*الفضاءات المغايرة.. حريات مغايرة.
2024 ,25 تموز
خالد الرويعي :صوت العرب- البحرين .
عند التأمل في عنوان " الفضاءات المغايرة " لا يسعك حينها إلا أن تذهب إلى التجريب. لأن المغايرة فعل في جسد التجريب.. والذهاب نحو الفضاءات ما هو إلا ذهاب نحو الحريات التي هي صنو التجريب.
لكن، هل التجريب فعل ارادي أم فعل تكويني؟ هل نذهب إلى التجريب بوصفه شكلاً متفقاً عليه أم بوصفه انزياحاً معرفياً يفضي إلى ذهاب جديد ومختلف كشكل من أشكال الثورة ضد المفهوم وضد الشكل. أعتقد أن التجريب كيان معرفي يدخل ضمن دائرة صراع الأفكار والتحولات والارهاصات الثقافية والفكرية والفلسفية، فالتجريب في المسرح ليس اختياراً يرتكز على النموذج والآني بل هو خيار مطلق وحتمي ينتج المعرفة ويدفع بالمتلقي إلى إثارة السؤال الوجودي تجاه الانسان. أعتقد أن التجريب ليس فعلاً فرجوياً وأعني بالفرجوية هنا تجريدها من مفهوم المسرح وتحجيمها في بؤرة المتعة ومحاكاة رغبات الجمهور. 
لقد جاء التجريب في المسرح ليكون ضد الرغبة في الاساس لأنها تنتج الرتابة وتنتج مفهوم العبودية لدى الجمهور. فلم يعد المسرح صندوق المفاجآت أو قبعة المهرج ليخرج لنا المناديل أو الأرانب. بل أراد التجريب في المسرح أن يكون للجمهور مخيلة تلك الأرانب المذعورة وهي تفتش في السهول عن ملاذ يهون عليها أسئلة الشرك المنصوب لها من قبل صياديها. شخصيا هكذا أفهم التجريب. لأني اعتقد أنه ليس مقروناً بالمدرسة أو الاسلوب، انه فعل حياة ووجهة نظر حقيقية تجاه الانسان المعاصر وموقفه ازاء هذا العالم. إذ ليس مفهوماً أن تذهب للتجريب بوصفه ذهاباً فَطِناً. أو ذهاباً تتحدد فيه الخيارات.
وهكذا أجد الفضاءات المغايرة في أنها حريات مغايرة. ولأن الفضاءات عندما نذهب إليها تعني نظرة مختلفة عن شكل العلبة الايطالية فإنها تعني أيضا موقفاً ضد النسق، فالاخراج المسرحي عندما يذهب إلى هذه الفضاءات المغايرة لا يرى الاخراج فقط باعتباره نسخة مطابقة لشكل الاخراج على العلبة أو كأداة تعبير فقط. بل لأن الاخراج أيضا لعب دوراً مهما في مفهوم الجمال وليس منبرا للتعبير والتطهير كما يراد له دائما. فالعمل المسرحي في تكوينه لم يعد الموعظة التي ينتظر منها الجميع ذلك الخلاص او ذلك الصوت الناطق للذاكرة الجمعية.. من هذه الناحية علينا ان نرى الاخراج المسرحي بعيدا عن سجن التقاليد القديمة للمعنى الحقيقي لما وراء العرض. إنها عملية انتاج مفاهيمية جديدة لشكل المسرح في الفضاءات المغايرة. ولذلك فإن تطور اشكال المسرح مرهون بقدرة المجتمعات على التغيير.
 " الإخراج في الأساس يعيد كتابة النص، يعيد كتابة المكان، يعيد كتابة الزمان، يعيد كتابة السينوغرافيا، ليضعها في مناخ من خلال أفكار دلالية إيحائية أو مباشرة . 
ولأن المسرح سؤال شائك من بين أسئلة الإبداع الكثيرة والصعبة، وهو أصعبها في محاولة لكسر تقليدية المسرح، والإتجاه نحو بنية تتوحد فيها مختلف العناصر المسرحية من الممثل، الصالة، المتفرج، النص، السينوغرافيا في الإتجاه نحو الحدود بين مجمل تلك العناصر . 
كيف نتوجه إلى الفضاء المسرحي من ناحية معمارية؟ المكان المسرحي في علاقته التي نحددها، تلك المعمارية بين الجمهور والعرض في كيفية إستعمال المخرج للفضاء المسرحي المتصل بالعرض الذي يندرج في إعطاء رؤية شاملة ليس للمسرحية فحسب، إنما للممارسة المسرحية بشكل عام، والفضاء المسرحي في حد ذاته ليس رواقا أو بهوا أو قاعة للعرض فحسب؟ بل هو مفهوم واسع المعالم يستوعبه العقل، يحيل عليه الأحاسيس فينجز، ثم تصقله الطباع فيصبح في الممارسات اليومية. والتصور الذهني إذاً هو بمكان للحركة الدرامية فحسب بل فكرة في الرأس أيضا. والفضاء المسرحي ليس فراغا بل هو تناغم بين العقل والروح والجسد . لكن هل العين قادرة اليوم على رؤية من فتحة أكبر وأدق؟؟ "(1).
عربياً وبحرينياً على وجه الخصوص، يعتبر مسرح الصواري أحد الفرق التي تمردت على الخشبة منذ زمن بعيد،  فعبدالله السعداوي في ذهابه نحى بتجربته إلى محاكاة المسرح الفقير عند جروتوفسكي أما إبراهيم خلفان خلفان فتمرد على مفاهيم المسرح التقليدي الذي درسه في الاكاديمية فذهب كليهما إلى نحت تجربته. 
السعداوي ذهب إلى الأماكن العارية والغير مألوفة، ذهب إلى إعادة اكتشاف المكان من جديد بناء على قراءته المختلفة، ففي مسرحية " الصديقان "(2) عام 1988م يقرأ مفردات العرض بناء على قراءته التأويلية لفضاء المكان، فالعرض يقدم في صالة عارية ويتحلق الجمهور حول الممثلين. ثم " الجاثوم " (3) عام 1989م الذي جعل المتفرج ينظر من نوافذ صغيرة مصنعة من القماش.
أما في مسرحية ”اسكوريال“(4) عام 1993م يذهب السعداوي إلى بيت أثري قديم يمثل حالة ثقافية بالنسبة إلى واقع البحرين وواقع قصر اسكوريال في اسبانيا الذي بناه فيليب الثاني ملك إسبانيا (1556-1598). فمثل هذه البيوت بالنسبة إلى الحالة البحرينية والتي يرجح أنها بنيت قبل 150 عاماً تقريبا لا يمكن أن يسكنها عامة الشعب، فهي بيوت لعلية القوم وتجاره وهو الحال نفسه بالنسبة إلى قصر الاسكوريال في اسبانيا فهو لا يمكن ان يسكنه إلا علية القوم وملوكه.
إذاً هذه القراءة للمكان ببعدها الثقافي تنتج عنها قراءة واعية للمكان حيث تمركز السلطة وحالات القهر. في تعامله مع المكان هنا، يشير السعداوي إلى المكان باعتباره بيئة حاضنة ذات دلالة لفهم المسرحية وهو الأمر نفسه عندما تمت إعادة العرض في مهرجان القاهرة التجريبي عام 1993م بوكالة الغوري التي بنيت في آخر العصر المملوكي إبان حكم أبو النصر قنصوة الغورى ( 1501 - 1516). كان مهماً بالنسبة إلى السعدواي مرجعية الامكان التاريخية وهويتها.
أما في مسرحية القربان " مأساة الحلاج "(5) عام 1996م يذهب إلى إحدى القلاع الكبيرة وهي قلعة " عراد " التي بنيت في القرن 15، وهي حصن بني على الطراز الاسلامي.
يبدأ العرض في الساحة الخارجية المواجهة للقلعة حيث الناس والبحر وصيف البحرين الحار، إنها رموز تتجلى في شخصية الصوفي حيث الدعوة والتمرد على خرقة الصوفي التي حبسته من أن يكون صوت الناس، ثم ينتقل العرض بانتقال الاحداث فتبدأ المحاكمة داخل القلعة وهو ما اراده السعدواي، حيث وضع القضاة متربعين على أسوار القلعة العالية والحلاج وحيداً مع المعذبين أسفلها والجمهور متحلق هو الاخر مع مع هؤلاء.. وكأن سلطة المكان وسلطة القضاء ستبقى مهيمنة على هؤلاء المعذبين باعتبار أن المكان سلطة.
 إن السعداوي في ذهابه إلى الفضاءات المغايرة كالبيوت والقلاع الاثرية إنما يعيد انتاج قراءته للمكان بوصفه معنى ثقافي متجذر في ذات المتلقي.
أما تجربة ابراهيم خلفان فهي حالة تعيد انتاج الفضاء الملائم للعرض وتذهب باتجاه اعادة قراءتنا للعرض المسرحي كمسرحية " لقمة الزقوم "(6) عام 2000م التي عرضت في مطبخ صغير تابع لإحدى الصالات وعرض " الليلة العلمية "(7) عام 1997م التي تحلق الجمهور حول طاولة العرض الوحيدة.
أما في تجربتي، فلا أستطيع أن أراها دون التعرض لعلاقتي مع الفضاء، لأني وببساطة أشك في كل شيء.. في ذات المكان الذي سيحوي العرض، أشك بمعنى أحتاج لأن أتحاور معه فنيا وصولا بالمعنى، ربما لأنني أريد أن يكون لكل شيء سبب ما، وهذا بالضبط في تعاملي مع الحركة في ذات المكان، لأني أعتقد بأن الحركة يجب أن لا تدخل في الاعتيادية لتبقى اعتيادية فحسب، أجد بأني أستنطق ما لا أراه احيانا، حضور الممثل في تجاربي أحد الركائز الرئيسية التي أهتم بها، فهو ليس ممثلا فحسب بل جزء من المكان الذي ينتمي له ذات العرض، الممثل يمنحني المخيلة في حين، وفي حين آخر يمنحني المعنى، يمنحني ذلك الحضور القوي للأشياء في المكان. احاول دائما أن لا آتي بالجاهز اولا.. أريد ان أرى ماذا لدى الآخرين - الممثلين- وحضورهم في المكان الذي ينهش المخيلة.. وبذلك أعرف أن كانت تلك المخيلة قادرة على تجاوزي لتنتقل إلى من معي.
ففي كل تجربة جديدة أرى أن الفضاء يطاردني من فكرة إلى أخرى، لم تعد الخشبة تعنيني، الخشبة لا تعين على المعنى ولا على المخيلة ولا على ما يمس المتلقي، الرؤية الأحادية بالنسبة لي قاتلة، المقاعد التقليدية التي يجلس عليها الجمهور في هيبته كما لو أنه يأتي لمحاكمة هو من سينتصر لها أو يخذلها أيضا قاتلة، لأني أشعر بأن على الجمهور أن يدخل معي في التجربة عن قرب، أن يكون الفاعل في حين وفي حين آخر المشاهد، كنت أرى دائما بان الجمهور جزء من المكان الذي ينتمي له العرض.
حضور الفضاءات المغايرة في تجربتي باتت جلية عبر العروض التي قدمتها، الفضاء المختلف لعرض مختلف، في تجارب سابقة كنت أعتقد أنه يجب أن تتحاور مع الفضاء وفق هندسته المعمارية وشروطه، أما في تجاربي الأخيرة أعتقد أن الفضاء شريك في التجربة وليس بسلطان عليها.
يأتي المخرج أو السينوغراف امام باب النص المسرحي الذي تمتد خيوطه باختلاف قراءته، لكن هذا المخرج أو السينوغراف يقطع هذه الخيوط لمجرد الجاهز من الأشياء أو لمجرد ما يمليه عليه المخرج في أول جلسة، فنراه يختزل حالات العرض بالاتكاء على جهوزية الفضاء البديل كالاماكن التاريخية أو الصالات متناسياً أن لكل فضاء بديل خصوصيته. فالفضاء المفتوح - الاماكن التراثية نموذجا - تغريك بقوتها وحضورها، واذا لم تستوعب هذه القوة سيكون هذا الفضاء مجرد خلفية، إذ لا يمكن التعامل مع الفضاءات البديلة بعقلية الخشبة، إذ أنك بخروجك إليها يعني أن قواعد اللعبة تغيرت حتماً، ان استثمار الفضاءات المغايرة من أجل التغيير قد لا تعني شيئاً عندما تكون فخاً. فإما أن يكون الفضاء البديل مكملاً للتجربة أو مفيداً لها. 
إن فكرة استثمار العناصر البصرية - مثلاً - وتوظيفها ليست بالأمر، لكن مدى توافقها مع العرض المسرحي هي المسألة المهمة في ذلك - فمثلا- حساسية الضوء المصنع تختلف كثيراً عن حساسية الضوء الطبيعي في مكان العرض. الصوت وتقنياته أيضا، ماذا نريد أن نُسمع المتلقي؟ هل الصوت البشري؟ التقني؟ المُحسن؟ هل الصوت بتقنية المسرح المنزلي هو ما نريد؟ أم ماذا؟ أحجام الممثلين وعددهم. شكل الحركة وشكل جلوس المتلقي. كلها ضمن صنيعة العرض.
لا يوجد على المسرح اي شيء بمحض الصدفة. إلا إذا كان ذلك مايريده العرض المسرحي، ففي الصدفة هناك (رسالة) وعلاقات وشبكات يتم بناؤها بين العرض (كمرسل) والمتلقي (مرسل إليه) وهي حالة أشبه باللعبة المسرحية يكون فيها العرض مرحلة من مراحل اختبار ردود افعال المتلقي. فالتوظيف الدلالي والجمالي في الرؤية البصرية لا تتحقق إلا إذ توافرت عدد من القيم الجديدة لعصر جديد. والعناصر البصرية عليها أن تتماهى مع الفضاء المسرحي بما يضمن للعرض نسيجاً مترابطاً وخلاقاً في الآن نفسه. 
أيضا هنالك فنون الكتابة، إذ لماذا تظل حبيسة التقاليد الكتابية؟ أليس من حق النص المسرحي أن يتمرد على الاشكال الجاهزة؟ أليس من حق النص المسرحي أن يتعاطى مع التجريب أيضا وفقا لمخيلة الفضاءات المغايرة. إن التفكير في كتابة النص المسرحي وفق منطق فهمنا للاشياء لا يعين على ممارستنا للتمرد في الكتابة المسرحية، ولريما تكون محاولة صنع الجمال في الكتابة هو ما قد يثري المواضيع الخلاقة.
في المسرح أنت بحاجة دائما إلى من يتبنى فكرتك الفنية وأقصد هنا بالفكرة، طبيعة العمل والنوعية في آن واحد، ثمة أشخاص محرضين، باستطاعتهم قراءة ما تراه دائما، وهذا بالضبط ما أحاول الوصول إليه والحفاظ عليه، العملية المسرحية ليست رهنا بالعمليات الحسابية والمعادلات ولكنها رهن بمجموعة تؤمن بما لديها دائما، المسرح هو 5 أشخاص أوربما أقل أو أكثر في تحقيق عملية مسرحية متقدة، الفضاء واحد من هؤلاء.
أمام التجربة.. أجد أنه من الضروري الالتفات إلى مسألة بسيطة لكنها في غاية التعقيد، وهي أن الفن يهتم بإعادة صياغة الجمال التي تنشأ بين الإنسان والمحيط الذي يعيش والتي لابد أن يعادلها تطوا من ناحية الجهد البشري والذي يوازي بذلك حركة التفكير مجتمعياً، فعبر أساليب التفكير في النظرة الجمالية للعرض سيحتاج المجتمع إلى مشاريع تنموية يكون المسرح رائداً من روادها لاستنهاض حواس أفراد المجتمع عبر وسائل عدة لكيفية التعامل مع هذه التحول الجديد.
في التجربة.. نعيد انتاج أسئلتنا، نعيد صياغة رؤيتنا إلى العالم، تجربة الخروج من أسر الخشبة والانطلاق لفضاءات أخرى ورؤيتنا للجمال وتأثيث الفضاء من جديد، محاور حق لنا أن نتحاور معها، فالمسرحي في لحظات تجليه باستطاعته أن يملك الكون بأسره ولا حياة للمسرحي خارج ذلك كله، أنه يستنطق العالم تجاه ما يحدث في هذا العالم..وفوق ذلك كله كانت ثمة أسئلة استدرجها وتستدرجني تجاه اعادة قراءتنا للعرض المسرحي واعادة انتاج أعيننا التي نرى بها الأشياء، إعادة تدمير التراكيب الجاهزة التي تقمصناها غصبا نتيجة الحجر المعرفي – اللاإرادي - من جميع الجوانب، إن الخروج إلى الفضاءات المغايرة يمنحنا حريات مغايرة فهي تمنحنا الحرية لإعادة اكتشاف انفسنا من جديد وبرؤية جديدة.
*ورقة من الندوة الفكرية "تجربة مسرح الفضاءات المغايرة في الوطن العربي"/مهرجان الرحالة الدولي للفضاءات المسرحية المغايرة – الاردن 2024.
(1) سأقـول عـن مسرحية " أخبار المجنون " لخالد الرويعي 2005 - كتاب المسرح قلب الانسانية المشترك - عبدالله السعداوي.
(2) تأليف: محي الدين زنكنه - نادي مدينة عيسى.
(3) تأليف: يوسف الحمدان - نادي مدينة عيسى.
(4) تأليف: ميشيل دي جليدرود - مسرح الصواري.
(5) تأليف: صلاح عبدالصبور - مسرح الصواري.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون