الهروب من التوبة:حكاية متشظية وتساؤل فلسفي عن تداعيات الخلق اللغوي والنفسي لمفهومي "الذنب" و"التوبة" .
2023 ,08 تشرين الثاني
د. فوزية ضيف الله:صوت العرب – تونس.
اعتبارات أولية: 
ثمة نصوص مسرحية تتخلّص من الكتاب والنقاد بشكل مريع، ربّما يوجد في حروف كاتبها ألغاز ما جاء يريد إعادة التفكير في حلّها، أو لانطوائها على أسئلة وجودية يدفعك إلى طرحها عليك وعلى نفسه، للتفكير فيها معا، وفق تصور جمالي وإخراجي ما. 
"الهروب من التوبة" هو عمل مسرحي جديد لمركز الفنون الدرامية والركحية بتوزر، نص الكاتب والمخرج المسرحي العراقي فلاح شاكر وإخراج المخرج التونسي عبد الواحد مبروك. تطرح المسرحية قصة ثلاث شخصيات تُعاني قلقا وجوديا ونفسيا، يشحنه الشعور المتواتر بالذنب الأزلي.
عندما التقيت الكاتب المسرحي فلاح شاكر، بمناسبة أيام قرطاج المسرحية دورة 2022، وحاورته حول المسرح والفلسفة، فوجئت بمقام تفكّري راق، وكان الحوار معه مراوحا بين عمق الفكرة وسلاسة التعبير. فأدركت أن نجاح مسرحياته يعود الى ذلك الحذق الخفي، في الكتابة المسرحية انطلاقا من التساؤل الفلسفي. ربّما ما جعلني أحاوره هو ذلك الضرب من التشابه بيننا: جئت كما جاء من الفلسفة ومن عمق الجدل والمعنى، وسرنا نحو عشق المسرح رغم صعوبة ثناياه. وهذا التشبيه هو من باب التفسير لا من باب التأكيد. 
في نشوء النصّ من منابع الصداقة:
نشأ النص المسرحي "الهروب من التوبة" من براعم الصداقة التي جمعت المخرج عبد الواحد مبروك بالكاتب المسرحي العراقي فلاح شاكر، وتمّت الكتابة على مراحل من وهج الحديث الذي شب ذات مساء بينهما. كان المخرج عبد الواحد مبروك يحمل هم نصّ عسير الولادة، يستلهم من الصوفية ومن الفكر الصوفي بعض معانيه. ربما تهيّأ للنص أن ينولد على يد أبوين، أو ضمن مجازين وكتابتين: كتابة كانت بمثابة الصدح الأولي وكتابة جاءت تحفر من جديد في هذا الصدح نفسه. ولعل المبهم في الأمر أننا نرى الكاتب على الركح مازال يكتب نصه ونرى المخرج من بين الشذرات، يطلب من الكاتب إيضاحا جديدا للحرف الذي رسمه. لذلك ما زال النص يؤرق كاتبه وممثليه، كما أرهقني وأرهق المتابعين له. لا يُمكنك أن تُشاهد مسرحية "الهروب من التوبة" مرة واحدة، وكلما أعدت المشاهدة فقدت قدرا من المعنى الذي تمّ تحصيله، فلا تعرف كيف يُفلت منك ذاك الذي كان بين عينيك؟ وتُدرك عندئذ أن النص المُتشظي لا يُمكنه أن يلتئم لا على الركح ولا على الورق، كما لا يلتئم في ذهن المتفرج. لذلك أتوقع أن العزم على الانتهاء من الكتابة لم يتحدّد بعد، كما لم يتحدّد الانتهاء من تجريب النص من عرض إلى آخر.
في تخفي النص ضمن الكتابة الشذراتية:
ربّما يُريد الكاتب أن يترك للمخرج منافذ لفهمه المُتجدّد، لكنه يُخفي النص حتى عن نفسه. ثمة جدل يحدث بين الكاتب وفلسفة الكتابة، وبين المخرج وصوفية المنحى. وما يجمع بين النص وكاتبه هو الرغبة في ولادة فكرة مقلقة للانسان، تدفع للسؤال، وإلى الحيرة دون أن تصل إلى جواب نهائي. 
لا يمكن أن تكون الكتابة الشذراتية بشكل عام أمرا هينا، وخصوصا إذا كانت للمسرح. لأن الشذرات تعاش فينومينولوجيا، بشكل حدسي وباطني قبل أن تُكتب على الورق. كما يعيشها الممثل والمخرج، قبل كتابتها على الركح. إن الشذرة هي عبارة على تصدّع في ذات الكاتب إزاء ما يحدث للإنسان قبالة نفسه والله والعالم. تتطرق الشذرات إلى أسلوب لا يتكرر لأنه عفوي وعميق، ساذج حد القلق، واضح حدّ الازعاج. تكتب الشذرة في هذا النص نفسها من وطأة الاحساس بضرورة المواجهة بين الذات وذاتها، بين الذات وأفعالها قبالة الزمان والله والعالم. إنها تلك الأسئلة الميتافيزيقية التي تحدّث عنها الفيلسوف كانط في تصديره لنقد العقل المحض، فلا يُمكن ردّها لأنها مفروضة على العقل البشري، ولا يمكن أن نجيب عنها لأنها تفوق حدود العقل نفسه. 
ليست الكتابة الشذراتية، كتابة خالية من المنطق، فقد برهن فلاح شاكر، أنه يكتب وفق نسقية المنطق الأرسطي، محافظا على ما تتطلبه القضية المنطقية من توافق وتلاؤم شديدين."فكيف أطرق بابا وهو مفتوح؟"، وكيف أتوب عن ذنب لم أقترفه؟". لكنه يشحن هذا المنطق التساؤلي بإيحاءات صوفية: "باب الله مفتوح، لكن لا يمكنك الدخول إليه لأنّك لم تعرفي باب القلب حين يلتحف بالمحبة".
فلاح شاكر، تشظي النص وتشظي المعنى: 
كتب فلاح شاكر نصّ "الهروب من التوبة" وفق الطريقة الشذراتية، وهو أسلوب فلسفي نيتشوي، تكون الغاية من مزاولته، تعميق الحفر في زوايا مظلمة، لا يقصد منه تشتيت المعنى بل ضخّه على مراحل وفي أمكنة خفية. لذلك كانت المعالجة الصوفية التي اقترحها المخرج، دليلا له ودليلا للممثل، ليتم النبش في خفايا الروح والخيال، فيما مضى وفيما هو آت من الأحداث. لذلك كان الكاتب لاعبا متمرسا بالزمان. يُحيك الحكاية كأنها قفزات سينمائية مبعثرة هنا وهناك. لذلك بعد أن تُشاهد العرض، سوف تشتغل بينك وبين نفسك على تركيب المقاطع والمشاهد، ولن تحتاج لنظام واحد أو زمن واحد، سوف تُجرّب كل المحاولات التركيبية، وتمزج بين الأزمان والشخصيات والأحداث، ثم تعود منهكا، كأنك عدت من لعبة مضنية لا تنتهي. سوف تفعّل كل مهاراتك الفيلولوجية واللغوية، تبحث في العلاقة بين الهروب والتوبة، بين يوسف والشيخ، بين الذنب والخطيئة، بين الخطأ والخطيئة، بين التوبة والغفران، بين العلم والخلق، بين الأم والمرأة وبين الأمس والحاضر. إنها مفردات متداخلة، نعيش فيها وتعيش فينا، لا نعرف من خلقها فينا، الشعور أم اللاشعور، الأنا المتعالي أم الأعراف التي اتبعناها فجعلتنا نعيش الذنب ونقيضه، نُحصي الورود ولا نقدر على إحصاء عثراتنا، نتهيّأ للتوبة ولا يُمكننا أن نتوب، طالما أننا لم نفهم هل أذنبنا فعلا. 
عبد الواحد مبروك، بين الاخراج والسينوغرافيا والتمثيل:
يعود عبد الواحد مبروك إلى الركح بعد قرابة 27 سنة، في هذا العمل المسرحي "الهروب من التوبة" ليكون ممثلا ومخرجا وسينوغرافيا في الآن نفسه، اضطرارا، لأنه أولا انقطع عن التمثيل وتفرغ للتكوين والاخراج المسرحي، وثانيا لأنه لا يُحبذ الامساك بمهمتي الاخراج والتمثيل في الوقت نفسه، بناء على ضرورة الحفاظ على العين الخارجية التي تراقب وتسير المسرحية عند كل عرض. إن الدور التي أداه عبد الواحد مبروك، في هذه المسرحية هو كذلك دور مركب: من الناحية النفسية ومن ناحية الشخصية. فشخصية الأستاذ الجامعي "يوسف" المختص في علم الاجتماع، وهو زوج وحيدة الجامعية المختصة في علوم الاحصاء، هو في وجه آخر "الشيخ" المتصوف، في ارتقائه الروحي من مقام المذنب إلى مقام العارف بالروحانيات والغفران والصلاة والدعاء والحساب والعقاب، وهو الذي يغير من صورة الامساك بالكتب والملذات الدنيوية إلى صورة الامساك بالبخور وملابس الصوفيين ومظاهر الروحانيين وكذلك أقوالهم وإقبالهم على الردع والنصح. هذا الشيخ الذي يظهر في صورة العارف بما تعانيه "وحيدة"، هو نفسه "يوسف" وقد غير مقام تواجده وغير أفعاله وأقواله وملابسه. يمكن ليوسف نفسه أن يحضر في مجازات مختلفة، فهو المذنب والناصح والخارج من التوبة وكذلك الهارب منها، إلى نفسه فقط. 
فهل يوسف الشيخ هو زمان آخر ليوسف الأستاذ؟ وهل أن تغيير الأدوار بينهما لعبة أخرى تمارس ضد "وحيدة" وضدّ المشاهد النمطي الذي يبحث عن تسلسل خطيّ للأحداث؟
بعد التعرف على الدور المركب الذي مثّله عبد الواحد مبروك، يمكننا أن نفهم لماذا لم يكن قادرا على الاطمئنان لمن يسلمه هذا الدور. ولا يتعلق الأمر بمجرّد رغبة في اتقان تخريج المفارقة بين الشخصيتين، اللتين هما في وجه ما، الشخص نفسه، وإنّما لأنّ شخصية "يوسف" نفسها عي شخصية متشظية في النصّ وعلى الركح، وكذلك تعيش التشظي بينها وبين نفسها، بين الزوجة "وحيدة" والبنت التي جلبت من الملجأ التي تكون هي الأخرى بنته المتبناة وعشيقته.
 
بين عسر الكتابة وتعسّر الإخراج، فيض من المعنى: 
تفوح روائح العسر في الكتابة وفي الاخراج، منذ العنوان. فهذا المسار الخفي المؤدي من التوبة نحو الهروب، هو اشتغال مفاهيمي عكسي على دلالات التوبة وعلى دلالات الذنب والهروب. فلا نحتاج للتوبة مادام مفهوم الذنب لم يقع، ولا حصل الذنب لنفكر في التوبة. فالمشكل لغوي ونفسي، أكثر من أن يكون عقديا أو أخلاقي. لذلك لم يكن إدراج الموسيقى الصوفية وفق تصور كلاسيكي قديم، بل كانت ضربات "البندير" محاكية لهزات الروح وحيرة الفكر، على هيئة مجردة مراوحة بين القدامة والمعاصرة. فتعرض الفيديوهات على الشاشة الخلفية، كأنها تكشف منابع التناول وخفايا التوجه الاخراجي الذي كان الهاجس الأولي للمخرج.
يُقحم عبد الواحد مبروك أهازيج الجنوب الغربي، لمنطقة توزر، كأنه يبحث عن منبت للمعنى داخل الهوية الغنائية لبلدته. تحوم بنا الأغاني، التي لا نكاد نفهمها، فتحملنا نحو قلق وجودي كوني، تصفّر فيه الروح حاملة شكواها وسط فضاء مجرد، ركح فارغ، ألوان خافتة، ونظرات تحملق فينا بلا هدف. تحضر المراوحة بين السواد والبياض، بين الظلمة والرغبة في الصفاء والنقاوة، وبينهما أحمر طفيف، هو الحب والذنب والجريمة والعقاب. 
تنشدّ اللغة المجردة من الاطمئنان، إلى إيقاع غريب، فلا نكاد نعرف هل أن التوبة في العنوان هي مجرد ملصقة لغوية ابتكرها الدعاة، وأن الذنب لفظ هجين على الانسانية، خلقته إرادة ارتكاسية، لم تكن تريد للإنسان إلا أن يشقى ويفنى في تجربة الاحساس الدائم بالذنب، أمام عجزه عن التحرر من الضغينة وأخلاق الضعف. 
احراجات خلق اللغة: أي ذنب وأية توبة؟ اصطلاحية الاسم واعتباطية المعنى
إذا تم الاتفاق على أن الذنب مُتأتٍ من حصول الخطأ، فالكل مخطئون، لكن لفظ "الذنب" يتبعه "ضمير شقي" (نيتشه) يُحول وجهة الأفعال من الأرض الى السماء، ومن اللذة الى الخشية، ومن الرغبة إلى الرهبة ومن الحب إلى الغضب والاثم. معنى ذلك أن المرجعية التي يصدر عنها لفظ "الذنب" والتوبة هي مرجعية مسقطة على الانسان، لا تنظر إليه وفق ما "خُلق عليه" من نقص وميل ونزوع، وإنما وفق ما سطرته الأعراف والأديان. لذلك يقول لبنتس أن آدم لم يخطئ عندما أكل التفاحة، لأن الله خلقه كما أراد بكل ما فيه من ميولات وأخطاء، فهل أذنب آدم فعلا إذا كان قد خلقه الله خطّاء؟ وهل أذنب "يوسف" اذا كانت الظروف كلها تسير نحو ما وقع فعلا؟ وهل أذنبت البنت؟ من المذنب؟ أليس هذا الذي يسمّى ذنبا هو نفسه ذاك الذي يسمى في ناحية أخرى حبّا؟ أم أن "الحب" هو حيلة ترتقي بها الذنوب نحو النقاء؟ 
فحسب منطق الخطأ والذنب، لم تكون "وحيدة" المذنبة الوحيدة، ولا الضحية الوحيدة، كلهم ضحايا وكلهم مذنبون، ضحية واحدة احترقت، لأنها كانت شاهدة ودليلا على المشاركة الجماعية في اثم الحب المذنب، وباحتراقها، يكون اللهيب المشتعل تطهيرا آخر من الإثم أو طمسا للحدث وحدوثا لانزياحات جديدة في المعنى وفي الاحساس. 
ليست الحكاية مهمة، فالمهم هو وطأة الاحساس بها: 
لا يمكننا أن يتصوّر بناء واحدا للحكاية، وتلك ميزة قوية للكتابة وللاخراج، تنفلت المسرحية وتحرّر من النسق، فلا يمكن ترتيب المشاهد ولا الأحداث، لأنها تأتي متشظية رغم ادعاء الملصقات التي تشير إلى التاريخ أنها تضعها وسط الترتيب. ربما تلك الاشارات الزمنية هي مجرد ايهام بالزمان العادي، لكن الزمان، الذي ترويه الحكاية هو زمان مطلق. 
تبدو الحكاية تابعة لتاريخ ما، لكنها تجرّدت من الزمان العادي، لتنخرط في وعي حميم بالزمان الباطني للشخصيات. فنعيش معها تمزّقها بين الاحساس ونقيضه، وبين الزمان المعاش والزمان المتذكر. 
إن الهروب من التوبة، هو هروب في اللغة من اللغة نفسها، لأن اللغة التي سمّت "التوبة" وسمّت "الذنب"، وتداعيات اللغة هي نفسها متأتية مما اصطلح عليه، فمن سمّى الحبّ ذنبا هم الذين نصّبوا أنفسهم أسيادا على الكلام واللغة والمعنى. 
إن الحديث عن هذا "الهروب" لم يكتمل بعد، لأن دلالاته التأويلية تظل منفتحة على معان أخرى وتساؤلات جديدة.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون