حضور مميز للمسرحية "هادية عبيد" في "رحل":(كوريغرافيا واخراج ثريا بوغانمي) و"مقاطع" (نص وإخراج فتحي العكاري).
2023 ,21 تشرين الثاني
الفنانة "هادية عبيد" في "رحل"
اختزنت المسرحية الشابة هادية عبيد شمس الجنوب ، لون الصحراء، نغم البوادي، وخفة طير "القطا".
د.فوزية ضيف الله :صوت العرب – تونس.
هادية عبيد، ممثلة محترفة، أصيلة دوز (قبلي). انطلقت مسيرتها في المسرح منذ 2007 بالوسط المدرسي، مع الأستاذ فيصل بالطاهر. التحقت بعد ذلك بفرقة بلدية دوز للتمثيل، فشاركت في عدة أعمال مسرحية: "حكمة قاضي، ذنب حصان، الأجنحة السوداء، الإدمان، لن أعود، الأرواح الراحلة، صابرة، لهيب الروح، ..". وقد توجت أعمال مرحلة مسرح الهواية بجوائز عدة: جائزة أحسن ممثلة أولى في المهرجان الوطني بالوسط المدرسي بقبلي، جائزة أحسن ممثلة ثانية بدور الشباب والثقافة بمدنين، جائزة أحسن ممثلة واعدة في المهرجان الدولي بالجزائر، جائزة العمل الثاني في المهرجان الوطني بالكاف وجائزة لجنة التحكيم بالمهرجان الدولي بتوزر.
التحقت سنة 2017 بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح بالكاف، وكانت الأولى على الدفعة المتخرجة منه سنة 2020، لتواصل مسيرتها البحثية بالماجستير بالتوازي مع مسيرتها الإبداعية بالمعهد العالي للفن المسرحي بتونس.
انطلقت هادية عبيد، منذ قدومها الى تونس، في تجربة فريدة مع الفنان المسرحي فتحي العكاري، في مختبر الممثل الباحث، و أنتجا معا مسرحية "مقاطع" وتمثل فيها هادية دور "رملة" التي تحتفل بحصولها على جائزة نوبل للحب.
كما كان لهادية تجربة في الحضرة مع الفنان الفاضل الجزيري، ومع المخرج حافظ خليفة في مسرحية "الكوميديا الالهية "(نص لسعد بن حسين)، وشاركت كذلك في "ملحمة صحاري الحب" التي أخرجها المسرحي حافظ خليفة أيضا. وقد تحصلت هادية على جائزة أحسن ممثلة من الاتحاد العربي للثقافة لسنة 2022 عن عرض "الصعاليك" اخراج صابر الحامي. 
كان لها حضور مميز في العروض الكوريغرافية التي شاركت فيها مثل عرض "صابا" مع المخرج حافظ زليط، وعرض "رحل" مع ثريا البوغانمي. وكانت لها تجربة تلفزية مع المخرج الليبي أسامة رزق في مسلسل "السرايا" وقد اثثت بعض الومضات الاشهارية وقامت بتربصات عدة ومختلفة في فن الممثل وغيرها ومازالت تواصل مع الأستاذ فتحي العكاري تجربة "المسرح المنزلي" (le théâtre à domicile).
1- الكوريغرافية هادية عبيد، ملمح من ملامح جسدانية الابداع النيتشوية.
لا يمكن أن ننكر أن المسرح والكوريغرافيا كانا اول المستفيدين من الثورة التي شنتها الفلسفة انتصارا لتعبيرية الجسد، وتجاوزا للاطروحات التقليدية التي جعلته قبوا للنفس، وميزت بينه وبين الروح. ولعل تعبيرية الجسد التي مرت من مجرد الإشارة الى تساويه مع الفكر (سبينوزا)، الى كونه يحقق ضربا من التحايث المتجسدن مع الفلسفة الفينومينولوجية، فيسمح برؤية العالم و العودة إلى المعطيات الأولى للوعي والادراك، فصار الحديث مع مرلوبونتي عن جسد معبر وعن تعبير متجسدن. بيد أن نيتشه أشعل نار متوهجة في ثورته على كل الاقصاءات التي عاناها الجسد تاريخيا وفلسفيا، فصاح "انا جسدي"...فكان أن جعل من الجسد موطنا للإبداع الفني، وكانت الغرائز انبجاسا لفلسفة الحياة الحقيقية، تلهم الفنان والمتفرج وتجعل من حركة الحواس تجاه الأشياء والألوان ضربا من المشهدية العميقة، تؤول الفكرة وتصنع المعنى.
كانت استفادة المسرح جليا من الكشوفات الفلسفية، فكان أن استعاض عن الكلام باللغة الجسدية، ووظف تعبيرية الملامح والرقص بكل أنواعه..وصار العرق المتصبب من الجسد علامة على انبجاس مختلف لمعنى الحياة. وقد كان ذلك جليا في اللوحات الكوريغرافية المصاحبة للعروض المسرحية التي يمكن أن تعوض فصلا بأكمله، يقع تمثيله بالرقص والتجسدن المتلون.كما يحضر في العروض الكوريغرافية المحضة. على سبيل الذكر لا الحصر، عبر العرض الكوريغرافي "رحل" لثريا البوغانمي عن ابداعية الجسد ، من خلال عرض كوريغرافي محض مصحوب بنصوص مسموعة. وقد جاء العرض تعبيرا عن ترحال وجودي، ينتقل فيه الإنسان مترحلا من كيان الى آخر بحثا عن مقام وجودي ما. يكون الترحال، عنيفا عنف الجسد الثائر، صاخبا صخب الكينونة، مشحونا بالسؤال الذي يحركه في كل مرة، يأكل من لحمه السارد ويقتات على نبض العضلات المنهكة والمتلذذة بالصراع. يحتاج مبحث الوجودية بصادية ما، ويواصل سيره المتوحش نحو المعنى المبحوث عنه في صحراء المعنى. يرتج الجسد، يرتعش لذة وصخبا وغضبا، تخرج بعض الشخوص عن القطيع وكأنها تبحث عن توحد وعزلة مختلفين، لتجريب وجود آخر يراوح بين عبثية البار كامي وعدمية نيتشه. كما يراوح بين وجودية هيدغر الكاثوليكي ووجودية ساتر الثوري. ينسحب المعنى ويضيع وسط السراب، يتقاطر العرق وينضب المعنى..غير ان الرحلة متواصلة في غموض داهم وعمق قاتم وسر غائم..
يطوي الإنسان الأرض، باحثا عن المعنى، غير انه يهدم في كل مرة ما تحصل عليه..وكأنه سيزيف الذي انهكه مسعاه. لقد كانت اللوحات الكوريغرافية على وقع موسيقى نصر الدين الشبلي، لوحاتا تنهل من العنف نفسه، فتشير الموسيقى كما الرقص الى أن المعاني توحشت مثلما توحش الوجود واننا في زمن التوحش المتجمل، هي جمالية القبح الثائر على كل شيء..ويعود التوحش متوحشا ليستنبط من نفسه لغة عنيفة يمكنها فهم ما يحدث من فوضى وتحسس الشعور الذي مات تحت انقاض اللامعنى.
ساهم في آداء العرض الكوريغرافي "رحل": قيس بولعراس، ثريا بوغانمي، حسام الدين عاشوري، هادية عبيد، عز الدين بشير، أسماء مروشي، اسامة شيخاوي، بوبكر غناي.
سينوغرافيا صبري العتروس وحسين التكريتي. كوريغرافيا وإخراج ثريا بوغانمي.
ونصوص عبد الحليم مسعودي بأداء صوتي لمحمد شعبان.
2-مقاطع من الحب والجمال، تمدح الحب وتسلخ الواقع ضمن احتفالية النشوة والقسوة
استوحى المخرج فتحي العكاري نصه "مقاطع" من المحاورة الافلاطونية "المأدبة " وهي محاورة في الحب والجمال، يحتفل فيها اغاتون بحصوله على جائزة أحسن تراجيديا.
تحتفل "رملة" (هادية عبيد) بحصولها على جائزة نوبل للحب، فتستدعي صديقها للسهرة عندها احتفالا بهذا الحدث. يوحي المكان رغم جمالية الألوان والاضواء بقسوة ما، تتجلى في مكان الإحتفال(بيت الراحة)، وهو نفسه الذي مكثت فيه رملة طيلة مدة كتابتها للكتاب المتوج. تستظهر رملة بالمخطوط، الذي تعترف انه قد من دمها، لنرى ما معنى أن يكتب الحب من الدم الذي تسحبه الممرضة من الكاتبة كل أسبوع. تتحول أجواء اللقاء من الفرح الى الشجن، وتبكي رملة حرقة على غياب الحب في حياتها رغم أنها توجت بجائزة نوبل للحب..
تتغير الأضواء..وكذلك المزاج..تصدح رملة بصوتها وترقص نشوى...ايذانا بدء الإحتفال..غير ان الديكور لا يتغير..كرسيين و "مبولتين " كناية عن مارسال ديشون وقسوة ارتو و مسرح جون لكوك . تواصل المشهدية المراوحة بين النشوة والقسوة، وتواصل رملة المراوحة بين غنائية الجسد وانتشاء البكاء الممزوج بالغناء. صوت جنوبي..يجيد آداء مقاطع الشجن، ويجيد تقليب مقاطع الروميات والصوفيات، شطحات مترنحة على سطح الحب المفقود.
يستدعي فتحي العكاري، مخرج مقاطع وكاتب النص، رملة الى كتابة جسدية مختلفة، أدركت رملة أن الحب لا يكتب في المحاورات والكتب ولكنه يغترف بأكمله على ركح المسرح، وأن الجسد عليه ان يتكلم لغته ويصمت اللسان فلا يجود الا بهمهمات..وضحكات تبعث على الانتباه أكثر الى الحياة.
3-مقاطع من القسوة لفضح القبح.
تنتهي "مقاطع" الى استفراغ ما عسر هضمه، وما كان خاليا من الجمال والحب. فيثير المشهد الأخير استفزاز الحضور لتذكيره بأن الشوكة العالقة في الجسد لا يمكن نزعها الا بمحاكاة قسوتها. بل أن القسوة تحاذيها استراتيجية القبح المتعمد، لفضح العفن الذي تكاثر، في صفوف جميع الاطياف السياسية والفنية والثقافية. فيستخرج فضلاتها، مستنكرا قبح الفضاعة التي تسربت الى العالم.
4-مقاطع من الجمال الصوفي، الاغتسال والتطهير.
تدخل رملة في حالة غثيان، تليها مرحلة من الرقص الصوفي، على طريقتها، على وقع كلمات مختلفة، تطلب اللطف، في غير موعده، خارج أطر القداسة المعهودة، ووفق طرح مسرحي قاس، يراوح بين الرقص والضياع..ثم يرافقها صديقها في سفرة الرقص المتوهج. و تتخمر الأجساد والأجواء والاسماع والابصار.. حد الانهاك.. وأمام سطلين من الماء تنتهي رحلة الاغتسال والكاتارزيز، بلطخ الماء ورميه على الوجه والجسم، في حالة الجلوس المستنفر..تتراقص المياه عاكسة لون الأضواء في سينغرافية جميلة...تمسح قبح العفن الذي استفحل وتغير ذائقة التقبل من المدنس الى ماوراء القداسة...شفافية الماء...وكان مقاطع الحب والجمال تبحث عن نقاء وعن شفافية لا يمكن للاديان أن تتدخل في نظمها أو تحكم عليها بالفناء.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون