينها وتوقفت أمامها بحس فني قوي يكشف صلابة شخصية روزا ومدى تأثيرها على أجيال من النساء والرجال.. اختارت إيزابيلا راغونيسي محطات من حياة روزا تكشف موهبتها الموسيقية غير العادية، فمنذ صغرها، كانت روزا باليستريري تتمتع بجرس صوتي قوي ومبتكر سمح لها لاحقًا بأن تصدح بالأغاني الشعبية الصقلية بنبرة درامية عميقة. والتي بها تمكنت روزا باليستريري من التعبير عن صقلية، مصحوبة بصوت يصدح سخطًا على الجرائم والانتهاكات، مثل تلك التي تعرضت لها. وبفضل صوتها، الذي تغذيه شجاعة كبيرة، تمكنت من تحديد مصيرها، وتحرير نفسها من حياة ميلودرامية عنيفة.
تقول روزا بصوت مخرجة الفيلم بأحد مشاهده: كان أبي حين يسمعني أغني يعلق قائلا: «العاهرات وعروس البحور هن فقط الذين يغنين.. فأيهما تكونين..؟»
أيضاً اختارت المخرجة إيزابيلا راغونيسي عدداً من الشخصيات المتمردة اتخذوا من روزا قدوة فأخذت تستمع لحكاياتهن.. إحداهن تقول: «أنها محظوظة بزوجها وأولادها، أنها لو كانت قد تزوجت رجلا مثل أبيها لكانت قد علقته من الشرفة.» ثم تحكي عن أختها التي عاشت مع رجل كان يُهينها لمدة 26 عاما، وظلت تنصحها بأن تتركه، وألاَّ تدعه يسبب لها إهانة، فكانت الأخت الصغرى تجيبها: «لا.. إنه زوجي وأنا مغرمة به.. أنا أحبه،» إلى أن بدأت الأخت الصغرى قراءة الروايات فعرفت ماذا يعني الحب وفهمت حقيقته وجوهره.. هنا، أدركت أن العنف ليس حباً، أبداً.
بينما تقول امرأة آخرى: «في عائلتي كنت أُعرف (بالمجنونة)، لقد فعلت كل ما أستطيع القيام به ضد قهر الرجال للنساء من دون أن يكون لدي نافذة أو مفتاح للدخول إلى عالم الإنترنت أو الصحف أو الراديو أو التلفزيون.» إنها هي أيضا كان والدها يضربها. تتذكر تجربة من الطفولة أنها في إحدى المرات بدأت تبكي. سألته: «لماذا تفعل هذا بي؟» فأجابها: «فقط العاهرات هنا الذي يبكين.» تضيف المرأة: ليست الكلمة في حد ذاتها هي التي جرحتني، لكن حقيقة أن المرأة لا تستطيع، أو لا تمتلك تلك المقدرة على البكاء، إنه سلبني حق البكاء.. لكني أدركت حقيقة مهمة، أن أؤمن بقوتي، بأنني بمفردي الوحيدة القادرة على حماية نفسي.
فيلم «روزا.. نشيد الحوريات».. هو عمل وثائقي ممتع رغم ما فيه من ألم وحكايات مأساوية نعرفها خلال المقابلات. لكنه منسوج بمهارة، بفنية راقية، ومصنوع بعين تنحاز للمرأة، للموسيقى للإبداع، لذلك يمثل الفيلم تحية صادقة للمطربة الأسطورة روزا باليستريري، ويٌؤكد على أن خلال تجاربنا في الحياة والتحول الذي نمر به ندرك تمامًا إمكانية أن نكون كل ما نريده.