محمد مخلوف:المثقف العُصامي وتفاصيله الصغيرة.
2022 ,07 نيسان
*عبد الحسين شعبان
صوت العرب: بيروت – لبنان.
لفت انتباهي شاب ليبي مفعم بالحيوية إلى درجة المشاكسة أحياناً، في مؤتمر المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن العام 1991، حيث لم يترك شاردة وواردة إلاّ وجاء عليها، فناقش التقرير التنظيمي والخطة المستقبلية والتقرير المالي وانتقد الأداء وقدّم جملة من المقترحات للإرتقاء بعمل المنظمة، خصوصاً وأنها بحاجة إلى دماء جديدة. وكان، في الواقع، صوتاً متميّزاً واعياً وحريصاً ومسؤولاً، وإن كان حادّاً أحياناً، فقد كان محمد مخلوف معتدّاً بنفسه وشاعراً بكفاءته مخلصاً في رغبته لتنزيه مفهوم حقوق الإنسان ممّا علق به من ضوضاء سياسية وصخب أيديولوجي في الكثير من الأحيان، وذلك ضمن فهمه ووعيه واجتهاده الخاص، الذي كان بحاجة إلى صقلٍ وبلورة.
وكان محمد مخلوف يتصرّف بعفوية وتلقائية ووضوح أيضاً. يعترض ويردّ ويضيف ويصحّح، وفي الوقت نفسه يكتشف ويقدّر ويستفيد من المناقشة لتعزيز منظومته وتنقيتها هي الأخرى من التأثيرات السياسية والخلفيات الفكرية، التي سبحان مَن لا يتخلّص منها أو لا يقع فيها.
وحين اقتربت لحظة التصويت لعضوية اللجنة التنفيذية، لم يحصل مخلوف على الأصوات المطلوبة، الأمر الذي غالباً ما يحصل مع نشطاء وأصحاب وجهات نظر ومَن لديهم آراء وأفكار مستقلّة، خصوصاً عمّا هو سائد. وقد فاز في عضوية اللجنة التنفيذية زملاء من السعودية والبحرين ومصر ولبنان والعراق، وفي أول اجتماع للجنة التنفيذية، تمّ اختياري بالإجماع رئيساً للمنظمة، فاقترحت ضم جميع الذين ترشّحوا ولم ينالوا الأصوات المطلوبة في المنافسة الانتخابية بجعلهم أعضاءً كاملي العضوية (وليس احتياط)، لسببين: 
الأول الحرص على التمثيل الجغرافي. فشمال أفريقيا لم يكن ممثلّاً في اللجنة التنفيذية، بل إن بعض بلدانه يستحق أن يكون فيها بسبب حجم الانتهاكات من جهة، وقلّة المعلومات من جهة أخرى، كما هو بلد مثل ليبيا. أما عدم فوزهم فيعود إلى أن بعضهم لم يكن معروفاً على صعيد الحركة الحقوقية، على الرغم من مؤهلاته ودوره وما يمكن أن يرفده للمنظمة في هذا الإطار؛
والثاني - توسيع دائرة المشاركين في العمل الحقوقي، خصوصاً من أصحاب الكفاءات والمؤمنين بالعمل التطوعي، علماً بأن ثقافة حقوق الإنسان كانت محدودة الانتشار، ناهيك عن محاولات التشكيك بها من جانب التيارات الشمولية اليسارية واليمينية والعلمانية والدينية، وكان لا بدّ من تنميتها وتدريب وتأهيل عدد من العاملين على هذا الصعيد، ولا سيّما الحرص على أربع قضايا أساسية، جعلناها برنامج عمل ودليل نظري للتحرّك.
أولها - الحرص على استقلالية المنظمة وعدم انحيازها إلى أي دولة أو نظام إقليمي أو دولي أو حكومة أو معارضة سياسية أو دينية أو غيرها. والأمر يمتدّ من استقلاليتها الفكرية والتنظيمية إلى استقلاليتها المالية.
ثانيها - وضع مسافة متساوية من الفرقاء: حكومات ومعارضات وعدم الانخراط في الصراع الأيديولوجي والسياسي الدائر في مجتمعاتنا، إلاّ بقدر الدفاع عن الحقوق والحريات.
وثالثها - الدفاع عن الضحايا بغض النظر عن أفكارهم، فنحن مع الضحية بغض النظر عن اتجاهها السياسي وانحدارها الاجتماعي وتوجهها الفكري وجنسيتها وقوميتها ودينها ولونها وجنسها وأصلها الاجتماعي.
ورابعها - العمل بشفافية وعلانية وقانونية، خارج دوائر العمل السرّي أو العنفي وضمن القوانين النافذة والمرعية، مع أهمية نقدها وتغييرها، خصوصاً بما تتعارض فيه مع "الشرعة الدولية لحقوق الإنسان". وكانت اجتماعات اللجنة التنفيذية مفتوحةً حتى لأعضاء أو أصدقاء في المنظمة، وهو ما لم يكن مفهوماً عند محمد مخلوف في بداية الأمر، إلى أن اعتاد عليه بالتدريج، فلم يكن لدينا ما نخفيه أو نتستّر عليه.
وقد اخترنا حقلاً مهماً آخر هو رفع الوعي بأهمية  حقوق الإنسان من خلال نشر وتعزيز الثقافة الحقوقية، وهو ما قرّرناه حين أعددنا لعقد ملتقى فكري سنوي باختيار قضية من قضايا حقوق الإنسان الأساسية وإشكالياتها، لمناقشتها وفتح الحوار بشأنها.
وأستطيع القول أن محمد مخلوف كان ركناً مهماً من أركان هذا المشروع، وعمل بكل طاقته لإنجاحه، وبفضله وبفضل زملاء آخرين تمكنّا من تقديم مساعدة لعدد من طالبي اللجوء من العرب، بلغ عددهم نحو 7000 لاجىء. وهو مجال آخر اشتغلنا عليه.
ومع أن هذه القضايا كانت مرجعية لعملنا، لكن مفهوم قضية حقوق الإنسان غالباً ما يلقى اعتراضات أو اجتهادات أو تفسيرات مختلفة في التطبيق. وأتذكّر في إحدى المرّات اعترض مخلوف على توجيه رسالة إلى الحكومات العربية، بشأن القدس، خصوصاً اقتراحنا بأهمية الحصول على رأي استشاري من محكمة العدل الدولية في لاهاي، وذلك تنفيذاً لمقترح تبنّاه الملتقى السادس للمنظمة الموسوم: "القدس وحقوق الإنسان". وقال هذا يعني إرسال رسالة إلى القذافي، إضافة إلى اعتراضات أخرى عراقية، ولكن في نهاية المطاف اتفقنا على أن الرسالة هي من أجل حثّ الحكومات العربية أولاً على دعم القدس باعتبارها قضية حقوق الإنسان أيضاً، وثانياً - لوجود لجنة لدى جامعة الدول العربية مؤسسة منذ العام 1968، خاصة بفلسطين وينبغي تفعيلها، وثالثاً - إذا استثنينا ليبيا من توجيه الرسالة، فلا بدّ أن يُستثنى العراق، وهنالك من قال السعودية ومصر وسوريا وتونس، وهكذا.
وكان قرارنا توجيه رسالة القدس إلى جميع الحكومات العربية بما فيها ليبيا والعراق والسعودية وسوريا ومصر، وأتذكّر إنّنا أرسلناها بالبريد المسجّل إلى سفاراتها في لندن، ولم تجب على رسالتنا سوى دولتين هما: قطر والبحرين، وأهملت جميع الحكومات العربية مقترحاتنا. علماً بأن الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية الصديق سعيد كمال (ممثل دولة فلسطين) استجاب للفكرة ونظم لقاءً في ضوء رسالتنا مع اتحاد المحامين العرب في القاهرة، وكان جدول عمل اللقاء مقالتي المنشورة في جريدة الحياة تاريخ 30 آذار/مارس 1996، والموسومة "القدس وتسخين السلام" بخصوص الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، وهو ما أعدت نشره في كتابي: "المدينة المفتوحة" - مقاربات حول القدس والعنصرية، 2001.
الملتقيات الفكرية
على الرغم من أن مخلوف لم يفز في الانتخابات، لكنه كان الأكثر نشاطاً ومبادرة، والأكثر حرصاً والتزاماً، والأكثر تفانياً في تنفيذ ما يُكلّف به، وكنّا قد بادرنا لتنظيم ملتقيات فكرية كبرى، فكان الملتقى الأول في العام 1992 والموسوم "الحوار العربي - الكردي"، تظاهرة فكرية حقيقية، لحوار ينظم لأول مرّة بين مثقفين عرب وأكراد (جمع نحو 50 منهم) واستمرّ لمدّة يومين ناقش أهم الاشكالات المطروحة بشأن القضية الكردية والمستمر بعضها إلى الآن، بل وازداد تعقيداً في السنوات العشرين الأخيرة، بشأن طبيعة العلاقة العربية - الكردية ومع الكرد في المنطقة ونظام الحكم المنشود.
وكان لمخلوف دور مهم في الملتقى الثاني الذي انعقد عام 1993 من إعداد البوستر إلى حجز القاعة وصولاً إلى الحصول على تمويل من الأخ تميم عصمان، أحد رجال الأعمال الليبيين، حيث تمكنّا من دعوة شخصيات فكرية محدودة من خارج بريطانيا، وكان عنوان الملتقى "حرّية التعبير والحق في المشاركة"، وصدر لاحقاً في كتاب، إضافة إلى حضور نوعي شمل نحو 40 مثقفاً من مختلف البلدان العربية.
وانعقد الملتقى الثالث بعنوان: المثقف والثقافة وحقوق الإنسان، وكان ملتقى فكرياً شهدت له لندن وقد شارك فيه نخبة متميّزة، وصدرت أعماله في كتاب بعنوان: "ثقافة حقوق الإنسان"، وكان مخلوف يدير إحدى جلساته ويحاور في أخرى وينتقد المثقفين السلطويين.
وفي الملتقى الفكري الرابع الموسوم: "المرأة وحقوق الإنسان" كان مخلوف قد أعدّ البوستر واستشكل حضور بعض العلمانيين الذين يبشرون بحقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، وهو رأي سمعته أيضاً من الصديق كمال الهلباوي، أحد أبرز قادة حركة الإخوان المسلمين سابقاً، ولكنني سمعت رأياً أخر معاكساً لهذا الرأي من فاروق أبو عيسى، أمين عام اتحاد المحامين العرب حينها، مفاده أن الإسلاميين يهيمنون على الملتقى، وقال ذلك بصيغة عتب عليّ.
وكنت قد استمعت إلى وجهتَي النظر المختلفتين، ولخّصت ذلك في الجلسة الختامية بالقول: أظن أننا نجحنا في إثارة حوار جدي بين فريقين: العلماني والديني، المدني والإسلامي، المؤيد لحقوق المرأة والمتحفّظ على مبادىء المساواة. ولأن كلاً من الفريقين لديهما حججاً قوية، فقد اعتقد كل فريق أن عدد المدعوين من الفريق الآخر أكبر، وبحسبة بسيطة، اتضح إننا، وحتى من دون أن نفكّر بتصنيف المدعوين، أن عدد العلمانيين يكاد يكون متعادلاً مع عدد الإسلاميين، لذلك اكتسب الحوار حيوية فائقة وحقّق نجاحاً باهراً باعتراف الفريقين، ولكننا ننتظر فرصة أخرى لمواصلته، ولعل ذلك دليل صحة وعافية، أن يلتقي مثقفون من اتجاهات مختلفة ليتناولوا حقوق المرأة من منظور حقوق الإنسان، بأريحيّة وانفتاح من دون تخوين أو تكفير أو انتقاص. علماً بأن وقائع هذا الحوار منشورة في كتاب: "ثقافة حقوق الإنسان".
وخصصنا الملتقى الفكري الخامس لقضايا التسامح والنخب العربية، وأتذكر استشكال مخلوف بطرحه سؤالاً طالما يتردّد على لسان الكثيرين وهو: هل سنتسامح مع المرتكبين والجلادين؟ وهل أن مفهوم التسامح يعني وجود أعلى يسامح وأدنى يطلب التسامح؟ ولعل هذا مفهوم نيتشوي. وقد كان أدونيس الشاعر الكبير قد ناقشني في أبو ظبي بشأن المفهوم الذي سبق وأن بيّنت اختلافه عن فكرة نيتشه، وقربه من مفهوم اليونسكو، والمقصود التمسّك بالحقوق والمساواة وعدم التمييز.
وحين تقرّر انعقاد الملتقى استناداً إلى إعلان مبادىء التسامح الصادر عن اليونسكو عام 1995 وقد أرسلته إليه النص بالفاكس، وبعد قراءته اقتنع، من دون أن يكون ذلك بمعزل عن نقاش طويل، ولكنه يعيدنا أحياناً إلى النقطة ذاتها في النقاش، فيقلّب الأمور بهدف البحث عن الحقيقة وسعياً للتوثق واكتساب المعرفة، وكان يفعل ذلك من دون كلل أو ملل فيطرح وجهة نظره بتجرّد وشفافية وثقة، منزهّة عن أية أغراض خاصة أو حتى حسابات شخصية.
كان الكاتب والصحافي الراحل شريف الربيعي غالباً ما يداعب مخلوف، حين أصبح عضواً في اللجنة التنفيذية، إلى درجة الاستفزاز في الاجتماعات، وأحياناً تتحوّل المناقشات إلى حوار جانبي وشخصي، فأضطر للتدخل لإيقافها، بتمليح الجلسة ببعض النكت على لسان الربيعي، فيتلطّف الجو، خصوصاً بالتعليقات الظريفة التي يطلقها سعود الناصري الصحافي والفنان، حين ينحاز إلى مخلوف ثم يعود فينقلب إلى تأييد الربيعي، فيحتدم الجدل لأضطرّ للتدخّل مجدداً بالعودة إلى جدول العمل.
وكانت اللجنة التنفيذية قد توسّعت بضم هشام الديوان (الكويت) الذي أصبح أميناً للسرّ بعد غالب العلوي، وكانت أمينة السر قبلهما عايدة عسيران، كما أصبح  مصطفى عبد العال (مصر) نائباً للرئيس، وضمت اللجنة التنفيذية المحامي أمجد السلفيتي (فلسطين)، وسناء الجبوري (العراق) التي استمرت لثلاث دورات، وعبد السلام سيد أحمد (السودان)، وسهير سليمان (مصر)، والمحامي والصحافي هشام الشيشكلي (سوريا)، وخالد الحروب (فلسطين) إضافة إلى زميلة من المغرب وزميل من تونس. أما المجلس الاستشاري فضمّ 25 عضواً من خيرة المثقفين العرب في بريطانيا.
وكان مخلوف قد استشكل مرّة أخرى كيف نعقد الملتقى الفكري السابع، الموسوم: "الحصار الدولي وحقوق الإنسان" ونخصّصه للحصار على ليبيا والسودان والعراق، وذلك خشية من تفسيرات المعارضات ومواقفها، لكنه اقتنع بأهمية وضعنا لهذه المسافة، وموقفنا المبدئي من الحصار الدولي الجائر ونظام العقوبات الدولي الذي يتعارض مع شرعة حقوق الإنسان، خصوصاً حين يتخذ أبعاداً لاإنسانية، فتأثير العقوبات يقع على الشعوب وليس على الحكام. ولم يبيّن لنا التاريخ أن حاكماً مات من الجوع، في حين كانت الحصارات تهلك شعوباً بكاملها أو تجعلها عليلة مذلّة مهانة، بحرمانها من أبسط الحقوق الإنسانية بما فيها منعها من المعرفة والحصول على التكنولوجيا، ناهيك عن تأثيراتها الصحية والنفسية والاجتماعية على الطفل والمرأة بشكل خاص وعموم المجتمع.
كان محمد مخلوف المصمّم الأول لنشرة المنظمة بالتعاون مع هشام الشيشكلي (سوريا) الذي أصبح عضواً في اللجنة التنفيذية وانتخب في مؤتمرين، كما انضم عبد الحميد الصائح إلى اللجنة التنفيذية وتحمل مسؤولية نشرة "الضمير" بعد محمد مخلوف بسبب انشغاله بمهرجان السينما الدولي الذي أصبح مديراً له في قطر (الدوحة). وقصة عمله في السينما التي أحبّها كهواية، ثم احترف العمل فيها، خصوصاً بتنظيم مهرجان سنوي ومنح جوائز برئاسته، فهي تعود إلى المنظمة حيث كان إخراج أول فيلم له عن منصور الكيخيا، وبإمكانات بسيطة ومحدودة، ولم يسبق له أن عمل في هذا المجال قبل ذلك، لكن إصراره ورغبته في التعلّم، وصدق مشاعره دفعته إلى تذليل الصعوبات وتجاوز العقبات حتى أصبح منظّماً لمهرجان دولي، يُشار إليه بالبنان. لقد كان عصامياً وجريئاً ، تحدّى نفسه ومَن حوله ليصل إلى ما وصل إليه، وهو ما أخبرني به حين زارني في بيروت ودعاني لحضور فيلم له، وطلب مني أن أقدّمه في الوسط الفني والثقافي اللبناني.
مع الكيخيا في القاهرة
حين عقدت المنظمة العربية لحقوق الإنسان مؤتمرها الثالث في القاهرة (ديسمبر/كانون الأول 1993)، ودعيت إليه لتمثيل المنظمة في بريطانيا، طلبت من إدارتها حضور وفد معي، وكان في مقدمة الذين اقترحتهم محمد مخلوف، واسماعيل القادري (العراق)، ومنصور الجمري (البحرين) وعايدة عسيران (لبنان)، وقبل ذلك كان قد انعقد مؤتمر فيينا الدولي (يونيو/حزيران 1993)، وحضر معي في الوفد عسيران والجمري وغالب العلوي أيضاً.
وفي القاهرة التقى مخلوف لأول مرّة بـ منصور الكيخيا وقد دعانا الكيخيا إلى لقاء خاص، مستفسراً عن أصدقائه العراقيين، وما حلّ ببعضهم، خصوصاً بعد أن تغيّرت الأوضاع واختلفت المواقع وانقلبت الموازين وقد أخبرني حينها أنه كان يحمل جواز سفر عراقي دبلوماسي، وكان ممثلاً لاتحاد الحقوقيين العرب في جنيف. ولكنه فضّل الابتعاد عن ذلك بسبب تدهور الحالة السياسية، وأكّد أنه على الرغم من معارضته للنظام الليبي، فإنه لا يؤيد فرض الحصار على ليبيا، مثلما لا يؤيد فرض الحصار على العراق، مبدياً استعداداً للحوار والمعارضة السلمية إذا بدت أي بادرة إيجابية من أصحاب القرار، وهو ما أثار فضول مخلوف الذي أمطره بأسئلة عديدة وبطريقة مهذبة، فقد توافقنا على أن لا رهان على القوى الخارجية لإحداث التغيير في مجتمعاتنا، مشددين على ضرورة التمسّك بمبادىء حقوق الإنسان، ولم يكن يدري ما ينتظره بعد أيام من إبدائه حسن نيّة وربما قلة إحتراز، إلا وكانت القوى الشريرة له بالمرصاد، تخطّط وتنفّذ، لإسكات الصوت العقلاني المعتدل. وقد ظل صدى عباراته يتردد بين محمد مخلوف وبيني بعد اختفائه قسرياً. وهو ما أعاده مخلوف أمام أديب الجادر رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان.
ولمتابعة تفاصيل اختفاء الكيخيا، يمكن مراجعة كتابي الموسوم: "الاختفاء القسري بين القانونين الدولي والواقع العربي - الكيخيا نموذجاً"، 1998 الذي قام محمد مخلوف بتصميم غلافه وصدر عن "منشورات شؤون ليبية". 
وكان الكيخيا قد اختفى قسرياً في القاهرة بعد أن بقيت حاجياته الشخصية في غرفته المقفلة في فندق "السفير" "بالدقي"، في 10 ديسمبر/كانون الأول 1993، ولم يظهر أي أثر له حتى أطيح بنظام القذافي، باندلاع الثورة في 17 شباط/فبراير 2011، وتلك قصة أخرى جئت على ذكرها، في مقالة بجريدة السفير (اللبنانية) بتاريخ 1/12/2012 بعنوان: "منصور الكيخيا والرهان على سلطة الضوء"، وفي جريدة الأخبار (اللبنانية) بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر 2020 والموسوم: "حكاية منصور الكيخيا والإختفاء القسري".
وكنا قد عدنا إلى لندن قبل اختفاء الكيخيا قسرياً بثلاثة أيام، وحين وصلنا خبر الاختفاء نظمنا وقْفتَي احتجاج إحداهما أمام السفارة الليبية والأخرى أمام السفارة المصرية، وقام مخلوف بتنظيمهما، والاستحصال على الموافقات الرسمية اللازمة، وقدّمنا مذكرة بهذا الخصوص إلى المعنيين، وقد أصبح مخلوف حينها أكثر قلقاً وأشدّ حذراً، إلى درجة لا أحد يعرف بيته، سواء أكان ليبياً أم عربياً، باستثناء أخي حيدر الذي كان يوصله إلى منزله في طريقه بعد انتهاء اجتماعات اللجنة التنفيذية أو بعض أنشطة المنظمة أحياناً.
وقد نظمنا على مدى 4 أعوام ندوات وفاعليات وأنشطة عن قضية الاختفاء القسري والكيخيا في ذكرى اختفائه، باعتباره رمز المختفين قسرياً، وأقمنا لهذا الغرض قناة خاصة مع منظمة العفو الدولية التي كنا نزوّدها بتقارير ومعلومات عن تطوّرات القضية، وكلّفنا مخلوف القيام بذلك. كما نظمنا ندوة في دار الثقافات العالمية في برلين في 20/1/1996، ونشر الباحث مداخلته على قسمين في جريدة الحياة بتاريخ 24-25/1/1996 (حلقتان)، كما ألقيتُ محاضرة عنه في واشنطن بصحبة الأخ مخلوف، وباستضافة كريمة ودعم من صالح جعّوده وأحمد الماقنّي وآخرين.
وقد اعتبر مخلوف قضية منصور الكيخيا قضيته الشخصية وقد أشدتُ بدوره في ذلك الوقت منتقداً الصمت أو النسيان الذي يريده البعض، بحوار أجرته معي مجلة "شؤون ليبية" في عددها الصادر في خريف العام 1996، بقولي "القضية ما تزال قائمة، لكن البعض لا يفضل التذكير بها أو الحديث عنها لأسباب خاصة، فلم يعد إصدار بيان بالمناسبة كافياً (من باب رفع العتب). القضية بحاجة إلى متابعة وعلى الأقل كشف نتائج التحقيق على الملأ لمتابعة خيوطها. لقد ساعدت المنظمة في بريطانيا بإخراج فيلم عن منصور الكيخيا قام الزميل محمد مخلوف بإعداده مشكوراً". 
وبالمناسبة، فقد قام مخلوف بجهد كبير في الحصول على دعم مالي من معارضين ليبيين بينهم تميم عصمان وفتحي ليّاس وسافر إلى نيويورك (مقرّ الأمم المتحدة) للحصول على وثائق وصور وتسجيلات لمنصور الكيخيا، الذي سبق له أن عمل فيها ممثلاً لليبيا، وقد تمكّن من ذلك، لكن الجهاز الفني في الأمم المتحدة اشترط عليه دفع 28 ألف (ثمانية وعشرون ألف دولار أمريكي) لتأمينها، وقد بادرت المنظمة بتوجيه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، وإلى المسؤول الإعلامي لإبلاغهما  والجهاز الفني أن الفيلم الذي يعدّه محمد مخلوف ليس تجارياً، بل هو لأغراض إنسانية، وهو يخرجه تطوعياً، أي لا ربحياً، ولصالح منظمة مجتمع مدني، والمقصود بذلك المنظمة العربية لحقوق الإنسان، فتمّ في ضوء ذلك إعفاؤه منها.
الكيخيا والمثقفون العرب
المبادرة الأولى التي قمنا بها بعد المذكرتين والوقفتين، هي الدعوة لتشكيل لجنة من مثقفين عرب في بريطانيا لإجلاء مصير منصور الكيخيا، والتأم الاجتماع التأسيسي للجنة العربية لإنقاذ منصور الكيخيا"في قاعة الكونفرنسات في كوينز بارك هوتيل في لندن" يوم الخميس 7/4/1994 حيث التقى جمع من المثقفين العرب من شتى الاتجاهات السياسية والتيارات الفكرية ليعلنوا عن تأسيس اللجنة وليرفعوا عالياً صوت الاحتجاج إزاء ظاهرة الاختطاف السياسي، والتي يعتبر أحد رموزها البارزين منصور الكيخيا، علماً بأن لجنة قانونية تم تشكيلها في القاهرة لمتابعة الموضوع من جانب المنظمة، التي كان كاتب السطور من مؤسّسيها.
والكيخيا شخصية ليبية وعربية مرموقة، وهو رجل حوار وسلم وداعية بارز من دعاة حقوق الإنسان في الوطن العربي، وهو أحد مؤسّسي المنظمة في ليماسول "قبرص" 1983، ويحتلّ منصب عضو مجلس أمنائها حيث جرى تجديد الثقة به قبل أيام من اختفائه، إضافة إلى عمله الوظيفي السابق حيث كان وزيراً للخارجية وممثّلاً لبلاده في الأمم المتحدة لعدة سنوات، ثم اختار طريق المعارضة السلمية وآمن بضرورة التغيير لإنقاذ بلده وشعبه ونشر مفاهيم التعددية واحترام حقوق الإنسان والتخلّي عن الإرهاب والاستبداد.
وجاء في البيان الذي نشرناه حينها: افتتح الاجتماع الدكتور عبد الحسين شعبان رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا فأشاد بدور الكيخيا ودعا إلى ضرورة تشديد البحث والاستقصاء والضغط من أجل الكشف عن مصيره، وأشار إلى ظاهرة الاختطاف السياسي وما تحمله من دلالات لاختطاف الرأي الآخر وتغليب العنف على الحوار ومحاولة تغييب الخصوم وتصفية المعارضة واستذكر حالات اختطاف مماثلة كالمهدي بن بركة (المغرب) والإمام موسى الصدر (لبنان) وناصر السعيد (السعودية) وصفاء الحافظ وصباح الدرة وعايدة ياسين ودارا توفيق وأسعد الشبيبي (العراق) وعزت المقريف وجاب الله مطر (ليبيا) وغيرهم من الرموز والشخصيات الثقافية والفكرية والسياسية، إضافة إلى الآلاف من ضحايا الاستبداد والعسف.
وتحدث عدد من المشاركين في الاجتماع فأشار الشاعر الكبير بلند الحيدري (العراق) إلى أن الخطف السياسي يستهدف المثقفين، الذين يقع عليهم عبء كبير، وتطرّق إلى أهمية توحيد الجهود في هذا المضمار. واستعرض محمد الهاشمي الحامدي (تونس) الحادث المثير وقدّم بعض المقترحات لإبقاء الموضوع حيّاً في الصحافة، وتناول د. سعيد الشهابي (البحرين) أهمية توجيه رسائل للجهات العربية والدولية، وتساؤل دكتور خلدون الشمعة (سورية) عن الرواية الرسمية لقضية الإختطاف. ونبّه السنوسي محمد (بلاّله) (ليبيا) إلى أهمية حصر البحث بالدولتين وإشراك جمعيات ونقابات ومنظمات شعبية للضغط، وأكّد صلاح عمر العلي (العراق) على أهمية متابعة الحالة مع النظامين المصري والليبي والعمل على تشكيل محور داخل الأمم المتحدة، وأشار عبد النبي العكري (البحرين) إلى أهمية الموضوع ودور المنظمة في المتابعة، واقترح محمد المهدي عبد الوهاب (السودان) تكثيف الاتصال بجامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية والاتحاد المغاربي ومركز كارتر وغيرها من مراكز التأثير العالمي.
وفي ختام الاجتماع تم تلخيص أهم المقترحات لتكون بمثابة برنامج عمل للجنة، وأهمها وهي إبقاء قضية منصور الكيخيا في دائرة الضوء لتأمين عودته سالماً إلى عائلته، وتوجيه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة السيد بطرس غالي ومطالبته بالتدخل لدى الحكومتين المصرية والليبية للكشف عن مصير الكيخيا، والحصول على تعضيد لعمل هذه اللجنة من بعض البرلمانيين البريطانيين وأعضاء الكونغرس الأمريكي، إضافة إلى بعض أعضاء البرلمان الأوروبي،  وإجراء اتصالات مع رؤساء الدول المعنية ومسؤولين في الحكومات العربية، والاتصال بجامعة الدول العربية وتوجيه رسالة مفتوحة إليها للتدخل والضغط من أجل إنقاذ الكيخيا والكشف عن مصيره، وإجراء اتصالات مع منظمة الدول الإفريقية والاتحاد المغاربي. والاتصال بمنظمات حقوق الإنسان الدولية.
هذا وقد تم تشكيل لجنة من 23 مثقفاً عربياً، واختار الاجتماع 9 منهم كهيئة للمتابعة.
وقد نسبت اللجنة التنفيذية الزميلين غالب العلوي "أمين السر" والمحامي أمجد السلفيتي "مسؤول الشؤون القانونية" في المنظمة لعضوية اللجنة وللتنسيق والمتابعة. وتم اختيار هيئة للمتابعة ضمت الأساتذة التالية أسماؤهم:
1 - بلند الحيدري - الشاعر المعروف (رئيساً)
2 - مصطفى الكركوتي - رئيس جمعية الصحافيين الأجانب في بريطانيا (لبنان)
3 - فاطمة إبراهيم - نائبة سابقة ومناضلة يسارية (السودان)
4 - محمد الهاشمي الحامدي - صحافي وكاتب (تونس)
5 - ناهدة الرماح - فنانة مسرحية (العراق)
6 - عبد الحسن الأمين  - صحافي ورئيس تحرير مجلة النور (لبنان)
7 - دكتور خلدون الشمعة - أديب وناقد (سوريا)
8 - تميم عصمان - رجل أعمال (ليبيا)
9 - دكتور محمد المهدي عبد الوهاب (السودان)
وقد ألقى الأستاذ الشاعر بلند الحيدري كلمة باسم هيئة المتابعة شكر فيها الحاضرين على ثقتهم وأكّد على أهمية مواصلة العمل للكشف عن منصور الكيخيا وللدفاع عن حقوق الإنسان مشيراً إلى ما يتعرّض له المثقفون من اضطهاد وعسف بشكل خاص، مؤكّداً على وضع المقترحات والتوصيات موضع التطبيق، وقد كان لي شرف الإشراف على عمل اللجنة وتسهيل مهمتها وتوفير مستلزمات نجاحها، وكان مساعدي الأيمن على هذا الصعيد محمد مخلوف، الذي لم يدخّر وسعاً ولم يألُ جهداً إلاّ ووظّفه بهذا الإتجاه.
فيلم "اسمي بشر"
كانت حادثة اختفاء منصور الكيخيا فصلاً جديداً في كفاح محمد مخلوف، وقد بذل ما يستطيع لإبقائها حيّة، وكي لا تدخل دائرة النسيان، مزاوجاً بين مهمة الإعلامي كمؤرخ للحظة، على حد تعبير ألبير كامو، ومهمة الفنان والسينمائي بشكل خاص كعينٍ بصرية توثّق للحادث وتثير أسئلة للبحث عن الحقيقة.
وقد باشر بكتابة سيناريو الفيلم، مستعيناً بحوارات أجراها مع بعض أصدقاء منصور الكيخيا وعدد من المثقفين العرب، بهدف رسم صورة أوضح لقضية الإختفاء القسري، التي أصبحت ظاهرة في العديد من البلدان العربية، إضافة إلى أنها تشمل أكثر من 63 بلداً في العالم، وقام بإخراج الفيلم بجهوده الفردية وسعى لعرضه بمساعدة المنظمة في لندن وبرلين وواشنطن، بينما لم يتمكّن من عرضه في أحد البلدان العربية حينها، وقد رافقته خطوة بخطوة في إنجاز هذا الفيلم، سواء الاتصال بعدد من الشخصيات لمقابلتها مثل محسن العيني رئيس وزراء اليمن، وممثلها الأسبق في الأمم المتحدة وصلاح عمر العلي، وزير الإعلام وممثل العراق الأسبق في الأمم المتحدة، وهما من أصدقاء الكيخيا، إضافة إلى زوجته السيدة بهاء العمري، التي كنّا على اتصال مستمر بها، وخصوصاً حين زيارتها إلى لندن، إضافة إلى التنسيق معها بشأن القضية، حتى قبيل زياراتها إلى طرابلس واللقاء بالقذافي لإجلاء مصير منصور الكيخيا.
وأعتقد أن الرواية التي تضمنتها فكرة الفيلم كانت هي الأقرب إلى الواقع، وهي من تجميع محمد مخلوف، الذي بذل جهداً مضنياً للوصول إليها، ومفادها أن الكيخيا دُعي من جانب ابراهيم البشاري ممثل ليبيا الأسبق في جامعة الدول العربية، حيث تمّ تخديره بإسقائه كأساً من العصير، ثم تمّ نقله إلى ليبيا بسيارة دبلوماسية، وبقي رهن الإعتقال في قبو فيلاّ خاصة، وتمّ التحقيق معه لعدّة مرّات من العام 1993 ولغاية العام 1997، وهناك التقاه عبدالله السنوسي مدير المخابرات الليبية مرتين، كما أفاد بذلك بعد اعتقاله في نواكشوط (موريتانيا) وتوفّي في العام  1997.
جدير بالذكر أن آخر مَن التقى الكيخيا قبل اختفائه قسرياً هو المدعو يوسف صالح نجم الذي صدرت مذكرة توقيف بحقّه في القاهرة، بعد الدعوى التي أقامتها المنظمة، ولكنه عاد إلى القاهرة بعد حين ومن دون أن يتعرّض له أحد، وعقد بعدها مؤتمراً صحافياً في تونس قال فيه بأن لا علاقة له بالحادث وأنه جاء لتوّه من القاهرة. الأمر الذي أثار شكوكاً حول تواطؤ من بعض الأجهزة المصرية في حادث الإختفاء القسري. يذكر أن البشاري عاد إلى طرابلس وأنه لقي مصرعه في حادث سير غامض بعد نحو عام من اختفاء منصور الكيخيا.
وتقول "الرواية" أن الكيخيا حين توفّي لم يُدفن، وإنما استبقي في ثلاّجة (برّاد) بعد وفاته ولغاية العام 2011، حين قامت الثورة، واضطر حراس فيلّته إلى الهرب، خشية من الثوار، لأن عرّافة كان يستعين بها القذافي للتبصير (رؤية المستقبل)، قالت له أن شخصية مهمة إذا دفنت ستتعرض إلى مكروه، وصادف أن مات الكيخيا بعد تحذير العرافة مباشرة،  فلم يدفنه، بل أبقى عليه في الثلاجة طيلة 14 عاماً.
وبعد انكشاف تفاصيل الحكاية، وسط مفاجآت كبيرة أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، وهو ما تحدّثنا عنه مخلوف وكاتب السطور، حين زيارتي إلى طرابلس، بدعوة من الصديق علي زيدان، رئيس الوزراء حينها، حيث التقيت بالأخ محمد المقريف (رئيس المؤتمر الوطني الليبي)، والأخ جمعه عتيقة (نائبه) وصالح جعّوده والسنوسي محمد بلاّله، وكنت على اتصال بالأخ علي الأمين ونوري الكيخيا ومحمود الكيخيا شقيق منصور ومحمود شمّام وآخرين، كما التقيت بـ رشيد الكيخيا نجل منصور الذي أصبح شاباً وكان حينها في الصف السادس من الكلية الطبية، بعدما التقيته طفلاً صغيراً. وقد استقلينا طائرة خاصة مع الجثمان إلى بنغازي، حيث كنت بصحبة زوجته وابنه وشقيقه وصالح جعّوده. وفي اليوم الثاني تم تشييعه ودفنه في مقبرة العائلة في بنغازي.
بعدما عثر على جثة الكيخيا أجريت عليها الاختبارات للحمض النووي DNA فتأكد أنها تعود إليه وليس لـ موسى الصدر. وكان وزير خارجية لبنان عدنان منصور قد جاء للتثبت منها، ولكن من دون جدوى، فقد ضاعت آثار الصدر ولم يعثر على جثمانه إلى الآن. وقد أقيم احتفال ضخم في طرابلس (ليبيا) كان لي الشرف في حضوره وإلقاء كلمة فيه، كما حضرت وقفة في بنغازي وألقيت كلمة في الساحة التي انطلقت منها الثورة.
وبقدر ما كان فرح مخلوف كبيراً بما تحقق فقد كانت مخاوفه تكبر بسبب تردي الأوضاع وتفشي ظاهرة العنف وانتشار السلاح، ناهيك عن التداخلات الخارجية.
سمات شخصية
وعلى المستوى الشخصي أقول كان مخلوف شجاعاً غير هيّاب، كما كان كريماً بلا حدود، ولعل كل شجاع كريم، كما كان صريحاً لا يخشى في الحق لومة لائم، فهو حين يكتشف أنه أخطأ يتراجع بكل أريحية وجنتلمانية، وتلك صفات الرجال الذين يعتدّون بأنفسهم. لقد جرّب مخلوف الكثير، فتصعلك أحياناً وتمرد واهتدى وثار واستقر وعاد، وفي كل تلك كان مؤمناً حقيقياً وهو مفطور على عمل الخير ومحبة الناس، إضافة إلى كونه متديناً على طريقته الخاصة، ملتزماً بأداء الفرائض، وخصوصاً في شهر رمضان، من دون تعصب أو انغلاق.
في لقائي الأخير به بطرابلس، شعرت بأنه تغيّر كثيراً وأصبح أكثر ميلاً إلى التأمل، قليل الكلام وهو المبادر وأقرب إلى الحزن منه إلى الفرح، وأكثر تشاؤماً منه إلى التفاؤل، بل إن شخصيته المرحة وروح المزاح التي كانت تسكنه، لا سيّما مع من يحبهم غابت أو ذبلت، فقد كانت الخيبات كبيرة والمرارات واسعة، باشتداد التوتر وبدايات الاحتراب الداخلي، والاستقطابات الحادة والمحسوبية والمنسوبية وتفشي النعرات الجهوية والهوّيات الضيقة والانتماءات الفرعية.
أتذكر قوله لي في طرابلس، ما بالكم أنتم العراقيون تقتلون بعضكم بعضاً، لقد عرفتكم في لندن ولسنوات ولم ألحظ مَن السني مِن الشيعي بينكم، ومَن العربي مِن الكردي، ومَن المسلم مِن المسيحي، ربما كنت أميّز اليساري من الإسلامي، والمعارضة من أتباع النظام، لكنني لم أرَ أية إشارات لما هو عليه عراق اليوم. ولم يكن يخفي مخاوفه من أن التفتت والتمزق والتشرذم قد ينتقل إلى المجتمع الليبي حتى وإن كان بعناوين مختلفة.
لقد إلتقى مخلوف بالسيد محمد بحر العلوم وكان من محبّيه وكان الأخير يلاطفه أحياناً بقوله: تعطونا القذافي، نعطيكم صدام... ما رأيك؟ كان مخلوف يتردّد أحياناً في الجواب ليقول له لا نريدهما الإثنان، نريد العراق واحداً موحّداً ونريد ليبيا حرّة. وقد رحل مخلوف ولم يكحّل عينيه بتلك الأماني النظيفة، فانكسرت أحلامه، فلم يرَ العراق كما عرفه وكما أراده، ولم يتذوّق طعم الحرية في ليبيا، لأنها أصبحت ممزوجة بالدم والاحتراب الداخلي والتدخلات الخارجية.
كان مخلوف مثقفاً حقيقياً، خارج دائرة الأيديولوجيا، أي أنه بعيد عن النسقية، وكان للعقل مكان كبير عنده مع إيمانه العقيدي، فبالعقل يمكن إصلاح ما تعسّر عقلياً، وبالانفتاح يمكن تجاوز الانغلاق، وبالحرية يمكن التخلص من آثار الاستبداد، وبالتنمية يمكن القضاء على التخلّف. هكذا كان حلمه عروبياً إلى حدود كبيرة، وإن لم يكن مع الفكرة القوموية المنغلقة، وكان يعتز بلغته العربية وثقافته العربية - الإسلامية، ويعتبر ذلك هوّيته التي لا يتنازل عنها، ولن تزعزعها أية محاولات اغترابية برغم عيشه في لندن، لنحو عقدين من الزمان، حيث غادر ليبيا وهو فتى يافعاً وعاد إليها وهو كهل، لكنه وإن كان متشائماً بما حصل، إلاّ أنه ليس يائساً. فقد كان الأمل يطيب فمه، مثلما ينوّر عقله.
لقد خسرتُ برحيل محمد مخلوف صديقاً أسرني منذ اللحظة الأولى للقائه، وقد تقاسمنا  الهموم والمرارات والخيبات  على مدى ثلاثة عقود من الزمان، كما تقاسمنا الأحلام والآمال، والذكريات. حقاً فجعت حين سمعت بخبر وفاته الموجع. وحين طلب مني الصديق عمر الهوني المشاركة في كتاب يصدر عنه انتظرت كي أخرج من حالة الحزن والأسى التي أصابتني، فما تصوّرت استعجاله بمغادرتنا، إذ ربما أراد أن يمزح معنا على طريقته، بقوله: تباً لحياتكم التعيسة، ها أنذا راحل إلى حيث الخلود الأبدي.
لروحه الرحمة ولنفسه السلام 
محمد مخلوف لا نقول وداعاً...
محمد مخلوف... نقول اشتياقاً.
* باحث ومفكر عربي.
نشرت في كتاب : مشوار محمد مخلوف، الوكالة الدولية للترقيم الدولي الموحد للكتاب، دار الكتب الوطنية، بنغازي – ليبيا، ط 1، 2021.
 
 
 
 
 
               
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون