الشيخ حسين شحادة: حيرة وأسباب
2022 ,19 حزيران
الشيخ حسين شحادة ود.عبدالحسين شعبان.
*د.عبد الحسين شعبان.
صوت العرب: بيروت – لبنان.
 
" أوقفني فــي الرحمانيــة قال: اجلس في خــرم الإبرة ولا تبرح 
وإن مرّ عليك الخيط لا تمسّه، وافرح فإنني لا أحبّ إلّا الفرحان"
 - النفري -
ما من دين سيء، هناك بشر سيّئون، بهذه البساطة يعرض لك الشيخ حسين شحادة أفكاره الدينية ونظرته الواقعية للفقه، لأنه يُدرك مثل فيكتور هوغو، طالما هناك جهلٌ وبؤس على الأرض، فثمة شرٌّ وظلمٌ. وإذا كانت روائع الأدب العالمي تتمثّل في "الألياذة" لهوميروس و"الكوميديا الإلهية" لدانتي و"دون كيشوت" لسرفانتس و"فاوست" لغوته، فإن رواية "البؤساء" تعتبر أهم رواية فرنسية معاصرة، وهو الأمر الذي حاول هوغو معالجته كتحدٍّ، لاسيّما في البحث عن المأساة والعنف والجهل وانعدام أو ضعف فرص التعليم.
احترتُ أكثر من مرّة وأنا أمسك القلم لأكتب عن أخ عزيز وصديق حميم، وأسباب حيرتي عديدة: 
الحيرة الأولى - أنني في حضرة صاحب مقام وليس من المناسب أن أكرّر ما يُقال في مثل هذه المناسبات من مجاملات وكلمات ثناء وإطراء، فالرجل ليس بحاجة إلى ذلك، كما أنني لم أعتدْ على مثل هذا الأسلوب الذي لا أُحسنه واللغة التي لا أجيدها، فالشيخ حسين شحادة على أعتاب السبعين من عمره، وقد خلّف وراءه عالماً مترامي الأطراف من العمل والنشاط والإنجاز، كتابةً واجتهاداً وفقهاً وتنظيراً، وهو صاحب رؤية جديدة في علاقة الدين نصوصاً وطقوساً وممارسات بالواقع، والمقدس بالعملي والديني بالاجتماعي والسياسي بالثقافي، في إطار منظومة تكاملت على مدى زاد على خمسة عقود من الزمان، وما يزال.
ومثل كل إنسان يبدأ حياته باليقينيّات في معظم الأحيان، لكن هذه اليقينيّات الأولى سرعان ما تتعرّض للفحص والتدقيق والاختبار، بعضها يصمد والآخر يتبخّر أو يضيع عند منتصف الطريق أو أن الحياة لم تزكّه أو تجاوزته وإن تشبث به البعض سيتحوّل إلى وهمٍ أو يصبح قناعاً تبرّر باسمه سلوكيات لا إنسانية، ناهيك عمّا يمثله من جمود وسكونية لا تريد رؤية الحقائق وكأنها مصابة بعمى الألوان، وكثيراً ما اكتشف أصحاب اليقينيّات المطلقة سراب ما كانوا يركضون وراءه حيث تبدأ مرحلة التساؤلات.
  كانت الخطوات الأولى للشيخ حسين قد بدأت مع الإيمانية التبشيرية الضيقة إلى التساؤلية العقلانية المفتوحة، حيث كانت شراراتها النقدية الأولى في النجف، التي علّمته كيف يفتح النوافذ ولا يغلقها، بل يترك الأبواب مفتوحة أيضاً حتى وإن كانت مواربة، فمنها يدخل نور الفكر ونسيم المعرفة، مثلما تدخل الشمس والهواء.
 
البرق والمرآة
الحيرة الثانية - من أين أبدأ؟ وماذا أريد أن أقول؟ وعلى أي قاعدة يمكن البحث، وقد اخترت المقاربة الآيديولوجية مدخلاً فلم ينظر الشيخ حسين شحادة خلال العقود الثلاثة الأخيرة في كتبه ودراساته ومقالاته ومحاضراته، وأضيف إليها حواراتي ومطارحاتي المتواصلة معه، إلى العالم والحياة من خرم الإبرة أو ثقب الأيديولوجيا، وهذه الأخيرة إسلامية أو علمانية، يسارية أو يمينية، دينية أو غير دينية، عالمها زجاجي هش وبارد وجاف وسقفها واطئ ونورها خافت لا يستطيع تبديد الظلمة أو إنارة الطريق، فقد أدرك وبوعي متصاعد أنها لا تولّد سوى الضغائن والأحقاد والكراهية بادعاء امتلاك الحقيقة والزعم بالتسيّد بحجة الأفضليات، وبالتالي سيكون من حقها استخدام جميع "المحظورات" طالما تتمتّع بهذه المزايا، حيث تسوّغ لنفسها حتى إفناء الغير أو إقصائه، لأن العدل والقانون والله ومصالح الكادحين والفقراء والحزب والثورة ستكون معها حسب تبرير اتجاه كل آيديولوجية.
وكان الشيخ حسين قد اكتشف وهو في بحثه المضني طيلة سنوات، وليس دون معاناة وأخطاء ورهانات سياسية وغير سياسية، أن الآيديولوجيا، سجن لا يمكن للإنسان أن يقنع بقبول العيش فيه، لأنها في نهاية المطاف سوف تختطف العقل وتعتقله إلى غير رجعة كلما استحوذت على الإنسان وتمكّنت منه فلم يعد يرى سواها، وتميل الحقيقة حيثما يميل وسيعلّق شمّاعة كل المساوئ على الغير، الآخر، المختلف، الخصم، العدو، هكذا بكل بساطة يمكن إلغاء العقل بتقريرية مسبقة،، والعقل هبة ربانيّة لا غنى عنها للمؤمن الحقيقي ولكل باحث عن الحقيقة. 
وكنّا نتبادل الرأي ونتفق ونختلف بمحبة وألفة، جوهرها: أن العالم تغيّر كثيراً ولا يمكن أن نحبس أنفسنا في قوالب وأطر صغيرة، فهو واسع ومتنوّع وتعدّدي ومختلف، وهذا الاختلاف رحمة وغنى ومعرفة وإضافة إنسانية لتداخله وتشابكه وتراكبه، بحيث لا يمكن فصمه أو فصله عن بعضه، ويبقى الإنسان أخ الإنسان والعدو المشترك هو الظلم والاستغلال والتمييز ومحاولة الهيمنة وإملاء الإرادة.
المدينة والإلهام
الحيرة الثالثة - كيف سأكتب عن الشيخ حسين دون أن أكتب عن النجف، وهو الذي نهل من منابعها في بدايات شبابه الأول، فمثلما ينتمي الناس إلى مدنهم، فالمدينة تنتمي إلى ناسها أيضاً، وهم يصنعونها مثلما هي تصنعهم، بأرضها وسمائها وشمسها وشجرها ونسائها ورائحتها، والمدينة مرآة الناس والناس مرآتها، وكنّا قد التقينا منذ عقود من الزمان وكأننا عشنا طويلاً في بيئة واحدة وربما في منزل واحد، علماً بأن الشيخ حسين لم يعش في النجف سوى بضعة أعوام، لكن تلك الفترة المبكّرة من حياته كانت إحدى مصادر إلهامه، وشكّلت معالم شخصيّته وتكوّنه كما يقول، وهي التي صيّرت منه جامعاً لعدد من الصفات والمواصفات، فهو الفقيه والكاتب والباحث والأديب والمفكّر، الذي درس علوم الدين في الفقه واللغة والآداب وعلم الكلام والمنطق والبيان، لينطلق في فضاء رحب من الحوار والجدال والسجال الذي توفّره المدرسة النجفية، مع الآخر ومع النفس.
وكل حوار لا يخلو من منولوج داخلي وهو ما كان يجري في السرّ والعلن وما يزال داخل الحوزات الدينية النجفية على نحو ناطق أو صامت، حركي أو ساكن، لكنه يتراكم ويؤثر إن آجلاً أم عاجلاً. وعن أجواء النجف، ولاسيّما في الحوزة التي درس فيها الشيخ حسين شحادة يقول السيد محمد حسين فضل الله في حواراته مع الصحافي اللبناني الصديق سركيس نعوم في كتاب صدر في العام 2014 في بيروت عن الدار العربية للعلوم والموسوم "العلّامة السيد محمد حسين فضل الله: صداقة وسيرة 23 سنة، 1986-2009"، ص 18 وما بعدها " في الأربعينات والخمسينات لم تكن للحوزة العلمية في النجف أي نشاطات سياسية بالمستوى الذي تمخّضت عنه الأحداث... الخ.
ويضيف فضل الله: وكانت المعارضة ممثّلة بالحزب الشيوعي الذي مارس عمله بسرّية تامة لأن الحكومة كانت تلاحقه، إضافة إلى أحزاب محلية مثل القوميين والحزب الوطني الديمقراطي بقيادة الجادرجي وصحيفة "الأهالي" التي يصدرها وأحزاب حكومية مثل حزب الاتحاد الدستوري لنوري السعيد وحزب الأمة لصالح جبر، لكن الحركة البارزة في المعارضة كانت الحركة الشيوعية التي تسيّر التظاهرات بين وقت وآخر في النجف، فتواجهها الحكومة بعنف وأحياناً بالرصاص والاعتقالات. ويذكر أيضاً أن بعض الشيوعيين كانوا يزورونه في النجف وبعض المدن العراقية ويلتقي أوساطاً من الديمقراطيين والوطنيين أيضاً وهو ما يعكس أجواء النجف المنفتحة سياسياً، بل أجواء العراق عموماً.
وعلى بقايا هذه الأجواء الانفتاحية عاش الشيخ حسين في النجف، على الرغم من احتدام الأمور وبدايات الافتراق الوطني والصراع السياسي الحاد، تلك التي شهدها العراق لاحقاً، ومع ذلك فالنجف وخصوصاً العوائل الدينية كانت تتميّز بالتنوّع والتعدّدية السياسية والفكرية وكان اليسار متجذّراً فيها، إضافة إلى التيارات القومية، فقد ظلّت مساحة الحوار قائمة وإنْ أصبحت أكثر حدّة وإنْ ثار جدل بين السياسي والديني وبين اليسار واليمين، والإيمان والإلحاد بصيغ بعضها طفولية وبعضها الآخر إغراضية، لاسيّما بعد صدور فتوى السيد محسن الحكيم "الشيوعية كفر وإلحاد" العام 1960 التي أثارت صراعات جديدة لم تكن موجودة قبل هذا التاريخ وتحديداً قبل ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، وقد سبق لي أن سلّطت الضوء عليها في كتابيّ الموسومين "تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف"، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009. و"الحبر الأسود والحبر الأحمر - من ماركس إلى الماركسية"، مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية،بغداد، 2013.
* باحث ومفكر.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون