مراجعة في العرض المسرحي (رجال في الشمس) .
2023 ,18 أيلول
د.عائشة الجمل:صوت العرب – الاردن. 
أؤكد في البداية على أن النقد هو رافعة للفن وليس أداة هدم.. وأدعو دائمًا للتعاون والصداقة بين الفنان والناقد.
حظينا بأمسية رائعة يوم أمس وشاهدنا عرضًا مسرحيا متميزًا وفيه من عوامل الإبداع والتجديد ما جعل الجمهور يصفق له بحرارة. 
ولكنني أحب أن أبدأ من النقطة التي أشعلت فتيل تفاعلي وجعلت نفسي تتعلق بالعرض وهي المقطع الغنائي الحزين: "شو طالعلك بالبقجة؟   بنطلون وقميصين"  لينفجر خزان الحزن... والحنين إلى ما كانت تحكيه لي أمي وجدتي اللتان عاصرتا عهد (البقجة) التي كانت توزعها وكالة الغوث على اللاجئين وفيها كمية من الملابس التي قد تناسب أفراد العائلة أو لا تناسبهم, ولكن على الفلسطيني أن يرضى بقسمته مما حكم به قضاء المنظمات الدولية وقدرها, وأن يتكيف مع المتاح لأن الجاكيت الفرنجي "بِدّه تغيير الكُمّين " كما قال المقطع الغنائي. 
هذه الكلمات البسيطة التي تلامس أعماق المتلقي وتبدع في التقاط الألم المنبعث من ذل الحاجة والفقر الذي يجبر على الرضا .. هذا الألم الذي تجسَّد في اللحن الحزين البطيء للمقطع الغنائي.. اللحن الذي رافق الكلمات بهدوء ينساب مثل انسياب الدموع من العين .. أوجَعنا.
هذه الإضافة الذكية على نص الرواية والتي استهلّ بها المخرج فتحي عبد الرحمن المسرحية تستحق الإشارة إليها لأنها مثّلت نقطة التعلّق التي أمسكت بنا إلى نهاية العرض, تلك النقطة التي لامست ذكريات عدد كبير من الحضور سواء من عاش تلك الفترة أو سمع عنها من أهله يروونها له بمرارة .. نعم أود الإشادة ببراعة الوقوف على تجليات الألم من خلال هذه الجزئية. 
لكن .. ما شاهدناه في المسرحية هو أن حظ أبو قيس وأم قيس كان رائعاً في ذلك اليوم. فكل ما جاءهما في البقجة كان مناسباً وفوق التوقعات كما في الفستان الأحمر. وهذه الصورة متناقضة مع ما تحمله دلالة (البقجة).. الدلالة الحزينة البائسة المرتبطة بالمعاناة.. فبقجة آل قيس جاءت بالرفاهية التي لم يكن من المألوف أن يحصل عليها اللاجئ الفلسطيني مما أثار لدي تساؤلاً حول مغزى التناقض أو مبرر وجوده في العرض المسرحي. 
كما أن فرحة أم قيس بمجرد وصول البقجة وقبل أن ترى جميع محتوياتها جعلتها تجرّب الكرافة وليس أبو قيس .. أرى أن تلك كانت مبالغة .. وهذه نقطة في سياق أحب أن يكون لها تفسير. 
ولو وضعنا البقجة جانباَ .. وعدنا إلى الخلف لنتأمل المشهد من جديد.. نجد فرقة مسرحية من فلسطين.. فرقة المسرح الشعبي.. قادمة من الأرض المحتلة .. من الوطن الحلم بالنسبة لنا نحن المشاهدين.. حملت هذه الفرقة أحلامها ومعاناتها وجاءت .. جاء هذا الفريق ضيفًا عزيزًا مميزًا ذا خصوصية منبثقة من طبيعة المعارك اليومية التي يعيشها في كل تفاصيل حياته والتي لا يعلم الكثيرون عنها جاء هذا الفريق ليجسد على المسرح رواية رجال في الشمس التي نعرفها والتي جُسدت في السينما والمسرح مرات عديدة. 
فقد بنى غسان كنفاني روايته على أساس الصورة أصلاً, وهذا ما شجع على تحويلها لفيلم سينمائي وعروض مسرحية بسبب قابلية هذه الرواية للمسرحة. 
من تلك التجارب الفيلم السينمائي (المخدوعون) للمخرج توفيق صالح.. وتجربة البانتومايم (التمثيل الصامت) للمخرج سعيد سلامة .. وتجربة بشار مرقص ورؤيته الإخراجية المبتكرة.  
فكان السؤال الطبيعي حول الإضافة التي سيأتي بها هذا العرض . قدّم لنا العرض المسرحي الإضافة فورًا, ولم يتركنا ننتظر, أدركنا منذ المشهد الأول أننا أمام تجربة مزج بين حكايتين حكاية فريق مسرحي يتناقش في رؤية المخرج وفي هموم أخرى مثل ( الخيار والفقوس) وهو المصطلح الدال على الشعور بالمظلومية والتهميش وعدم العدالة . ومثل قضية المنّ (تحميل الجمايل) كما في عبارة: أنا تركت مسلسل عشان أشتغل معكم. ليقدم لنا المخرج رؤيته في نهاية المشهد الافتتاحي حول أهمية استيعاب الممثلين وأهمية المسرح ودوره الحضاري والنضالي. 
ونظن أن الأمر انتهى .. ولكن تتوقف أحداث القصة الرئيسية عدة مرات ليدخل الممثلون ويبدون آراءهم في المسرحية وطبيعة أداء الممثلين أو يقترحون مشهدا إضافيا.. كان هذا نوعًا من التغريب .. ماذا أقصد بذلك؟ 
التغريب مصطلح مسرحي يعرفه المشتغلون بالمسرح وهو اتجاه بريختي مشهور يعني أن تتضمن المسرحية أي فعل مسرحي سواء أكان قولاً أو مشهدًا يذكّر المشاهد بأن ما يُعرض أمامه مجرد مسرحية, وأن أحداثها قابلة للنقاش أو التغيير .. هي ليست سُننًا كونية أو قدرًا حتميًا.. يعني.. أيها المشاهد, لا تنسجم كثيرًا مع القصة ..هذا فقط تمثيل ..وقد يدفع هذا الجمهور أحيانًا للمشاركة وإبداء الرأي فعلاً. 
ولكن .. ما الذي قام به المخرج أو معد النص المسرحي في هذا السياق وما مدى نجاحه؟ 
في التغريب العادي قد يخاطب الممثلون الجمهور أو يقومون بأفعال أمامه تكسر الإيهام لكن التغريب في هذا العرض المسرحي كان تغريبًا مزدوجًا.. داخلي وخارجي -إن صحّ لنا التعبير- فهناك قصة رجال في الشمس التي يتم الخروج منها إلى قصة البروفة المسرحية وحوار الممثلين فيها, مما يؤدي إلى تغريب آخر من خلال خطاب المخرج مع الجمهور.. الذي أثار الاستحسان بالمناسبة وقوبل بالتصفيق. 
وهذه تجربة جيدة في نظري .. ولكن إلى أي مدى كانت ضرورية تلك الأسئلة التي طرحت أثناء مشاهد التغريب؟  
هل كانت رواية غسان كنفاني بحاجة إلى هذه المراجعة؟ أنا لا أنفي.. أنا أتساءل فقط ..
لقد كتبت هذه الرواية قبل ستين سنة, وكانت مناسبة لظرفها التاريخي, ومن الطبيعي أن تتغير الأحوال. هذا ليس اكتشافًا.. فما مشروعية المراجعة أو التعديل على نصّ كان ناجحًا بل أيقونيًا في سياقه التاريخي؟ لماذا لا نطرح أسئلتنا من خلال نص جديد نبدعه ؟ 
ومرة أخرى .. أنا لا أعترض؟ أنا أتساءل وأنتظر جواباً من المخرج.
ومن ناحية أخرى أعتقد أن دور المرأة الفلسطينية في الحياة والمجتمع والمقاومة بكل صورها كان وما زال محوريًا, سواء أظهر بوضوح في هذا العمل ( رواية رجال في الشمس) أم لم يظهر. 
السؤال هو: هل قصد غسان كنفاني تهميشها أو الإشارة إلى تهميشها ؟ 
هل كان سياق ( رجال في الشمس) فعلاً يحتاج وجود المرأة كعنصر سائد ومهيمن على الأحداث ؟ 
ومرة أخرى .. أنا فقط أتساءل عن ضرورة هذا السؤال  الذي طرحته المسرحية. 
والآن : هل كنا نسمع صوت غسان كنفاني في المسرحية أم أصوات غيره؟
خلاف رؤية المخرج مع رؤية المؤلف أو الممثل قضية عميقة ومهمة جدًا, وعلاجها في نظري هو التوافق والتعاون.. أي أنه لا يجوز أن يتغوّل المخرج على النص أو يتسلّط على الممثل, ولا يجوز أن يُلزم المؤلف -أو من يقوم مقامه- المخرج أو الممثل بالتقيد بحرفية النص مهما كان عظيمًا و (أيقونيًا) المهم هو التكامل فيما لا يخلّ بالرسالة الأساسية والرؤية الجوهرية للمؤلف.. وإلا فليتركوا النص الأصلي ويبدعوا غيره بدلاً من تحويره وحرفه عن مساره العام. 
لم يَحرِف المخرج رسالة غسان كنفاني عن مسارها العام لكنه قام بما يسمى modernization  أي ( تحديث) . وهذا شيء مشروع بل ومهم جدًا ويدخل في إطار النقد والتقييم وهي مهمة عليا من مهام المفكرين وصناع القرار .. لأنه لا بد أن نسأل: بعد ستين عامًا من معاناة رجال في الشمس أين وصلنا؟ ماذا حدث؟ 
طبعا للتحديث وجوه وتجليات عدة يمكن أن تتجلى في الحذف والزيادة والاختصار وفي تغيير تفاصيل الأحداث .. في تفاصيل الزمان والمكان التي تتجلى من خلال الملابس والديكور واللغة والإضاءة وكافة عناصر السينوغرافيا. وقد استفاد العرض المسرحي من بعض هذه التجليات من خلال انتقاء مشاهد بعينها ومن خلال اختصار بعض المشاهد الطويلة ولمسات إخراجية عديدة. 
وهذا يقودنا إلى التأكيد على أن الأمانة لا تعني التقيد بحرفية النص, وإلا فإن أبو الخيزران لم يكن (خيزران) في الطول المفرط والنحافة الشديدة والمرونة وخفة الحركة  كما صوّره غسان كنفاني .. ونحن لا نستطيع أن نحمّل المخرج أبداً هذا العبء. يكفي أن أبو الخيزران ظل نموذجاً للعجز.. فقدانه لرجولته رمز لعجز الأنظمة العربية .. بغض النظر عن التساؤل الذي قد يراه البعض مشروعًا ولا أراه كذلك.. التساؤل الشهير الذي تناولته بعض القراءات لرواية رجال في الشمس وهو: هل كان أبو الخيزران مجرمًا أم ضحية ؟ هو نموذج للاستغلال والقصة أصلاً كلها نماذج في الاستغلال : 
استغلال عم أسعد لحاجة أسعد للمال  حتى يزوجه بابنته ندى. 
استغلال والد المرأة التي فقدت ساقها لحاجة وفقر أبو مروان حتى يزوجه إياها.
استغلال أبو العبد لحاجة أسعد للهروب من ملاحقة الدولة.
استغلال المهربين لحاجة الباحثين عمل. 
استغلال موظفي الحدود لحاجة أبو الخيزران.
استغلال أبو الخيزران لحاجة الرجال الثلاثة.  وهذه هي الحالة التي تجلت بشاعة آثارها في بشاعة الموت والطريقة التي ماتوا بها.
لذلك لا أرى وجه حق في التساؤل  عن تصنيف أبو الخيزران: هل كان جلادا أم ضحية؟ 
في جانب آخر أود الإشادة بأداء الممثلين, أولئك الذين عملوا بانسجام, وقام بعضهم بأداء عدة أدوار بنفس الإتقان وتقمصوا الشخصيات بشكل مقنع وإتقان نسبي  ومتفاوت للهجات العراقية والكويتية, ولهجات القرى والمدن الفلسطينية المتنوعة التي سمعناها في المسرحية, لتشير إلى شمول المعاناة والنكبة لجميع الفلسطينيين. 
وفي إطار اللغة نلاحظ أن تحويل اللغة الفصيحة التي كانت في الرواية إلى العامية في المسرحية تثير التساؤل التالي: هل كان ذلك ممكنًا في نظر المخرج بسبب سهولة لغة غسان كنفاني؟ أم انتقاء ما سَهُل من لغة غسان كنفاني؟ 
من جهة ما يُحسب تحويل اللغة من فصيحة إلى عامية تبسيطًا وتقريبًا للجمهور, كما أنها أتاحت المجال لمزيد من التفاعل.. خصوصًا في إطار الإضحاك .. لا شك بأن العامية أدت دورها في هذا المجال .. لكن .. الفصحى كانت جواز سفر (رجال في الشمس) إلى العالم العربي كله, كما أن الفصحى اتسعت لخيالات وصور رائعة شهدناها في الرواية,  وعمل عليها غسان كنفاني بإبداع, ولكن اضطر النص المسرحي للاستغناء عنها كما في وصف الصحراء ووصف أعماق الشخصيات ومونولوجاتها. 
اختار غسان كنفاني ثلاث فئات عمرية طفل وشاب وكهل, وكلهم فشلوا في مواجهة الشمس في صورة تشاؤمية .. لكن في المقابل العرض المسرحي اختار أن يخاطب كل فئات الجمهور (الطفل والشاب والكهل) من خلال الشكل الذي اختاره والمشاهد التي أضافها, ولا سيما المشهد قبل الأخير الذي خرج فيه الممثلون كلهم بمختلف فئاتهم العمرية ووجهوا حديثهم إلى الجيل الأكبر للتمسك بالذاكرة الوطنية, وللجيل الأوسط في عدم الذوبان في الغربة, وللجيل الأصغر في الحفاظ على الهوية. 
وفي مجال السينوغرافيا كان استخدام الضوء والظل في النهاية حلاًّ إخراجيًا موفقًا وموحيًا ومعبرًا. لكنه في نظري أدى لاختزال الجزء الأصعب والأهم من القصة وهو مرحلة السفر عبر الرمال إلى الهدف,
 تلك الرحلة التي أبدع غسان كنفاني في أن يجعلنا نعيشها مع الشخصيات بكل تفاصيلها وعذاباتها .. اختزل العرض المسرحي كل ذلك في مشهد قصير بتقنية الضوء والظل - لم يكن من الممكن تطويله – مما أدى للتركيز على الدوافع .. دوافع الرحيل دون التركيز على نتائجه .. نتائج الرحيل . 
مشهد الختام.
جعلنا المخرج نشاهد الطرقات .. طرقات الرجال الثلاثة على جدران الخزان مع أن أبو الخيزران تساءل: لماذا لم يدقوا جدران الخزان ؟ هذا التساؤل الذي بنى عليه المحللون نتائج كثيرة.  
وهنا لا بد من وقفة..  فأبو الخيزران يمثل العالم الخارجي مع إنه فلسطيني لكنه لم يكن داخل (الخزان) .. كان يتولى (قيادة) السيارة .. صحيح أنه كان يعاني من الشمس وطول الطريق لكنه سيقبض الثمن .. إذن هو يمثل الآخر.. الذي لا علاقة له بشيء. 
قال أبو الخيزران: لماذا لم يدقوا جدران الخزان ؟ 
والمخرج جعلنا نرى الرجال الثلاثة بوضوح شديد يدقون جدران الخزان لكن العالم في الخارج  لم يسمعهم  .. ربما بسبب صوت المكيفات المرتفع .. صوت مكيفات المركز الحدودي التي طغى صوت رفاهيتها على صوت معاناة من كانوا يدقون جدران الخزان. 
وهذا يتوافق مع ما قاله (حسين) في المسرحية من أن الفلسطينيين يطرقون جدران الخزان كل يوم والعالم يسمع لكنه يتجاهل وينحاز إلى جانب المحتل. وبهذا خلق المبرر للمشهد الأخير مشهد حفر النفق بالملاعق لتكون خاتمة باعثة على الأمل تمجد المقاومة وتتمسك بالنضال. 
 
    
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون