حوار الوطني في ظلّ السرديات المغلقة!!؟
2022 ,18 كانون الأول
*د.خالد شوكات :صوت العرب – تونس.
"إذا أغلقت الدائرة تظلّ الحقيقة خارجها - طاغور شاعر الهند العظيم".
أنهينا يوم الخميس 15 ديسمبر، بمعية رفاقي واخواني في المعهد العربي للديمقراطية، مشوار الماراطون الحواري الذي أطلقناه في 6 أكتوبر  الماضي، حيث خضنا اثنتي عشرة جولة متفاوتة الحجم من حيث المشاركة، شارك فيها قرابة المائة شخصية مدنية وسياسية، من بينهم وزراء سابقون ونواب ومفكرون وخبراء ومسؤولون في قطاعات متعددة ورؤساء أحزاب ومنظمات وجمعيات ونقابيون وقادة شباب،   مثلوا   الطيف السياسي والفكري الواسع ، يسار ووسط ويمين، اسلاميون واشتراكيون وقوميون عرب ودساترة وأخرون..
لقد لبّى نداء "المصير الديمقراطي"  من تخلّى عن الاطروحات الاقصائية من كل عائلة سياسية، وآمن بأن تونس تسع جميع أبنائها، وأن النقد والمراجعة والتقييم مسؤولية جماعية مطلوبة من الكل، وأن التفكير في المستقبل وصناعة البدائل يجب يكون عملاً تشاركيا منفتحا على جميع التيارات والاتجاهات، وليس عملا انفراديا يمرّر على التونسيين بمنطق الأمر الواقع والقوّة الصلبة، ولهذا فقد كانت  جلسات الحوار هادئة وبناءة تعكس صورة حضارية وديمقراطية عن تونس التي نريدها ونتطلع إلى المساهمة في بنائها.
جاءت فكرة برنامج الحوار الوطني "المصير الديمقراطي" من منطلق الرأي الذي يعارض الانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي من جهة،  ولكنه يعتقد من جهة ثانية أن هذا الانقلاب كان نتيجة مجموعة من الاخطاء الاستراتيجية الكبرى التي ارتكبت خلال العشرية التي سبقت 25 جويلية 2021، والتي تقتضي التوقف عندها والاعتراف الجماعي بها والسعي إلى أخذها بالحسبان في كل جهد قد يبذل لبلورة بديل مستقبلي، هذا البديل الذي يحتاج إلى جانب الجهد النضالي والميداني المعارض، جهداً فكريا وبحثيا وسياسيا وتوثيقيا وتوافقيا  لا يمكن أن يتحقق إلا عبر قبول القوى الديمقراطية بالجلوس معاً على طاولة التفكير والتدبير والقرار المشترك.
لكّن الصراحة تقتضي القول بأن الغالب على النخب ، ومن وارائها قواعدها في العمل السياسي والمدني، ما تزال مشدودة إلى ما يمكن أن نسميه ب"السرديات المغلقة"، وهي السرديات التي ظلّت متحكّمة في العقل السياسي الوطني، طيلة سنوات الانتقال الديمقراطي العشر وما بعدها، إذ كلّما حاولنا تجاوز هذه السرديات كلّما وجدنا أنفسنا نعود إليها رغم وجود مائة دليل ودليل على تهافتها.
ومن أهم هذه السرديات مثلا سردية "الثورة والثورة المضادة " فعلى الرغم من أن الثورة قد أوتيت من مدخل "ثوري/ثورجي" وعلى أيدي رجل لطالما قدّم نفسه باعتباره "ثوريا نقيّا" أو "ثوريا يعقوبيا" صوّت له بكثافة جلّ المؤمنين بهذه السردية، إلّا أن كثيرا ممن يعتقدون بأنهم "أنصار الثورة" غير مستعدّين لنقد  تصوّراتهم ومراجعتها، متمسكين بفكرة أن الثورة قد أوتيت من قبل المنظومة القديمة برمّتها، على الرغم من أن خريطة معارضي الانقلاب تثبت أن الكثير من الدساترة مثلا متمسكون بالديمقراطية ومعارضون على الانحراف الشعبوي، وأن الكثير من المحسوبين على المعسكر الثوري كانوا وراء الانقلاب ومن الداعمين له.
السردية المغلقة الثانية هي تلك التي رأت في الثورة التونسية وثورات الربيع العربي مجرّد مؤامرة خارجية على الدولة الوطنية، على الرغم من أن سيرة الانظمة الاستبدادية العربية تتضمن كل الاسباب للثورة عليها ، وأن حركات الاسلام السياسي تتحمّل وزر هذه المؤامرة، وأن تصحيح الاوضاع يقتضي نبذ الاسلاميين ومقاطعتهم وعدم الحوار معهم وتحميلهم ومن رضي بالتوافق معهم والعمل الى جانبهم، مسؤولية الاخطاء التي جرت ، بما في ذلك الانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي..
وإلى جانب هذين السرديتين ، ثمة سرديات أخرى عديدة تتبناها تيارات سياسية وايديولوجية ما تزال متشبثة بمنطق امتلاك الحقيقة، سواء الحقائق التاريخية أو تلك المستقبلية، فيما يبدو لكل ذي نظر وقناعة ديمقراطية أن الانخراط الصادق في النظام الديمقراطي لا يمكن أن   يستقيم إلا  عند التسليم بحق كل من يؤمن بالعمل السياسي المدني والسلمي بالوجود والنشاط وبأن التداول السلمي على السلطة يقتضي بناء أرضية مشتركة تتضمن الحد الادنى من المشتركات الوطنية. 
عندما انطلق الحوار في اطار لقاءات المصير الديمقراطي، كنّا واقعيين  في سياق ديمقراطي مبدئي رافض لمنطق الاقصاء وعقلية الاتهام، ولم  يكن من أهدافنا هدم الجدران والحواجز التي أقامتها جماعات التونسيين من حول أنفسها مرّة واحدة، بل كان منتهى الطموح أن نحدث ثقوبا في هذه الجدران والحواجز المقامة، على أمل انهيارها يوما ما نرجو ان يكون قريبا، بالمثابرة والتصميم والحوار..متسلّحين بشعار "سيقهر الماء صمّ الحجر"..
لقد اجتهدنا في الطريق الصحيح، أيّا كانت سرعة المركبة التي امتطينا ..لكنّنا نفضّل على أي حال السير بسرعة محدودة في الطريق الصحيح ، طريق الشراكة والحوار وتعظيم المشتركات بين التونسيين وتشجيعهم على التقييم والمراجعة واعادة بناء جسور الثقة بين بعضهم ومع الرأي العام،  على السير بسرعة عالية في الطريق الخطأ، طريق العناد والانغلاق واحتكار الحقيقة والاقصاء..
وفي الاسبوع الاخير من الشهر القادم من السنة الجديدة، سنعرض في اطار منتدى المصير الديمقراطي الاول نتائج ما توصلنا إليه  طيلة ثلاثة أشهر من الحوار، وسنتقدم بمبادرة لاستعادة مسار الانتقال الديمقراطي، نرجو أن تجد القبول والتجاوب لدى القوى المعنية بالاصلاح والتغيير.
*كاتب ووزير سابق من تونس.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون