صانع اللّعب ..
2022 ,13 تشرين الثاني
 نجاة وسلاتي خوالدي :صوت العرب - تونس .
 
صانع اللّعب "قصة"
اتّجه نحو مشغله مسرعا بقدر ما تسمح به خطواته البطيئة وهو الشّيخ الطّاعن في السّنّ، كانت لديه بعض الأعمال العالقة، تعطّلت بسبب مرضه الأخير وملازمته الفراش، إذ عليه اليوم أن ينهي صناعة المرتبة الخشبيّة، فالزّبونة الّتي طلبتها زارته مرّتين في هذا الأسبوع دون أن تتحصّل على بضاعتها ،وقد عذرت تأخيره هذا، إذ عرفت مرضه ،ففي العادة كان دقيقا في مواعيد عمله وفي تسليم طلبيّات زبائنه...
كان يصنع اللّعب الخشبيّة المختلفة للأطفال، ولعلّه لم يكن يتقوّت بهذه الصّناعة، فأغلبها يقدّمها هدايا لأبناء حيّه وأقاربه. ولكنّه كان يتسلّى في مشغله الواقع في أقصى حديقة بيته، وهي صناعة ألفها واحترفها منذ أن أسّس وزوجته الفرنسيّة مصنعا متخصّصا في صناعة اللّعب والدّمى...
رأى طفلته الصّغيرة تتأمّله بصمت، فقال يعتذر :
 - "أوه ! أعذريني يا صغيرتي!... أعرف أنّي تأخّرت هذه المرّة بسبب مرضي في صنع دمية جديدة لك كما عوّدتك، ولكنّني سأكفّر عن ذنبي هذا ،و سأصنع لك دمية روسيّة مختلفة عن الدّمى السّابقة... وأعدك لن تغرب شمس هذا اليوم حتّى أنتهي منها لتضيفيها إلى تشكيلة الدّمى الّتي صنعتها لك سابقا.."
كان فنّانا يصنع الدّمى يحسن تزويقها بفرشاته وألوانه المائيّة ليصيّرها تحفة زاهية تسرّ النّاظرين... وعشقه لفنّ الرّسم كان منذ طفولته... كما أنّه بارع في الكتابة بالخطّ العربيّ، بمختلف أنواعه الفارسيّ والدّيوانيّ والثّلث وهو يعتزّ بهذه الموهبة، الّتي تجذّره في هويّته العربيّة الإسلاميّة... التحق بمعهد الفنون الجميلة... و لئن لم ينه دراسته الجامعيّة فإنّه قد حافظ على موهبته الفنّية، و لم يندم عندما قرّر ذات لحظة فارقة أن ينقطع عن الدّراسة ويرافق
حبيبته الفرنسيّة إلى مسقط رأسها، مدينة انتيب الفرنسيّة، حيث تزوّجا واستقرّا هناك...
يوم صارح أمّه برغبته في الزّواج من أجنبيّة صعقت ،وصرخت تؤنّبه كطفل صغير:
 - "هذه آخرة اختياراتك الخاطئة... أردتك طبيبا ماهرا فاخترت الرّسم والشّخبطة على الجدران والمحامل، فقبلت الأمر على مضض...و ها إنّك اليوم تأتي لتبشّرني بأنّك ستتخلّى عن هذه الدّراسة وتلتحق بحبيبة القلب لتسكن ديارها وتنسى ديارك وتذوب في عاداتها وتتناسى تقاليدك وما ربّيتك عليه من عادات أجدادك... ثمّ إنّها كافرة لا تؤمن برسولنا ولا تصوم شهرنا ولا تصلّي صلواتنا... فكيف سينشأ أبناؤك في أحضانها ؟. "
كانت تولول... وهو يضحك ويقبّلها... وفي الضّفّة الأخرى من البحر الأبيض المتوسّط كانت حبيبته تعيش معاناته مضاعفة...لئن أبدى أبوها الفرنسيّ تفهّما لرغبة ابنته في الارتباط بشابّ عربيّ ،فإنّ أمّها الألمانيّة عارضت هذا الزّواج... كانت تصرخ فيها 
-"عربيّ تتزوّجين عربيّا بل تونسيّا أو قولي إرهابيّا !... ألا تتابعين أخبارهم؟ إنّهم همجيّون متخلّفون ،يستبيحون دماءنا ويتلذّذون بتفجيرنا وقتلنا ...أنسيت حوادث الإرهاب الّتي تخبر عنها وكالات الأنباء؟..."
تمّ الزّواج ، فأمّا أمّه فباركته وأمّا أمّها فقد بقيت على تحفّظها تجاه زوج ابنتها...
صار المشغل الصّغير الّذي شيّداه مصنعا محترما مجهّزا بآلات عصريّة ،يصنع لعبا للأطفال مطابقة للمواصفات العالميّة تصدّر في القارّة الأروبيّة... بل إنّ الشّابّ الولوع بالرّسم والكتابة استغلّ موهبته هذه ليزوّق الألعاب بكتابات مختلفة اللّغات وبرسوم بديعة... وفي المقابل يرسم لوحات زيتيّة ومائيّة بديعة، ويقيم مع زوجته الرّسّامة معارض مشتركة في مدينة انتيب السّاحليّة...
كانت قصّتهما العاطفيّة رائعة، وعلاقتهما المهنيّة والزّوجيّة أروع ،وتوّجا هذه العلاقة بإنجاب طفلة رائعة أضفت على حياتهما إشراقا على إشراقها... 
يتذكّر الأب الصّورة الرّائعة الّتي رسمها لابنته الصّغيرة وهي تلعب بالرّمال الذّهبيّة قرب البحر... كانت أوروبيّة الملامح بعينيها الزّرقاوين وشعرها الأصفر... ولكنّه كان يحبّ أن يغرس فيها بعض العادات الاسلاميّة الشّرقيّة ،فكان يحرص أن يزور معها ومع زوجته مسقط رأسه زمن المواسم والأعياد... ففي رمضان تحتفي أسرته الموسّعة بهذه المناسبات الدّينيّة احتفاء رائعا ،ولعلّ زوجته كانت تحبّ هذه المناسبات الّتي حثّنا عليها ديننا تلك الّتي تشجّع على التّحابب والتّآز،ر غير أنّ وحيدته وما إن بدأت تشبّ قليلا، حتّى بدأت تنفر من زيارة أهله... بل إنّها صارت تنفر من الإقامة مع والديها وتميل شيئا فشيئا إلى الاستقرار مع جدّتها الألمانيّة الّتي عادت إلى الإقامة في ألمانيا بعد وفاة زوجها... ثمّ اختارت أن تواصل دراستها في ألمانيا وتزور والديها زيارات متباعدة في العطل...
كان يحزّ في نفس الأب أن تبتعد ابنته الّتي يراها صغيرة... 
و ما يحزّ في نفسه أكثر أنّها شبّت على عادات غربيّة بعيدة كلّ البعد عن عاداته العربيّة الإسلاميّة... فتتدخّل أمّها في كلّ مرّة يتذمّر فيها الأب من هذا الوضع لتطيّب خاطره... و تقول بصوت هادئ :
- "اهدأ يا عزيزي، ولا تشنّج نفسك... تذكّر أنّ ابنتك قد بلغت سنّ الرّشد، فلا يجب أن تنصّب نفسك عليها رقيبا... وإلاّ فإنّها ستقاطعنا وتهجرنا ....ثمّ إنّها تشقّ طريقها في الحياة بثبات ونجاح... سعادتنا أن نراها كذلك... أمّا أن نتمسّك بأن تبقى في أحضاننا إلى مالانهاية، فهذا لا يمكن حدوثه أو تصوّره... هل بقينا نحن في أحضان آبائنا لنطالب أبناءنا بذلك؟ " 
ولعلّ كلام الزّوجة يهدّئ من قلق الأب الحائر، بل لعلّ وجودها الرّائع في حياته وكفاحها معه لتأسيس حياة مستقرّة جميلة جعله ينصرف عن التّفكير بعلاقة ابنته الجافّة معه... بل إنّه ترك لها حرّيّة التّصرّف، فإذا جاءت بيته أحسن وفادتها... وإذا انقطعت عن الزّيارة تابع أخبارها بالهاتف...
توالت الأيّام هادئة... وعكف الفنّان الماهر على عمله يطوّره بمساندة ودعم من زوجته المحبّة.
...يرفع الشّيخ عينيين مخضلّتين بالدّموع إذ يتذكّر يوم الحادثة المشؤومة إذ جاء وزوجته في زيارة أسريّة واقترح عليها زيارة متحف باردو الّذي تعرّض يومها وتحديدا وقت تواجدهما إلى عمليّة إرهابيّة أدّت إلى وفاة العديد من السّيّاح ومنهم زوجته ...ونجا هو بأعجوبة... غير أنّ هذا الحادث خلّف في نفسه ندوبا غائرة...فتحامل على نفسه، ورافق رفات زوجته ليدفنها في مدافن عائلتها الفرنسيّة... وفي موكب العزاء لم يتفاجأ بالكلمات النّاريّة الّتي صبّتها عليه أمّ زوجته صبّا، ولكنّه فوجئ شديدا وتألّم وهو يرى ابنته تصرخ في وجهه قائلة  
- "ماذا تفعل هنا ؟ أتقتلها وتحضر موكب عزاءها ؟ هذا قمّة الوقاحة! لعلّكم أمّة احترفت الوقاحة كما القتل... ترفعون أسلحتكم في وجوهنا باسم الدّين، فتكفّروننا وتقتلوننا، ثمّ تذرفون الدّموع، وترفعون الشّعارات الكاذبة تعاطفا معنا..
تبّا كم أشعر بالقرف كلّما أتذكّر أنّ هناك رابط دمويّ يجمعني بكم... لكن لم يعد اليوم يربط بيني وبينك أيّ رابط أو لعلّ الرّابط الّذي كان يحاول أن يجمعنا قد دفن اليوم في باطن الأرض... فلا تتعرّض لطريقي مرّة أخرى أو انس أنّ لك ابنة في هذه الرّبوع..."
كانت هذه الكلمات القاسية كفيلة بأن تقلب حياة الرّجل، فوارى جثمان زوجته الثّرى، و عاد إلى مسقط رأسه بعد أن تصرّف بالبيع في مصنعه وأملاكه ،ووهب لوحاته وتحفه الفنّيّة لأصدقائه ومعارفه الفرنسيّين، واكتفى بلوحة وحيدة اصطحبها معه كانت لوحة صغيرته الّتي رسمها لها ذات طفولة على شاطئ البحر... أفرد لها مكانا لائقا في مشغله حيث يحدّثها، فيشكو لها ظلم القدر وذوي القربى ويبثّها حيرته وحزنه، ويناقشها ويبرّر لها ذنبا لم يرتكبه...
قاربت الشّمس على المغيب، عندما أنهى الدّمية الرّوسيّة... فحملها بين يديه النّحيلتين، ووضعها قرب لوحة طفلته الصّغيرة حيث تصطفّ الكثير من الدّمى المختلفة الأشكال والألوان وقال :"  هذه دميتك قد صارت جاهزة أرجو أن تعجبك يا صغيرتي" 
وتخيّلها ترنو إليه بعينيها الزّرقاوين... وتهديه أحلى ابتسامة قائلة بلسانها الألثغ " مارثي بابا تي أي تري ذنتيّي.."
 
 
 
 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون