قراءة في ستار ( كتاب الأدغال ) لبوب ويلسون ..
2023 ,31 كانون الأول
يوسف الحمدان :صوت العرب – البحرين.
اعتادت تقاليدنا المسرحية في العلبة الإيطالية على مقتضيات الفرجة والتلقي المعهودة منذ تم اختراع هذه العلبة في القرن السادس عشر  ، حيث توظف الستار لمشاهدة العرض عند رفعها وإسدالها عند نهاية العرض ، أي أن استخدامها كان وظيفيا تقليديا بامتياز. 
ولكن الذي أدهشني هو أن المخرج المفكر بول ويلسون في عرضه ( كتاب الادغال ) الذي استضافته أيام قرطاج المسرحية في دورتها ٢٤ ، عاكس هذا التوظيف التقليدي للستار، حيث جعل منها فضاء مسرحيا ذا دلالات فنية عميقة جدا قبل بدء العرض وأثنائه وبعده، فكانت الستار هذا الكتاب الذي تتبين من خلاله تاريخ الأدغال وحياتهم بمختلف تنوعاتها البيئية والجمالية والدلالية  ..
البعض عندما يرى الستار مسدلة ينتظر متى يبدأ العرض، ولكنها في حقيقة الأمر استوقفتني شخصيا قبل بدء العرض وذلك من خلال خروجها على السائد اللوني المصمت لستائر المسرح، إذ أنك تكون أمام أو في مواجهة ستار متداخلة الألوان تقرأ وترى في كل زاوية منها لوحة قد تبدو تجريدية أو سيريالية الاتجاه  وتتعاضد هذه اللوحات وتتواشج وتتقاطع مع إضاءات مسرحية موظفة توظيفا جماليا ديناميكيا دقيقا، بحيث تدعوك لتخيل المشاهد المسرحية قبل بدء العرض مثلما تدعوك لتأمل وقراءة العلاقات اللونية والبصرية والسيميائية بين هذه اللوحات المجردة والإضاءة ..
قد يأتي من يفسر أو يقرأ هذه العلاقات بوصفها ضرورة لعرض استعراضي للأطفال والناشئة، وقد يأتي من يقرأ هذه العلاقات بأنها بيئة الأدغال التي يقتضيها العرض، وقد يأتي من لا يراها سوى ستار لا يختلف عن الأسترة التقليدية للعروض المسرحية، ولكن حين يبدأ العرض تكتشف أو تتبين أن هذه اللوحات تنسجم وتتحاور مع جسد العرض الحي نفسه، من حيث وجوه وازياء المؤدين للعرض ومن حيث استثمار هؤلاء المؤدين لكل قطعة لونية وضوئية في هذه الستار، بل إن دخول واختفاء أو اختباء المؤدين في العرض يتشكل من خلال هذه الستار لتصبح هذه الستار فضاء مسرحيا حيا تتقاطع فيه العلاقات بينها وبين المؤدين وكما لو أنهم جزء لا يتجزأ من هذه الستار أو كما لو أن هذه الستار مؤد حي لا يختلف تماما عن المؤدين في العرض، فالستار في هذا العرض صفحات (  كتاب الأدغال ) وهي مخابيء السحر المباغت الجميل والمبهر فيه وهي بوابات الحلم والدهشة والكوابيس والأحداث المباغتة، وهي الأزياء التي تتطرز وتتوشى بها أجساد المؤدين وهي ماكياج وجوههم الغرائبية المتعددة وهي الأصوات الفاقعة والهادئة 
وهي الأجساد البشرية والحيوانية والغرائبية الراقصة والمتمطية والقافزة والاكروباتية والاستعراضية، وهي الضحكات المكتنزة بألوان الروح والبهجة والسخرية، وهي الحياد اللوني والبصري المعبر والمتحرك..
وهنا تكمن عبقرية بول ويلسون الإبداعية على صعيد السينوغرافيا الحية التي لا تنفصل عن أجساد مؤديه وارواحهم وألوانهم وكما لو أن العرض برمته تم رسمه وتجسيده من خلال هذه الستار العجائبية الساحرة المخاتلة التي تدعوك لتخيل حضور الفنانين السيرياليين الباذخ من أمثال كاندينسكي وإخوان ميرو وشيغال ودالي..
إن ويلسون في ( كتاب الأدغال ) ينحت اللون والقماش والخامات الستارية والضوء بالقدر الذي ينحت فيه أجساد مؤديه كي يخلق لنا عالما مذهلا مدهشا ساحرا مثيرا لأسئلة الخلق نفسه ، إذ يجعلنا في لحظات أمام تأمل ومراقبة اللون أو الضوء نفسه وهو يتحاور مع الموسيقى، مثلما يتحاور أيضا مع فضاء أسفل الركح أو الخشبة وكما لو أنه يدشن من خلال فضائها اللوني والضوئي جسد ستاره الغرائبي لنكتشف من خلال هذه العلاقات الحوارية العمودية والأفقية حياة تنمو وتتشكل في كل سانحة مشهدية ، وكما لو أنه يدشن كتاب الأدغال وصفحاته وفق حروف وصور ولوحات حية تنمو وتتشكل في التو واللحظة لتجعلنا اسرى أمام أسئلة الخلق الابداعي في المسرح..
إنه فيلسوف الصورة وخالق الحياة المغايرة فيها والثائر والمتمرد على كل أشكال المسرح التقليدي والحداثوي، الذاهب نحو تشكيل الروح وبث الحياة في تفاصيلها اللابشرية المجاورة..
لقد استوقفتني ستار ويلسون طويلا قبل بدء العرض في المسرح الكبير بالمدينة الثقافية بتونس وكما لو أنها تزحف بتعدد جمالياتها ودلالاتها البصرية  الغرائبية نحوي أو نحو المتلقي بقوة لتسكن وتستقر في روحه ورأسه واسئلته..
في هذا العرض وحدها الستار التي لم تفتح ولم تغلق لأنها العرض كله ..
شكرا قرطاج لأنك دعوتنا لمشاهدة رؤية عميقة تدعونا لأسئلة تسكن الرأس وتشغل فيه مساحات جديدة لكيفية الخلق الإبداعي في المسرح ..
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون