مهرجان الدن الدولي.. مسرح الشارع :( المحطة ) الإماراتية تعبر بنا نحو المتخيل والدلالي ..
2023 ,22 تشرين الثاني
يوسف الحمدان : صوت العرب – البحرين.
تمتعني و تستوقفني العروض التي تتأسس وتتكيء وتنهض وتنطلق من خلال الورش المعملية في المسرح واختبار طاقة الجسد والروح والرؤية وفضاء العرض المسرحي فيها، ذلك أنها ومن خلال هذه الورش المختبرية ستفتح أفقا واسعا  لأسئلة التخلق والبحث والاستقصاء في المسرح واتجاهاته ..
 ومن بين هذه العروض المسرحية التي استوقفتني في مهرجان الدن الدولي( فرع مسرح الشارع ) عرض مسرحية ( المحطة ) لمؤسسة ( ربع قرن للمسرح وفنون العرض )  الاماراتية، إخراج وتأطير الفنان عدنان سلوم ، تأليف وأداء الفنان الشاب عبدالله صالح ..
هذا العرض الرشيق الأنيق لم يحتج للكثير من الاكسسوارات والمعدات المساعدة كي ينجز ويتحقق، ويتم عرضه أمام الجمهور، فقط كان كل زاد هذا العرض حقيبة سفير صغيرة ( hand bag ) تحتوي على هذه المعدات ومظلة وأزياء بسيطة لا تتجاوز حدود الاستخدام الفردي للمؤدي وإن تعددت وظائفها ودلالاتها.. 
وتبدو الحقيبة وكما لو أنها عدة الحاوي التي يمتع بها نفسه والمنتظرين من رواد المحطة قبل وصول القطارات التي ستقلهم إلى أماكن أعمالهم أو بيوتهم أو استراحاتهم، أو كما لو أنها المحطة الموازية لهؤلاء الرواد الذين يقتلون الوقت من خلالها بالتسلية بمهارات( الحاوي ) المتعددة والمثيرة لفضولهم..
إنه يدعونا لانتظار جميل خال من الملل أو الضجر من خلال مسلياته الخاصة بها ..
إن هذا النوع من الأداء المهاري المتعدد والمتلون يحتاج إلى دربة جسدية عالية تقتضي جهدا مضاعفا ومتنوعا في التدريب ، وقد وفق المخرج والمؤطر الفنان عدنان سلوم في إعداد هذه الطاقة الادائية الشابة ( عبدالله صالح ) وفق ما تقتضيه المواقف والحالات التي ينبغي أن تكون عليها شخصية الحاوي ، حيث الخفة الحركية التي يتبادل من خلالها وعبر جسده المعدات التي يتعامل ويتفاعل معها في العرض ، وحيث الاستحضار المدروس لايقاع شارلي شابلن الحركي وتعامله مع قبعته ومظلته، وحيث تحويل هذا 
 المؤدي إلى كائن أشبه بالدمية أو الماريونيت ، وهي من مهارات المخرج عدنان سلوم المعروفة في اشتغالاته العرائسية والدميوية والتي أضافها في هذا العرض إلى خبرات المؤدي عبدالله صالح ليصبح بذلك كائنا متعدد المهارات بطاقته الجسدية اللافتة ، بجانب اشتغالات سلوم على ضرورات ومحفزات عضلة المخيلة لدى المؤدي وذلك باستثارة فضول المتلقي حول محتويات الحقيبة وأسرار كل قطعة فيها ومساحات التعامل الحركي معها ، القبعة وإمكانات تحولاتها الحركية والدلالية ، المظلة المطر والحبيبة، والحوار الافتراضي بين جسد حي وآخر مستعار، والقفاز الذي يفسح استخدامه بيد واحدة لتخيل جسد آخر متخيل أو حقيقي، بجانب البكرة الارتدادية الصغيرة التي تحتاج من المؤدي دربة كافية كي يجعل منها مادة ادائية ودلالية في العرض المسرحي ، كما أنه ومن خلال هذه الدربة التخيلية يفسح المجال واسعا أمام مخيلة المتلقي وهو ينتظر ما سوف تؤول إليه كل حركة أو لعبة مكتشفة أو مكشوفة أو متخيلة أو غير متوقعة..
كل هذه الحالات التخيلية والاستدعائية في هذا العرض لم تصرف اهتمام المتلقي عن متابعتها بالرغم من أصوات القطارات المتكررة الصادرة عن المؤثرات الصوتية، وكما لو أن المتعة التي منحها هذا المؤدي الحاوي لمتلقيه سوف لن تتوفر إليه لو تركها وغادر المحطة إلى القطار ، أو كما لو أنها تحدث في القطار نفسه لا في خارجه.. 
وقد وفق المخرج سلوم في تحديد مسار الحركة الادائية للعرض، حيث جعلها في خط مستقيم توازي حركة القطارات المستطيلة في الغالب بمحطات الانتظار ، ولكنه في الوقت نفسه تمكن من تشظية اللحظات الادائية ، الحركية منها والايمائية ، الأمر الذي منح المتلقي فسحة للاسترخاء البصري وفسحة لتأمل ما يحدث على هذا الخط المستقيم وتخيل تعدد ممكناته ومجرياته ودلالاته.. 
لم يجعلنا المخرج في هذا العرض بتعدد مهارات مؤديه الفنان عبدالله صالح بانتظار لحظات الدخول إلى القاطرة، بل وضعنا في لحظات تجعلنا في حيز ما يحدث الآن إن كان حقيقة أو وهما أو خدعة، ولم يجعلنا في حيز انتظار صعب وممل ومضجر، بل جعلنا في لحظات ربما نتمنى معها لو لم يصل هذا القطار ونغادر المحطة ، وحتى النهاية والمؤدي 
يجر الحقيبة باتجاه القطار تجعلنا نتساءل : هل كان القطار قد وصل فعلا أم أنه يمتع نفسه بتخيل الوصول ويمتع في الوقت نفسه متلقي العرض معه ؟..
إنها أسئلة( المحطة ) التي تبشر بمسرح يمكن عرضه في كل محطات القطار في العالم وليس في وطننا العربي فحسب، فشكرا وافرا لمؤسسة ربع قرن للمسرح وفنون العرض الاماراتية التي قدمت لنا مثل هذا العرض المميز والتي ندعوها في هذه السانحة ألا تكف عن اختبار طاقاتها الادائية الشابة في ورشها ومحترفاتها المسرحية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من برامجها التأطيرية ..
وخالص الشكر والمحبة لمهرجان الدن الدولي الذي هيأ لنا فرصة عرض مسرحي شاب لا يقل تميزا عن بعض العروض ( فرع مسرح الشارع ) التي قدمت في هذا المهرجان..
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون