مسلسل "الدوار العاشر" .....الصمت الإعلامي!!!
2024 ,17 نيسان
رسمي محاسنة: صوت العرب – الأردن.
لو تمت الدعوة من أي جهة مهما كان مستواها، لمناقشة موضوع الدراما التلفزيونية الأردنية، فسوف نجد حضورا استثنائيا من فنانين وصحفيين وإعلاميين و "مؤثرين"، ومعجبين، والكل يتسابق ويتباكى ليحلل أسباب تراجع الدراما الأردنية، وكل له أسبابه، لكن عادة ما يكون التركيز على تحميل المسؤولية على الدولة، وجهاتها المنتجة، وتحديدا مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأردني، لانها هي التي كانت تنتج أعمالا درامية منافسه، ونجوما إلى العالم العربي.
لكن كل هؤلاء "المنظرين" والغيورين على الدراما التلفزيونية، احتجبوا، عندما أنتجت المؤسسة هذا العام مسلسل "الدوار العاشر"، ولم نتابع أي قراءة حقيقية بمستوى العمل، واقتصرت أغلب التعليقات من هواة السوشال ميديا، أو قراءة لم تلامس المضامين الفكرية والجمالية في العمل.
ويُطرح سؤال ملحّ: ماذا نريد؟ ينبع هذا السؤال من حالة التجاهل المُحيطة بعملٍ جديد يرسي معايير مدروسة للدراما التلفزيونية ويُؤسس لحالةٍ راقية تستحق البناء عليها. ونرى في المقابل، اهتمامًا واسعًا من قبل وسائل الإعلام العربية بمسلسلات رمضان، حيث تُخصص مساحات واسعة لمناقشة الحلقات السابقة ومتابعة شخصيات المسلسلات وأحداثها. وترافق عروض هذه المسلسلات قراءات نقدية وانطباعية واسعة ، وإن تفاوتت في مستوياتها.
إن هذا الصمت المُحيط بالمسلسل يُثير الدهشة، خاصةً في ظلّ "الضجيج" الحاصل حول حرص الجميع على وجود دراما أردنية مُتميزة، وتسابقهم في طرح النظريات والاقتراحات والأفكار.
"الدوار العاشر" عمل درامي توافرت له شروط النجاح، بدءا من إرادة تقديم دراما مميزة من قبل إدارة مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، وكانت البداية باختيار نص الدكتور" محمد البطوش"، الذي خرج على النصوص السائدة، المكررة والمرتبكة والهلامية، فكان "د. البطوش" وهو يرسم سيناريو العمل، يلتقط ويرصد بوعي قضايا ساخنة تمس واقعنا، وأن يكتب بتقنية عالية، من خلال فهم عميق بأن السيناريو هو الأساس الفكري الذي يبنى عليه العمل الفني، في نقل حكاية النص المكتوب، إلى معادل بصري، دون إرباك أو فذلكة،فكان السيناريو نقطة ارتكاز في العمل، بعيدا عن الثرثرة التي اصبحت غالبة على الدراما العربية.
ويأتي المخرج "محمد لطفي" لينقل الحكاية بسلاسة، وبذكاء يمزج ما بين رؤيته البصرية، ومخيلة النص، وتتحرك الكاميرا بحيوية في اتجاهات تطور الأحداث واشتباكاتها، ونمو الشخصية وفق موقعها ورؤاها ومصالحها، في ربط ذكي بين مكونات المجتمع، سواء بتناغمها أو تناقضاتها.
حيث الاعتناء بالصورة، واللقطات وحجمها وزواياها، والإيقاع الداخلي للشخصيات والعمل بشكل عام، في حركة حيوية للكاميرا، بعيدا عن الاستزادة، واللغو البصري، ربما لم تتعود عين المشاهد على هذا الإيقاع، والتنقل بين ألاحداث على التوازي، وهذه البانوراما من الأحداث المختلفة التي كانت تجري بعيدا عن القفزات البهلوانية.
 ويبرز في المسلسل الاعتناء بالمكان كبيئة حاضنة للحدث، سواء في حركة الكاميرا الخارجية التي ظهرت بها المدينة "عمان" كما لم نرها من قبل في الدراما، أو الانتقال الى صراع الشخصيات وسلوكياتها، وبيئتها، ليكون المكان في المسلسل، عنصرا رئيسيا، وليس مجرد مكان عبور للشخصيات.
واستطاع المخرج "لطفي" أن يمسك بعناصر العمل، وأن يوظف الصورة تماما لتحقيق الأفكار المطروحة، فكان هذا الأداء المتوازن والمتناغم والمنسجم مع طبيعة كل شخصية.
    لعبت مشاركة القوات المسلحة دورًا أساسيًا في إنجاز مشاهد لم تكن لتتحقق لولا مشاركتهم.، وليظهرهم المسلسل لأول مرة كعناصر رئيسية وفاعلة، وفق الخط الدرامي المرسوم لهم، وليس على الهامش أو مجرد ديكور وكومبارس كما في أعمال سابقة.
 
ونسجل للعمل جرأته في طرح قضايا ومن خلال مؤسسة رسمية، حيث آفة المخدرات، بكل اطرافها،سواء التاجر او المتعاطي او المروج، او رجال المكافحة،في توصيف للمناخ الذي تتحرك فيه هذه التجارة اللعينة،ويصور المسلسل الشوارع الخلفية للعاملين بها، من اباطرة هذا الشر،او ضحايا الادمان، وضحايا تصفيات التجار او المواجهة مع رجال مكافحة المخدرات،حيث أبرز المسلسل هذه النماذج بكل إجرامها، وفي المقابل الجهد الكبير للقوات المسلحة الأردنية ومكافحة المخدرات، وذلك عبر مشاهد تم تنفيذها بإبداع بصري، في محاكات لمواجهات الواقع ،وبالصورة التي تؤثر على وجدان المتلقي.
وإلى جانب المخدرات هناك طروحات جريئة، في قضايا سياسية واجتماعية، والتعليم والمدارس الخاصة،بموازاة الاحداث الرئيسية للعمل.
الدوار العاشر" عمل يستحق قراءة وتحليلًا دقيقًا لكل مكوناته، لكن نعود إلى السؤال المُحير الذي لا أجد له إجابة: لماذا يُقابل هذا العمل، الذي يُجسد المستوى الذي ينادي به الجميع، بمثل هذا التجاهل، بل ونرى هجمات عليه في بعض الأحيان، هل ينبع هذا التجاهل من داخل العمل الفني نفسه؟ أم أن هناك أسبابًا أخرى؟ لدرجة أن أحد المشاركين في العمل كتب كلامًا لم اجد له اي تفسير.
والآن نتمنى على إدارة التلفزيون أن تضع في اعتبارها ان تجتهد بتوزيع العمل لمحطات ومنصات عربية، حتى يكون متاحا للمشاهدة، وان لا تكتفي بجمهور شهر رمضان، لان العمل يستحق، وهو أكثر نضجا فكريا وفنيا من كثير من الأعمال الدرامية العربية، وأن يبدأ التلفزيون الأردني من هذه اللحظة بالتحضير لعمل درامي جديد، استكمالا لهذه الانطلاقة المهمة...
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون