أشكال للثقافة السينمائية في مهرجان «بولونيا لإعادة اكتشاف الأفلام» الـ٣٧
2023 ,27 حزيران
د. أمــل الجمل:صوت العرب - بولونيا.
بين أروقة قد تبدو ضيقة لكنها مفتوحة على أبواب التاريخ الواسعة، بين العمارة التاريخية العريقة التي تحمل ذاكرة قوية عن الشغف بالفن والطب والمسرح والسينما، في هذا المكان العريق، مقاطعة بولونيا شمال إيطاليا، وعلي مدار تسعة أيام يأخذنا مهرجان «بولونيا لإعادة إكتشاف الأفلام» أو «إيل شينما ريتروفاتو» - Il Cinema Ritrovato - كما يُنطق بالإيطالية، يصطحبنا في رحلة عبر مناظر طبيعية  واقعية أو متخيلة، من المشاعر الإنسانية العميقة، بدرجات مختلفة ومتناقضة أحياناً، حيث التضاريس الجغرافية  الشاسعة، والحكايات التاريخية الجذابة عن الموت والحب والرعب والغيرة والفقد، والسعادة، والأمومة والشباب والنضال، والتمرد على الإمبريالية وغيرها عشرات الحكايات، في برنامج ساحر تم تصميمه بحيث يجد الجميع - الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المحتفى به والمنسي - قيمة متساوية، إذ اختار منظمو المهرجان عرض أفلامًا عن الدول والحضارات العريقة، أفلاماً من فجر السينما، وعصر السيلولويد متتبعين أفق التطور الذي سار فيه الفن السابع، ليصل إلي نتيجة مفادها أن الأكوان الكبيرة والصغيرة لها وزن متساوٍ.
احتفاء بالنساء المبدعات
البرنامج الذي يضم نحو ٤٨٠ فيلم يتميز بأنه ثري ومتنوع، فهناك احتفاء بالسينما الصامتة، وتقديم عروض مصحوبة بالموسيقى، فتصبح الموسيقى بطلاً أساسياً في هذه الدورة، كما تعرض أفلاماً تخص النساء، وتكشف دورهن في العملية الإبداعية ما بين التمثيل والتصوير وكتابة السيناريو، حيث يتم تكريم الممثلة الإيطالية آنا ماجناني Anna Magnani - بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاتها، والاحتفاء بالمصورة الممثلة والمخرجة الناشطة الجندرية نان جولدي والتي تعد إحدى أجرأ الفنانات الرائدات من أبناء جيلها في الخمسنينات. 
مثلما، يحتفي المهرجان بكاتبة السيناريو الإيطالية سوسو تشيتشي داميكو Suso Cecchi d’Amico، التي توفيت عام ٢٠١٠، وأصدر المهرجان عنها كتاباً مهم للغاية بقلم ابنتها الأصغر كاترينا داميكو، وأقيمت من حوله ندوة هائلة لنحو ساعتين شاركت فيها بناتها كاترينا وسيلفيا، وانتهت بالتصفيق طويلاً لهما نتيجة التأثر العاطفي بالحياة التي عاشتها الأم  تلك الشخصية الدرامية، وكذلك أسرتها ومدى الاختلاف الكبير بين عوالم الأم والأب الذي انخرط في عالم السياسية وتأثير ذلك على الأبناء، كان السرد الذي قامت به كاترينا مشوقاً، بالإضافة إلى تدخلات من جانب سيلفيا، كانت مداخلات سيليفا قصيرة لكنها مهمة وأقرب إلي الرتوش القوية التي تُوضح الأشياء، مما جعل الوقت يمر دون الشعور به. 
عن الحب، والوقوع في الحب
 
كذلك، من بين التكريمات وإصدارات المهرجان بالدورة السابعة والثلاثين التي تمتد بين ٢٤ يونيو الجاري و٢ يوليو القادم - في هذه المدينة الثقافية والمشهورة بأنها الأكثر يسارية - إصدار كتاب صور موسترا، إضافة إلي كتاب توثيقي ضخم عن المخرج التونسي الرائد ألبير سمامة شيكلي، الذي يُعتبر الرائد السينمائى الأول في أفريقيا، والذي قام المهرجان بترميم عدداً من أفلامه، وسيتم عرضها، إضافة إلي احتفالية خاصة عنه ضمن الاحتفال بمئوية السينما التونسية، والتي لن تتوقف عند حدود المهرجان البولوني العريق.
ولكن وفق تصريح المخرج التونسي محمد شلوف سوف يُواصل هؤلاء المحاربون في مهرجان «إعادة إكتشاف الأفلام» دورهم وإسهاماتهم في دعم مهرجان قرطاج، نهاية أكتوبر القادم، حيث سيقدمون نسخاً مرممة من أفلام سمامة للعرض بتونس، كما سيُرسلون ماكينة عرض حديثة ٣٥ملم استخدمن للمرة الأولى فقط بهذه الدورة، ليتم العرض في قرطاج من خلالها، إضافة إلى المساهمة في ترميم أفلام تونسية آخرى. 
  
للحب مكان قوي في هذه الدورة، الحب والشغف بالسينما، وكذلك الحب الرومانسي بأشكاله، لذلك تم تخصيص جانب من البرنامج بعنوان «في موود الحب» In the Mood for Love، حيث يعرض أربع قصص كلاسيكية وعاطفية عن الحب، من هوليوود في عشرينيات القرن الماضي من هنري كينج «ستيلا دالاس» - الذي شهد حضوره في الساحة الكبيرة «بياتزا ماجوي» نحو خمسة آلاف مشاهد - إلى العلاقات المضطربة للمخرج الشهير فريد زينمان ورائعته «من هنا إلى الأبد» ذلك المخرج الذي كان يريد أن يصبح عازفاً للكمان، لكنه وقع في غرام السينما أثناء دراسته للقانون، وأصبح مهتمًا بشكل متزايد بالفيلم الأمريكي وقرر أن هذا هو ما يريد فعله، فانخرط في صناعة الأفلام الأوروبية لفترة قصيرة قبل أن يذهب إلى أمريكا لدراسة السينما. إضافة إلي فيلمي Love Me Tonight للمخرج روبن ماموليان، و The Love Test، للمخرج مايكل باول. إنه برنامج عن الوقوع في الغرام، لكنه أيضاً يجعلنا نقع في حب السينما. 
أشكال للثقافة السينمائية 
ما المقصود بدار العرض السينمائي؟ وما الذي يمكن أن تُقدمه للناس؟ بمعنى آخر؛ ما هي السينما، وماذا يمكن أن تقدم للناس؟ مجموعة من التساؤلات وضعها فريق العمل لهذه التظاهرة السينمائية الاستثنائية للمساهمة في رفع وعي الجمهور وتهذيب ثقافته، إذ لم يكتفوا بإصداراتهم السينمائية التي من المؤكد أنها تساهم بمقدار كبير وعميق في رفع هذا الوعي، مؤكدين على أنه «مثل قصيدة رينوار المبهجة والملونة لعالم المسرح وعن الحياة نفسها، أنه من المستحيل فصل الفن السينمائي - الذي هو محور اهتمامهم - عن الأشخاص الذين صنعوه.» لذلك سيكون صناع هذه الأفلام حاضرين ليشاركوا الجمهور في بولونيا تلك التجربة وذلك الشغف، لذلك لن يكون غريبا أن تجد كوستا جافراس قادما .  
من هذا المنطلق، فإن الدروس والمحاضرات هى ملمح أساسي في هذه الدورة من المهرجان، فهناك ثمانية عشر محاضرة ودرساً في السينما وتحليلات للأفلام، يقدمها نخبة من أكبر المخرجين المتمرد والثوريين في عالم الفن السابع، منهم على سبيل المثال: فيم فيندرز، ولوكا جوادانيينو، بوبي أفاتي، جو دانتي، والإيراني باربيت شرودر.
 كذلك، يتواجد في أروقة وقاعات المهرجان عدد من المحاربين الذين قاموا بحفظ تلك الأفلام وترميمها واستعادتها، إذ كانوا حاضرين داعمين بقوة للمهرجان البولوني، إذ شاركوا في الندوات والمناقشات عن الأرشيف ومشاكل وصعوبات الترميم، مثلما قدموا لهذه الأفلام التي تشكل إرثاً إنسانياً، يجب الحفاظ عليه لأنه ذاكرة إنسانية. 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون