**المسرح وإكراهات الوضع السياسي بين االقصاء والتبعية.
2022 ,11 تشرين الثاني
المخرجة الفلسطينية "ايمان عون".
*ايمان عون:صوت العرب – الاردن.
مقدمة:
يمتاز المسرح الفلسطيني بوجه عام بأنه مسرح مقاوم، تطغى عليه صفة المواجهة، يحمل القضية السياسية والانسانية للشعب والارض، ويبني حولها مفاهيمه وتوجهاته الفنية، وأساليب صموده وتحديه.
ولكون هذا المسرح يحترف المواجهة، فمن واجبه أن يؤرق السادة والمحتلين وأصحاب الكراسي، والمتسلقين على تعب شعبه، والهاضمين لحقوقه، والمستغلين لعرقة، والمستبيحين ألرضه، والرافضين لحقه، والعابثين بمستقبله، والساكتين على ظلمه، والمتمادين في قهره. فلن يكون من السهل أن ينعم هذا المسرح بامتيازات ونياشين، بل بمنغصات وقوانين تحد من أنتشاره، وتقدمه، ومن تفاعله مع محيطه والعالم.
ففي بقعة جغرافية صغيرة كفلسطين تعج بالتناقضات السياسية، والتوترات اليومية، وتحمل ما تحمل من صمود وتحدي، ترى نفسك وأنت تعمل في مجال المسرح مجبر على السير في حقل من الالغام، لاتعرف إن كنت ستتجاوزه بسلام.
فالتحدي اليومي قد يحولك الى شخصية في مسرحية عبثية، كأن يبدأ يومك بشكل عادي وسرعان ما تكتشف لحظة خروجك من بيتك الى الشارع للذهاب الى المسرح أنك في مربع أمني لا تستطيع التحرك منه، أو أنك عالق في مواجهات بأفضل حال قد يصيبك خلالها حجر وهذا افضل من ان تصيبك رصاصة. 
وقد تصحوا باكرا ولن تخرج من بيتك قطعا لان الوضع في الليل الفائت كان مضطرباً في مدينة ما، وادعى الامر الى إضراب عام. فتجلس في بيتك تقرأ أو تعمل، أو الاسوأ أن تمضي اليوم بطوله في حالة من الذهول امام المشهد على التلفاز من هول ما جرى في مدينة أو في قطاع.
ثم أنك قد تكون في خضم عملك المسرحي الذي تعمل عليه منذ مدة، لكن يوم الافتتاح قد يتأجل بسبب حداد على شهيد أو اقتحام لمدينة، الذي قد يطول أياما أو قد يقصر لساعات. وأن كنت محظوظا فلن تعتقل او يعتقل أي من فريقك أثناء التدريبات بسبب أو غير سبب، فللاحتلال فنونه في خلق مسببات الاعتقال.
هذا القليل مما يحدث على الصعيد اليومي لكثير من الفرق والافراد العاملين في القطاع المسرحي ولكنه ليس حكرا على هذا القطاع، بل هو حالة عامة يعيشها الفلسطيني أينما وجد على أرض فلسطين.
فما الخاص بالنسبة للمسرح في مواجهة الاحتلال؟
بدأ المسرح بشكله الاوروبي في فلسطين منذ القرن التاسع عشر، واختلف المؤرخون فيما أذا كانت أول مسرحية قد قدمت في فلسطين في العام 1848 أو قبل ذلك - بعد أن أتفقوا أن المسرح العربي بدأ في العام 1847 مع مارون النقاش- إذ كتب المارشال مارمون في مذكراته وهو قائد في حملة نابليون، أنه رأى عرضا مسرحيا في مدينة بيت لحم في العام 1832.
وقد دخل هذا النمط المسرحي الى البلاد مع المدارس المسيحية التبشيرية، التي حرصت على بناء المسارح في مدارسها ونشر هذه الثقافة بين طلبتها. ثم سرعان ما انتشر وتعمم مع النهضة المسرحية التي شهدتها
مصر، ولبنان، وفلسطين. وكانت فلسطين المحطة الاهم لانتقال الفرق المسرحية من مصر الى بلاد الشام.
وشهدت فلسطين عروضا مسرحية محلية وعربية مهمة على مسارحها، ونمى حراك مسرحي منتشر من حيفا الى بيت لحم وغزة، وكثرت العروض المسرحية ودور العرض وانتشرت وأصبحت محطة جاذبة للفنانين والعروض والجمهور.
المسرح والرقابة:
في حوار عن المسرح الفلسطيني، مع الدكتور كمال أحمد غنيم أجراه ماهر فؤاد قال: "لم تكن الحركة المسرحية بمنأى عن الحالة السياسية البائسة في فلسطين في زمن الانتداب البريطاني، فقد عانت منذ بدايات الانتداب البريطاني من التفرقة في الرقابة، إذ كانت تمارس ضدها رقابة قاسية وغير عادلة، ففي الوقت الذي كانت فيه الفرق اليهودية وعلى رأسها "هابيما"، تقدم مسرحاً تنتقد فيه دوائر الحكومة وتصرفات الموظفين،وتعبر عن توجهاتها بحرية بالغة دون رقيب أو حسيب، كانت الفرق العربية تمنع من انتقاد الحكومة وكل من يمت لها بصلة وكان على الفرق العربية أن تتقدم بنصوصها للرقيب قبل طباعتها أو عرضها، وكانت تحاسب حساباً صعباً إذا أجرت أي تغيير في النصوص المسرحية عند عرضها، وكان للانجليز عيون تراقب العروض المسرحية المرخصة ، وكانت صحافة اليهود وفرقهم تحضر حفلات الفلسطينيين المسرحية ،وتتابعها بحرص، وعندما قام نادي الشبيبة الارثوذكسية في القدس بعرض "شبح الاحرار" لنصري الجوزي عام 1935، اجتهد في عرضها ضمن حفل منوعات، دون ترخيص، ولم يذكر اسم المؤلف في الاعلانات أو أثناء العرض، خوفاً من صرامة الرقابة وما قد يترتب عليها من ملاحقة ومحاسبة، وعندما حاول المؤلف تقديمها بعد ذلك رفضتها الرقابة مرتين بحجة قوانين الطوارئ، ولما حاول عارف العارف عام 1947 إتاحة المجال لعرضها في رام الله والبيرة دون ضجة، علمت السلطات بذلك، فطورد الكاتب قبل العرض، وغابعن إدارة المدرسة التي يعمل بها حتى هدأت الاوضاع".
وتكرست ونمت الرقابة من قبل الاحتلال بعد النكبة، وكان للنكبة عام 1948 أثر كبير على تفريغ فلسطين من فنانيها وكتابها، إذ هاجر عدد كبير منهم مع من هاجر الى الوطن العربي. ومع فرض الاحتلال الحكم العسكرية على الشعب الفلسطيني ، لم يكن لدى الفنانين الذين بقوا بالبلاد مساحة لاعادة ترتيب بيتهم الفني الابعد سنوات من النكبة عندما حاولت جماعة من الفنانين في العام 1956 أعادة تجميع انفسهم وإقامة فرقة
"المسرح الحديث" في مدينة الناصرة، بمبادرة من صبحي الداموني الذي عاد من باريس وجمع مجموعة من الشباب المهتم بالمسرح حوله.
 لكن الرقابة استمرت في ملاحقة الفنانين والاعمال الفنية ،كما استمر النظام العسكري على الاراضي المحتلة عام 48، حتى العام 1966. 
ويذكر أن سلطات الاحتلال قد اعتقلت الشاعر راشد حسين في العام 1958 على أثر مشاركته في اجتماع مسرحي في مدينة الناصرة. والحقت الاعمال المسرحية التي كان يجب ان تقدم للرقيب لاجازتها، وبالتالي كانت الرقابة تتم على خلفية سياسية وتمنع الكثير من الاعمال المقدمة ما أن تشتم رائحة التغني بالوطن والامل بالحرية أو النقد والتحريض على المحتل. وهذا
ما دفع الكتاب والمسرحيين الى الكتابة الرمزية، والتحايل على الرقابة وبالحث عن اشكال فنية تتجاوز الكلمة.
وبالطبع استمر حال الرقابة بعد النكسة وتفاقم، إذ انتهى الحكم العسكري في الاراضي المحتلة عام 1948،وبدأ آخر في المناطق المحتلة عام 1967.
وعليه تكرر توقيف فرق مسرحية عديدة ومنهم فرقة الحكواتي في سنوات الثمانين واعتقال افرادها والتحقيق معهم منذ ان تم إنشاء مسرح الحكواتي بالقدس في العام 1984. وكانت أعمال فرقة الحكواتي تمنع من العرض من قبل الحاكم العسكري في الضفة الغربية، مما دعا الفرقة في احدى السنوات الى الاتفاق مع التلفزيون الفرنسي - المحطة الرابعة، لتصوير عملية المطالبة بتصريح لعرض في الضفة الغربية، وبالفعل تتبع التلفزيون ما قام به محامي فرقة الحكواتي مع الحاكم العسكري، الذي انزعج من وجود التلفزيون،وتكرار المطالبة بالتصريح من قبل الفريق، وأعطى الاذن بعرض واحد وحيد وكان في مدينة أريحا في العام 1986 لمسرحية "جليلي يا علي"، وقال الحاكم العسكري حينها للمحامي، انتم بالنسبة لي أسوأ من قنبلة، لانكم تفجرون عقول الشباب.
فمنذ نكسة العام 1967، وضع الاحتلال مجموعة من القوانين عمل على تغيير الواقع الديموغرافي للسكان، وضيق الخناق على الشعب ونموه الطبيعي على أرضه. فأراضي القدس الشرقية التي كان يملكها
الفلسطينيون قبل العام 1967 تقلصت من 100٪ الى 14٪. وهذا قد انعكس على النشاط الثقافي بشكل عام إذ حد من تطور المسارح وانتشارها، وحاصر المسرحيين الذين نزحوا من البلاد، وحد من اهتمام الجمهور
بالفعاليات الثقافية، بسبب كثرة الضغوطات الاقتصادية والحياتية التي فرضها ويفرضها الاحتلال على الناس.واصبح التوجه نحو الترفيه والفعل الثقافي ترفا ورفاهية، لم يتمكن منها غالبية السكان.
فسكان مدينة القدس الفلسطينيون البالغ عددهم حاليا 35000نسمة أصبحوا اليوم محاطين ب 22000مستعمر في شرقي المدينة أي المحتلة بعد عام 1967، والخطة الاحتلالية تعمل على تفريغ المدينة من سكانها بشكل مستمر واستبدالهم بالمستعمرين. ثم أن جدار الفصل العنصري الذي أخرج بدوره مجموعة كبيرة من السكان الفلسطينيين من مدينة القدس الى منطقة اللا مكان، أو مناطق (ج) بحسب تصنيف اتفاقية أوسلو، وهذه المناطق يمنع فيها تدخل السلطة الوطنية الفلسطينية، مع أن الاحتلال يسمح البناء في هذه المناطق ،لكنه يمنع عنها الخدمات، ويسيطر عليها "أمنيا"، بينما لا يهتم بها مدنيا، ولا تخصص بلدية الاحتلال لها مبالغ للبنى التحتية، وترفض تدخل السلطة الوطنية األمني والمدني فيها. ومع ازدياد أعداد السكان وانعدام الخدمات، تحولت أحياء خلف الجدار إلى منطقة منكوبة، فلا خدمات ولا أمن ولا بنى تحتية.
وبدأت البنى العشوائية بالتغلغل في المكان، والممارسات الانفلاشية بالظهور في المجتمع، وتفاقمت مشاهد الجريمة والمخدرات وانعكست هذه المظاهر على سيرورة المجتمع بشكل عام. مما خلق فوضى سكانية  عارمة انعكست على مستوى وطبيعة حياة الناس، وهذا كان له أثر سلبي ملحوظ على المفهوم الجمالي للطبيعة، ولمستوى المعيشة، وللمستوى الثقافي للسكان، وتأثر النسيج االجتماعي والثقافي بشكل كبير. كما
انعكس على صورة الفلسطيني لذاته ومحيطه، وعلى أسلوب حياته وهويته التي تبدلت من هوية وطنية صرفة،الى هوية دينية بحتة.
هذه المظاهر الجديدة وأنماط الشخصيات المستحدثة في المجتمع الفلسطيني، كان لها انعكاسها في الاعمال المسرحية المختلفة على خشبات المسرح الفلسطيني. فقد عمل مسرح عشتار على سبيل المثال، على تعرية هذه الممارسات السلبية داخل المجتمع من أجل حث الجمهور على إيجاد حلول لهذه المشاكل. فقدم شخصيات عدة منها شخصية "سعيد المسعود" الشاب من البلدة القديمة الذي ينجرف نحو تعاطي المخدرات والترويج    لها بسبب ضيق الحال والتسرب من المدرسة والارتباط بالعالم السفلي، (إذ عمل الاحتلال على ادخال المخدرات إلى مدينة القدس بزخم منذ الانتفاضة الاولى لحرف مسار المقاومة الشعبية. ثم أغرق السوق الفلسطينية في الضفة الغربية بالمخدرات بعد الانتفاضة الثانية).
 كما قدم مسرح عشتار شخصية أبو شاكر ذوالوجوه المتعددة الذي عمل المسرح عليها كسلسة وأصبح "أبو شاكر" عنوانا للاضطهاد والممارسات السلبية،وفي واحدة من مسرحيات أبو شاكر تقوم هذه الشخصية  بالعمل على إسقاط الشباب في العمالة مع المحتل،تحت مغريات مادية، وممارسات لا اخلاقية، ينجرف لها الفتية بسبب الفقر وقلة التعليم ومحدودية الثقافة مما يؤدي الى نخر قوام الاسرة والمجتمع. 
وهذا ما عمد اليه الاحتلال منذ سنوات الستين والى الان في محاولة لكسر بنية المجتمع الفلسطيني من الداخل وزرع الفتنة فيه. 
هذه الاعمال المسرحية تم تناولها بأسلوب مسرح المنبر التفاعلي، لمساعدة الجمهور على الحوار والتفكير بوسائل وطرق التغيير.
كما عزل الاحتلال قرى مدينة القدس وإخراجها من الحيز الجيوسياسي للمدينة، وكان له تأثير سلبي على تطور الفرق المسرحية في هذه المواقع، واستمراريتها وتفعيل نشاطها وتوسيع اثرها الثقافي المحلي. فقد
بينت الاحصائيات التي قام بها مركز اإلحصاء الفلسطيني في العام 2007،ان 84,6% من الاسر تاثرت قدرتها على القيام بنشاطات ثقافية وترفيهية بسبب الجدار.
فجدار الفصل العنصري حد من تواصل الفرق المقدسية مع القرى المحيطة، وذلك بسبب إغلاق المنافذ عن هذه القرى ،مما أخذ يتطلب سفر طويل للوصول اليها، فباتت القرى التي تبعد بضع كيلومترات تحتاج الى سفر عشرات الكيلومترات. وهذا بحد ذاته، أدى الى انقطاع البرامج المسرحية التدريبية التي كانت نشطة من قبل فنانين من القدس في هذه القرى وانحسر جمهور القرى عن مدينة القدس، وبالتالي انعكس أيضا على قوقعة الثقافة في تلك القرى، وأدى الى انسحابها الى مربع الاصولية الدينية، والتمركز خلف العادات والتقاليد، وبات المسرح ضرب من الماضي، وفعل من الجنون. وعندما نتكلم هنا عن القرى فأننا نتحدث عن عشرات القرى،والاف الاراضي ومئات الاف السكان.
الى جانب هذا كله، استمرت مداهمات المسارح واعتقال الممثلين والقائمين على المؤسسات الثقافية بشكل متكرر تحت ذرائع متعددة منها خرق قانون الاحتلال الداعي الى تجريم وجود السلطة او ممثلين عنها أو المشاريع الممولة منها على أرض "إسرائيل"، إذ فرض الاحتلال في العام 1995 بعد اتفاقية أوسلو، قانونا  اسموه (قانون تقييد النشاطات) وقع عليه إسحاق رابين، يمنع السلطة الوطنية الفلسطينية إقامة أي نشاط في القدس باعتبارها جزءا من دولة "اسرائيل." وجاء فيه "أن السلطة الفلسطينية لا تفتح أي ممثلية، ولا تعقد أي اجتماع ضمن حدود سلطة الدولة، الا إذا حصلت على إذن خطي من الحكومة". 
وهذا يعني أن أي شخص يستعمل اسم السلطة أو يضع شعارها على ملصق عمله المسرحي، أو يستقبل أي شخصية اعتبارية، يحق لشرطة الاحتلال منعه وإغلاق الفعالية، ومن هنا أصبح هذا القانون ذريعة لايقاف عدد من الاعمال المسرحية،والفنية في المدينة.
وفي الاونة الاخيرة اشتد تضيق الخناق على المؤسسات الثقافية، وبدأت بمداهمة المؤسسات ومصادرة ملفاتها،وتخريب مكاتبها ومساحاتها تحت ذريعة التفتيش وتصادر أوراقها الثبوتية، وتحجز على مستنداتها المالية، في محاولة لتضيق إمكانية عمل المؤسسة.. وفي كل مرة تشتم المخابرات الاسرائيلية رائحة عمل وطني أو ترى بأن البرنامج قد يثير وعي الجمهور نحو قضية ما حقوقية، تمنعه وتداهم المكان، وهذا ما حدث في العام 2017 مع مركز يبوس الثقافي في القدس، عندما اعلنوا عن نشاط يناقش دور الاردن في حماية المسجد الاقصى المبارك، أذ داهمت الشرطة المركز ومنعت النشاط.
من جهة أخرى تراقب بنوك المؤسسات وتحجز على دخلها أذا تأخرت في أي دفعة لبلدية الاحتلال ، وبالاخص لما يسمى "بالارنونة" أي ضريبة الاملاك، وهي تفرض ضريبة هائلة على المؤسسات الثقافية الفلسطينية، بينما تعفي المؤسسات الثقافية الاسرائيلية من تلك الضريبة.
 ومن جهة أخرى هناك ضريبة الدخل للعاملين التي تصل الى 40% من دخلهم، وهذا رقم ضخم جدا بالمقارنة مع ما يكسبه الفنان الفلسطيني في القدس.
فمنذ العام 2000 أغلقت سلطات الاحتلال ما يزيد عن 53 مؤسسة مقدسية حقوقية واجتماعية وثقافية في مدينة القدس وحدها، كما منعت الاف النشاطات في المؤسسات والمراكز الثقافية المقدسية. 
ولم تقف المضايقات وأغلاق المسارح على مدينة القدس فقط بل تعدتها لتشمل فلسطين التاريخية. فقد امرت وزيرة الثقافة الصهيونية ميري ريجيف في العام 2015، بإيقاف مسرحية "الزمن الموازي" من كتابة وإخراج بشار مرقص،  لمسرح الميدان على خلفية عرضه لمسرحية مستندة على كتابة وليد دقة وهو مناضل وسجين سياسي سابق، وقد كتب مسرحية عن تجربته في سجون الاحتلال ، مما أدى الى امتناع بلدية حيفا عن دعم مسرح الميدان وهذا ما أدى الى تفاقم ديون المسرح وقاد الى إغلاقه.
وفي مقابلة للجزيرة مع مدير مسرح الميدان الفنان عدنان طرابشة قال: إن الحملة على الميدان الذي قدم العام الماضي 204 مسرحيات، لاتهدف إلى المساس بـ"الزمن الموازي" فحسب وإنما هي محاولة لقتل الثقافة الفلسطينية في الداخل واستبدالها بثقافة "عربية إسرائيلية" مشوهة، انسجاما مع مشاريع يهودية الدولة المحمومة. ويضيف "هذه المسرحية إنسانية قبل أن تكون سياسية وتصلح لان تمثل بكل اللغات وتنطبق على جميع أسرى الحرية بالعالم".
ثم أن هذا النهج يعيدنا الى مسلسل الاغتيالات الثقافية التي مارسها الاحتلال ضد شعبنا، فمنذ اغتال الموساد للاديب غسان كنفاني في العام 1972، مرورا بالعام 2011 عندما تم اغتيال المخرج المسرحي مؤسس مسرح الحرية في مخيم جنين جوليانو مير خميس، وانتهاء باغتيال المثقف المشتبك باسل الاعرج في العام 2017، وإسرائيل تلاحق الفنانين المسرحيين وتحاول اسكات صوتهم بشتى الطرق، سواء بالاعتقال كما حدث مع مجموعة كبيرة من المسرحيين، أو بتغيير البوصلة للفن والفنانين. فتارة بالترهيب والقمع والمصادرة، وطورا بالترغيب ومحاولة شراء النفوس من خلال الاغراءات المادية والشهرة ومساحات العمل المفتوحة محليا وعالميا، وهذا ما يجذب العديد للانخراط ،خاصة في االعمال السنيمائية والتلفزيونية، ومنها المسلسل "فوضى" المشؤوم وغيره من المسلسلات التي تلمع مكانة ودور الاجهزة الاحتلالية ، وتهدف
بالاخص الى تغيير صورة المحتل السيئة، الى صورة أكثر تقبلا وتبريرا.
ولم تقف أساليب إسرائيل القمعية على الاغتيال والاعتقال، بل تجاوزتها لهدم المسارح والمراكز الثقافية، ففي الثامن من أب 2018، أغار الاحتلال على مسرح المسحال الذي كان يستضيف مسرح عشتار في غزة على مدار عشر سنوات، إضافة الى فرق مسرحية أخرى، أغار عليه وحوله رمادا. كما دمرت صواريخ الاحتلال في نفس العام مسرح للهلال الاحمر، وقرية الفنون الحرفية في غزة.
من جهة أخرى يحاصر الاحتلال الفنانين من الضفة الغربية وقطاع غزة ويمنعهم من الدخول الى القدس والاراضي الفلسطينية في 48، وهذا منذ العام 2002. مما خلق حالة تفريغ للفن في القدس بعد أن كانت القدس المركز الاول الجاذب للفنانين والجمهور من كل أنحاء الوطن. فلا يمكن لاي فنان من الضفة الغربية الدخول لاي من المسارح أو المراكز الثقافية، إلا إذا كان لديه دعوة رسمية، تخوله من التقدم لطلب تصريح من الاحتلال ليوم واحد وغالباً لا يأخذه، أو قد يأخذه لساعات فقط لاتخوله من العرض ليال. وفي حالات أخرى، قد تكون فرقة راغبة بالعرض في القدس، فتستصدر تصاريح للفرقة ولكن واحد أو أكثرلا يتمكنون من الحصول على التصريح فيتم الغاء العرض.
ولايقف الموضوع عند الدخول الى القدس فقط، فالاحتلال الذي يتحكم بالمعابر البرية والجوية، يصدر  الجوازات سواء كانت فلسطينية او غير ذلك يسيطر على إمكانية سفر الفرق والمسرحيات والفنانين من فلسطين الى دول العالم، وفي كثير من الاحيان يمنعهم من السفر بحجج امنية. والادهى في ذلك عدم منح الفنانين من القدس الدخول الى قطاع غزة ورفض أي خروج لاي فنان من غزة وبالتحديد الذكور منهم ليس فقط الى القدس بل الى الضفة العربية أيضاً.
وآخر ما توصل له ا الاحتلال من مضايقات ومنغصات على الحياة الثقافية الفلسطينية، انها عملت على سن مشروع قانون جديد، يمنع تأشيرات العمل للمعلمين الاجانب ويحد من فرصة حضورهم الى المؤسسات الثقافية والتدريبية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والعمل فيها، مما سينعكس على تدني مستوى التعليم الحرفي لبعض المهن والمسارات الثقافية مثل تعليم الموسيقى والسيرك، والرقص الحديث.
وقد عمل القائمون على المسارح المختلفة على تطوير مناهجهم التعليمية وأدواتهم وتقنياتهم ومعارفهم وخبراتهم التي راكموها عبر سنوات طويلة، وفتحوا الابواب أمام الجيل الجديد ليكون مهنيا ومتألقا في معرفته وعطائه الفني، ولكن التحديات لا تنتهي ولا تزول، وكما قال غسان كنفاني: "ليس في هذا البلد أحلى من لحظه حلم يعيشها الإنسان حتى لو تحت شمس حارقه."
وبالمقابل أخذت بلدية الاحتلال في مدينة القدس تضخ مبالغ كبيرة لتعمل على حرف البوصلة باتجاه المؤسسات الثقافية والفنية التي انشأتها وترعاها في القدس الشرقية، لتشكل بديلا عن المؤسسات الفلسطينية لدى الجمهور المقدسي، وتحاول من خلالها جذب الفئات الشابة والنساء وحتى المسنين في برامج ترفيهية،واجتماعية، وثقافية. وبدأت بإقامة مهرجانات داخل البلدة القديمة في الاحياء العربية تعرض خلالها أفلام، وبرامج تروج للتعايش وللفكر الصهيوني. كما اقامت مدارس لتعليم الدراما والموسيقى للناشئة، وفرضت اغانيها وحكاياتها المزيفة على مباني البلدة القديمة
لم تقف ممارسات الاحتلال عند هذا الحد، بل تمادت الى أن طالت التأثير على الجهات الاجنبية الممولة التي تدعم المؤسسات الفلسطينية. ومن خلال ما يعرف بالمراقب Monitor NGO The تعمل هذه الوحدة على
تضيق الخناق على المؤسسات الفلسطينية المختلفة، بكتابة تقارير مشوهة عن نشاطات المؤسسات الفلسطينية. وتحاول أن تفرض على الممولين الاجانب أن يتتبعوا العاملين والمستفيدين في المؤسسات الفلسطينية من البرامج المدعومة من المؤسسات الاجنبية، ومعرفة نشاطهم وانتماءهم السياسي، ومنع أي شخص منهم الاستفادة إذا كان معاديا لدولة الاحتلال. كما نجحت في التأثير على الاتحاد الاوروبي قبل عامين في فرض شرط يجرم الاحزاب السياسية الفلسطينية، ويصفها بالارهاب. وعليه امتنعت كافة المؤسسات الثقافية والمسارح والفنون الادائية من الانصياع لهذا الشرط، ورفضت الملايين من الدولارات من الاتحاد الاوروبي،وغيره من الدول المانحة على أن تقبل تجريم نضال شعبها ووصمه بالارهاب.
نشط الاحتلال بالسيطرة على الرواية والثقافة الفلسطينية وتزويرها، وبالمقابل نشط المسرح الفلسطيني في التصدي للاحتلال بإنتاج أعمال مسرحية تجوب العالم تبين الواقع بشكل فني وتساهم في دفع الوعي السياسي  عما يجري في فلسطين. تعددت الاشكال المسرحية التي قدمتها الفرق والمسارح، وكانت أحيانا مباشرة وأخرى رمزية، وثالثة ناقدة للذات وللمحتل.
 وقد وصلت اعمال كثيرة الى العالمية مثل مسرحية "كفر شما" لمسرح الحكواتي عام 68، التي تحكي عن ضياع القرى الفلسطينية وشتات أهلها عبر العالم. "مونولوجات غزة" عام 2010 لمسرح عشتار التي تسرد شهادات أطفال غزة عن الحرب ورؤيتهم النقدية للواقع السياسي من منظور انساني عرضت في الامم المتحدة امام جمعيتها العمومية عام 2010، وأصبحت من مقررات بعض الجامعات.
 مسرحية "حجارة وبرتقال" التي تصور ضياع فلسطين وممارسات الاحتلال منذ وعد بلفور الى الان وهي مسرحية (بدون كلام) لمسرح عشتار.
 "قصص تحت الاحتلال " لمسرح القصبة التي صورت واقع فلسطين في الانتفاضة الثانية وكيف تحولنا الى خبر عاجل، ومسرحية "كلب الست" التي تتجول حاليا في المهرجانات العربية من إنتاج مسرح القصبة أيضا. ومسرحية "ميرمية" لمسرح الحارة التي تستحضرالذاكرة الفلسطينية، ومسرحيات أخرى عديدة.
التحولات الراهنة:
وربما أهم تحولات السياسة في الوقت الراهن وأثرها على المسرح الفلسطيني، أن الاحتلال أصبح يستخدم السلطة الفلسطينية للتأثير على الثقافة والمثقفين الفلسطينيين كأداة لتحديد سقف الحريات الثقافية والعمل كشرطي على الشارع الفلسطيني. فبعد أن أخذت السلطة الفلسطينية تطارد الصحافة والصحفيين، أتى دور المسرح والفنون.
 فمنذ اغتيال نزار بنات في العام 2021 والمخابرات الفلسطينية تضيق مساحات التعبير الحر في الشارع الفلسطيني، وتستعمل المواجهة في القمع حينا والمواربة حينا آخر. وما حدث مع الفنان الموسيقى بشار مراد من تكسير وتوقيف لعرضه في رام الله في المستودع في أيار 2022، وما تلاه من أحداث مع مسرح عشتار في تموز 2022، ومن تواطؤ بين الشرطة وهمجية الشارع عندما هجمت مجموعة من الشبان على مسيرة فنية لمسرح عشتار كانت تستعد للانطلاق في شوارع رام الله للاحتفاء بانتهاء مهرجان عشتار الدولي لمسرح الشباب، وضربوا المجموعة بشكل مبرح، ولم تردعهم الشرطة بل كان الكثيرين منهم يعمل بالاجهزة الامنية، دليل على تواطؤ السلطة ودورها في قمع الحريات، ومحاولتها فرض  رقابة جديدة على الفنون. أذ أن الشرطة بدأت لاحقا لهذه الحادثة بالاتصال بمؤسسات ثقافية أخرى مثل مؤسسة القطان وغيرها، ومنعها من عرض بعض الفعاليات بحجة وجود تهديدات، وأن الشرطة لن تتمكن من حماية الفنانين والمؤسسات الفنية والجمهور. وبالطبع هذا ادعاء وتقصير إن كان صحيحا، وهو ناتج عن غياب القوانين التي تحمي الفنانين الفلسطينيين. حتى أن السلطة تحاول باستمرار تشتيت الجهود الرامية الى إقامة نقابة للفنانين العاملين بالمسرح والسينما رغم محاولات الفنانين الحثيثة لذلك.
ومع ذلك يعمل المسرحيون في الضفة الغربية تقديم أعمال مسرحية تنقد ودور السلطة الفلسطينية والواقع السياسي المترهل. وقد ظهرت فرق مسرحية جديدة مثل فرقة أثر، التي لا تتوانى تقدم أعمالا مسرحية سياسية ناقدة وتعري أداء السلطة تجاه الشارع الفلسطيني مثل مسرحية "هوية غريب" التي تتحدث عن ضياع كرامة االنسان وهويته في ظل غياب القوانين.
 وقدمت في مهرجان عشتار الدولي لمسرح الشباب هذا العام مجموعة من المسرحيات الجريئة والمشتبكة مع دور الحكم والحاكم، تبين السقوط الحاد للسلطة في حماية الشعب، ومنها مسرحية "الفيل" لمسرح الحرية،ومسرحية "سأخون وطني" و"حكاية أبو سلمى" لمسرح عشتار، التي تعري طمع وجشع الطبقة الحاكمة وتحكمها باقتصاد البلد ومصائر الناس، ومسرحية
"آخر دقيقة" لمسرح رسائل من نابلس والتي تصور ضياع دور الشباب في بلد لا يسمع لهم.
وفي الختام لايمكننا الحديث عن الوضع السياسي وأثره على المسرح دون التعريج على التهافت العربي على التطبيع مع دولة الاحتلال، وكأن فلسطين وأهلها قد خرجوا من المعادلة العربية. وهنا تكمن خطورة بالغة في حماية الشعب ومكتسباته النضالية على أرض الواقع، فالثقافة هي الجدار الحامي والاخير للوحدة والتصدي العربي، ضد هيمنة السردية الصهيونية، وعندما يبدأ هذا الجدار بالنخر والترهل، تبدأ التنازالت بالاستشراء.
خلاصة:
المسرح الفلسطيني اليوم يعيش في حالة من مواجهة جبهات عدة من التحديات كلها مرتبط بالسياسية وإن تعددت اشكالها: تضييق مساحة الحريات، تجفيف إمكانيات الدعم المادية، محاصرة الناس بالاصولية الدينية
والاجتماعية، الاعتقالات والمداهمات المستمرة. هذا كله يزيد العاملين في المسرح الفلسطيني إصراراً وتمسكاً بدور وأهمية المسرح كمنبر للفكر الحر، والصوت المستقل، والرؤية الفلسفية المشتبكة مع الذات والعام، والهادم للتابوهات، والمثير للتغيير.
*فنانة- مسرح عشتار – فلسطين.
**قدمت خلال الندوة الفكرية – مهرجان الاردن المسرحي – عمان -2022.
 
 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون