محمد جلال:صوت العرب - المغرب.
قدّم الفنان المصري"محمد جلال"مداخلة في ندوة حول مفهوم الرقابة في دول العالم، وذلك في ندوة اقيمت بمهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف،في المغرب،ننشرها في "صوت العرب للثقافة والفنون"،لما تضمنته من افكار مهمة.
بداية أود التحدث عن مفهوم الرقابة في دول العالم بشكل عام، فللأسف لا يوجد فيلم في العالم لا يخضع بشكل أو بآخر للرقابة، بداية من الجهات المنتجة أو الداعمة التي تقبل أو ترفض انتاج الفيلم حسب موضوعه، ومنها شركات كبرى ومنصات ذات سياسات وتوجهات لا تحيد عنها، ونهاية بسلطة الرقيب في الدول التي تعتمد هيئات رقابية على الأفلام.
ففي الشركات الكبرى في هوليود مثلاً لا يمكن انتاج فيلم يهاجم إسرائيل، فصاحب الدعم والمال أو المصالح هو الذي يتحكم فيما يقدمه.
وحتى نحن في مهرجاناتنا السينمائية العربية، نمارس دور الرقيب، فلا نستطيع عرض فيلم ينتقد أوضاع مخالفة للتوجهات والسياسات في بلداننا العربية أو يخالف تقاليدنا وأعرافنا، فلا يمكن لمهرجان عرض فيلم ينتقد البلد المقام فيه لحسابات سياسية واقتصادية قد تهدد إقامة المهرجان لدورات أخرى، أو ربما تؤدي لأزمات دبلوماسية بين البلدان.
الرقابة في حد ذاتها ليست شيئاً مذموماً ، فيجب أن يكون للمؤلف والمخرج رقابة ذاتية نابعة من ضميرهم المهني، فالمؤلف يجب أن يكون رقيبا على كل كلمة وكل حرف يكتبه، وألا يستخدم كلماته في ملء الدقائق والساعات دون جدوى تساعده لإيصال فكرته، وأن يدرك أن لكلماته تأثير قوي يفوق الحدود، وأنها ستخلد لأبد الآبدين، لذا يجب أن يكتبها بوعي وضمير، أما الرقابة التي تقف ضد حرية التعبير فهي ضعيفة، قد تنجح لوقت قصير، ولكنها لن تنجح أبداً على المدى البعيد، وبالرغم من ذلك فإنها قد تخلق مناخاً يسبب الخوف من انتاج أفلام جادة تناقش قضايا حقيقية، وتدفع بعض المنتجين للبعد عن المواضيع الجادة، ويضطروا لإنتاج أفلام خفيفة لا تحمل قضايا شائكة، خوفاً من خسارة أموالهم، مما يؤثر في قوة الصناعة ويؤدي لرداءة المحتوى المعروض وعدم قدرته على المنافسة عالمياً، ليصبح الواقع السينمائي ضعيفاً تضعف معه كل أدوات الصناعة وتطفو على سطحه أشباه المواهب، ويجعل المخرجون والمؤلفون الكبار يعزفون عن المشاركة في هذا المناخ الرديء ويفضلون الاعتزال.
وتمتد التعنتات إلى الأفلام الأجنبية التي يتم تصوير أجزاء منها في بعض الدول العربية، والتعامل معها وكأنها لابد وأن تخضع لثقافة تلك الدول، بينما الفيلم من أي دولة كانت بالتأكيد سيعبر عن ثقافته بغض النظر عن استخدامه معالم هذه الدول التي يتم التصوير فيها، وهذا التعنت يفقدنا مصدرا مهما للدخل بالعملة الصعبة، ويقتل فرص الإنتاج المشترك، مما يضعف الصناعة أيضاً.
وربما يظن البعض أنه في قرننا الواحد والعشرين لم يعد هناك مجال للمنع أو الحجب بعد الثورة التكنولوجية الرهيبة ودخول المنصات في الانتاجات الأكبر، ولكن الحقيقة أن هذه المنصات تمارس الرقابة ذاتها على المحتوى، سواء بإنتاجه أو عرضه طبقاً لتوجهاتها وسياساتها الداخلية.
بل والأكثر من ذلك أصبح للسوشيال ميديا دور كبير في منع الأفلام حتى قبل عرضها، فاستخدام التريند في توجيه العقل الجمعي نحو مواضيع معينة، جعل من السهل تفعيل رقابة مجتمعية من نوع فريد، وهو المنع قبل العرض والرفض قبل الاستماع وسد الأذن والأعين دون مبرر إلا ركوب التريند، والمثير للدهشة والمضحك المبكي، أنه إذا سربت نسخة من هذا الفيلم الممنوع مجتمعياً في فضاءنا الالكتروني على الانترنت، سيكون الفيلم الأكثر بحثاً والأكثر مشاهدة، فنحن نبحث عن الممنوع وكل ممنوع مرغوب، وينقلب وقتها قرار المنع لنقيضه ونكتشف أنه لم يكن حقيقي.
وبالنسبة للجهات الرقابية فينبغي أن تدرك أن قرار منعها لعرض فيلم، هو أكثر أسلوب دعائي له، وسيجعله الأكثر مشاهدة إذا تم عرضه على منصات، أو في مهرجانات سينمائية أو حتى رفعه على الانترنت.
أما إذا كان المنع للسيناريو نفسه قبل التصوير، فعلى المؤلف إيجاد حلول أخرى، لإيصال فكرته بشكل غير مباشر لتفادي منع فيلمه، وهو أمر استخدمه الكثير من السينمائيين ونجحوا ومروا بأفلامهم، وتمكنوا من إيصال أفكارهم.
وإن كانت رغبة المبدعين التفكير في إلغاء الجهات الرقابية الحكومية، (وهي بالمناسبة واحدة من جهات كثيرة كما سبق وعرضت)، فهو أمر لا يتم تحقيقه إلا بإرادة من الأنظمة والحكومات، أو بوعي شعبي له القوة في طلب ذلك.. وحتى يتحقق ذلك أقترح أن يتم انتخاب لجنة من السينمائيين والنقاد، تكون مختصة بحل أي نزاع ينشأ حول السيناريوهات أو الأفلام، وأن يختارها السينمائيون أنفسهم، وأن يكون لها قوة الفصل في هذه النزاعات، والتوصل لنصائح وحلول تكون لصالح الفيلم، وبالتالي الصناعة.
وأخيراً هناك حقيقة واضحة لا جدال فيها، وهي أن الفيلم جيد الصنع لن يستطيع أحد منعه أو حجبه عن الجمهور.. فلابد أن يجد طريقه، ولابد أن يحظى باحترام حتى من المختلفين معه، وجيد هنا بمعنى جودة قصة الفيلم وأسلوب سردها وكافة عناصره التقنية، من إخراج وتصوير ومونتاج وموسيقى، وأن تكون اختيارات المخرج واعية في جميع عناصر الفيلم، فإن تم منعه في بلده سيلقى الحفاوة في بلدان أخرى وسيحصد العديد من الجوائز وسيكون الأكثر مشاهدة، ولنا مثال جيد في السينما الإيرانية التي تخضع لرقابة شرسة، ومع ذلك حصدوا أكبر الجوائز العالمية، لأن أفلامهم جيدة الصنع وتمس الإنسانية.
لذا علينا في عالمنا العربي أن يتكاتف الجميع وأولهم المنتجين في البحث عن المواهب الحقيقية صاحبة الفكر ودعمها، وإنتاج أفلام تنافس عالمياً بجودتها وليس بميزانيتها فقط، وبالتأكيد ستعرف هذه الأفلام طريقها ولن تمنعها أي رقابة، وبمرور الأيام وتغير السياسات والتوجهات ستنطلق الأفلام الحبيسة فالسينما مارد قوي لا يعرف جدران أو حدود.