2024 ,29 تشرين الأول

الفنانة الزنجبارية فاطمة بنت بركة (بي كيدودي)
د. سميرة أبو طالب:صوت العرب - القاهرة.
بعد عقد من الزمن على رحيل مغنية زنجبار الشهيرة " فاطمة بنت بركة" الملقبة بـ" أم كلثوم أفريقيا"، إلا أن حضورها على الساحة الغنائية والإنسانية يزداد توهجا؛ تماما مثلما كان صوتها يزداد حلاوة مع مرور الزمن عليه، وهي التي استمرت في الغناء لقرن من الزمان، ورأت أن غناءها وأنفاسها شئٌ واحدٌ؛ يتوقف الأول إذا انقطعت الأخيرة، وعلى ذلك سارت رحلتها منذ أن بدأت الغناء في قرية "مفاجيمارينجو" التابعة لإقليم زنجبار بتنزانيا، لم تتوقف عن الغناء لحظة، ولم تتوانى عن تعلم الجديد في مجال الغناء والموسيقي، حتى حين تزوجت وهي في الثالثة عشرة من عمرها، وظن الجميع أن هذا آخر عهدها بالغناء، وأن هذا الصوت الشجي الذي يغني مورثهم الشعبي، ويتنقل به ومعه في أسواق زنجبار، سيتوارى خلف أبواب الحياة الزوجية، ويسكن إلى الأبد في تفاصيل هذا المنزل الجديد الذي انتقلت إليه، ولكن بائعة الفخار الصغيرة التي نشأت في كنف والدها بائع جوز الهند، حطمت أسوار عزلتها وتمردت على هذه الزيجة مبكرا، ففرت مع إحدى الفرق الموسيقية التي كانت تجوب قريتها، لتأخذها الموسيقى خارج الحدود والمساحات الضيقة.
بين أم كلثوم مصر..وأم كلثوم أفريقيا.
ينطوي هذا اللقب الذي اختاره الأفارقة لـ" فاطمة بنت بركة" لتكون "أم كلثوم أفريقيا" على تقدير لمسيرة كوكب الشرق " أم كلثوم"، أو " فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي" التي ولدت هي الأخرى بإحدي القرى المصرية التابعة لمحافظة الدقهلية وهي قرية "طماى الزهايرة"، وبالرغم من هذه المساحة التي تفصل بين القريتين والبلدين اللذين تستقر بهما هاتين القريتين، وأيضا اختلاف لغة الغناء التي اختارت كوكب الشرق "أم كلثوم" أن تكون عربية فصيحة، ولكبار الشعراء في مصر والوطن العربي، وأن تكون هذه القصائد المغناة إزكاءً للروح الوطنية في الكثير من اللحظات المفصلية التي مرت بالوطن، وأن تكون في مجموعها معبرة عن الوجدان الجمعي في أرقى معانيه، إلا أن "أم كلثوم أفريقيا " التي تجيد اللغة العربية، اختارت اللغة السواحيلية كي تنطلق من خلالها للتعبير عن مجتمعها وأن تكون صوتا للكادحين فيه، يستعيدون من خلاله لحظاتهم المفقودة ويرددون معها هذا الإرث الفني الشعبي العربي والسواحيلي.
وليست النشأة رقيقة الحال والخروج من مجتمع ضيق إلى عالم أرحب تتنفس من خلاله الموهبة وتزهر هي وجه الشبه الوحيد بين الفاطمتين، أو "أم كلثوم مصر" و" أم كلثوم أفريقيا"، بل في تلك الاختيارات التي شكلت مسيرة كل منهما، والتي لا تخطئها العين للوهلة الأولي في متابعة حياتهما، وهما اللتان مدا جسور الوصل بينهما وبين مجتمعهما عبر إيمان عميق بأن الفنان صاحب رسالة في المقام الأول، وأن هذه الرسالة يجب أن تترجم إلى دور مجتمعي داعم، سواء كان هذا الدور بإتاحة الفرصة أمام مواهب جديدة أن تنمو وتعبر عن طموحاتها، أو في تلك الخطوات التي تراعي البعد الاجتماعي للفئات البسيطة والكادحة، وهو ما نراه أيضا في كلتا المسيرتين؛ فكوكب الشرق أم كلثوم قدمت على ساحة أغانيها العديد من الملحنين الجدد وأصحاب الكلمة من الشعراء النابهين، وقامت بدور بارز في دعم المجهود الحربي لبلادها في إثر نكسة منيت بها مصر عام 1967، كما اتجه تفكيرها إلى إقامة مشروع خيري يُعنى بالأيتام ويأخذ بأيديهم، وبالمثل كانت "أم كلثوم أفريقيا" تتبنى المواهب الموسيقية الشابة وتعلمهم الموسيقى والطرب على نفقتها الخاصة، وتحتفظ لها الذاكرة الأفريقية بهذا الدور الإنساني الجبار في رعاية الأيتام وحفر الآبار في المناطق القاحلة والفقيرة في زنجبار ومعالجة مرض الربو، كما قامت بتأسيس حركة unyago لمساعدة الفتيات السواحيليات على الانتقال من سن الطفولة إلى سن البلوغ، وكانت أغانيها للفتيات المقبلات على الزواج بمثابة النصيحة في قالب غنائي محبب، وصوت ارتبط به وجدانهم، فكانت بهذا الدور المجتمعي راعية الوجدان الأفريقي، والجسد الذي طحنته الظروف القاسية.
لقد أثبتت " أم كلثوم مصر- أفريقيا" أن الشعوب حين تختار صوتا معبرا عنها، فإن اختيارها لهذا الصوت لا يخلو من هذه الرسالة والدور المجتمعي الذي يقوم به الفنان مخلصا في انتمائه لهذا المجتمع ومستشعرا لنبضه في كل كلمة يتغني بها، محافظا على تقاليد هذا المجتمع، ومراعيا لذائقته في تلك الاختيارات التي يقدمها، وقد جاءت كلمات "فاطمة بنت بركة" أو "أم كلثوم أفريقيا" و" قرنفلة زنجبار"، لتكون بمثابة الوثيقة الحية على تلك المسيرة وهي التي قالت:" لم أغني بأجر ولم أمدح حاكما، ناصرت كفاح شعب جنوب أفريقيا والشعوب الأفريقية لأجل الحرية"، وتظل كلماتها هي الصدى الممتد لتلك المسيرة التي جسّدت انتماءً حقيقيا لموطنها ولصوتها الذي ظل يصدح لمائة عام من حياتها، وهي التي فارقت الحياة عن 113 عاما، لم يخفت بريق صوتها طوال هذه الفترة، وإذا كانت الجوائز العالمية قد عرفت الطريق إليها، وسجلت احتفاءً كبيرا بمساهمتها الاستثنائية في الموسيقي والثقافة بزنجبار، فإن مشهد الرحيل عام 2013، وما سجلته الشعوب الأفريقية في وداعها بجنازة شعبية حاشدة حضرها الرئيس التنزاني آنئذ، ستظل الاحتفاء الحقيقي بتلك المسيرة التي حفرت مفرداتها في قلوب الملايين، وسجلتها السينما الوثائقية في فيلهما المهم" As Old As My Tongue "، كما احتفظت بها الذاكرة الأفريقية عبر ألقاب عديدة، تجسد عمق الشعور الجمعي الأفريقي والعالمي بهذه السيدة التي كرست حياتها لأفريقيا وإنسانها الكادح، فكانت لديهم : " ماما أفريقيا"، و"الجدة الصغيرة" و"ملكة الطرب الأفريقي" و" القرنفلة السوداء" و" الحسناء الفقيرة" وأيضا " بي كيدودا"، ذلك الاسم الذي اشتهرت به، وتركت الراية لمن يأتي بعدها متمثلا تلك المسيرة، وباعثا للأمل عبر كلماته وألحانه مثملما كانت "الفاطمتين": فاطمة مصر، وفاطمة زنجبار، ليكون الاسم مناصفة بينهما، ودالا على مسيرة غناء وانتماء لـ" أم كلثوم مصر- أفريقيا.