رثائية للشاعر الفلسطيني حسين البرغوثي.
2025 ,28 كانون الثاني
الشاعر الفلسطيني حسين البرغوثي.
مروة عادل :صوت العرب -  مصر .
 رأيتني فيما يرى الشارد أنني أقف أمام بريدٍ للموتى، أراسله وأعتذر.
"سامحني يا حسين، الوضع سيء للغاية، ولا جديد يذكر سوى ارتفاعِ محصلة الشهداء والأعضاء المبتورة تحت الأنقاض، والهدم والدم والأشلاء والنزوح من الخراب إلى الخراب.
الموت أقوى، أقوى يا حسين.
أنا آسفة لأنني في أول مرة أتحدث إليك أكتب عن الحرب لا الحب.
لكنني أَسمعك تهمس في أذني -من مكانك الذي أنا خارجه- متسائلًا كيف حال بلادي؟! 
لذلك بادرتُ بإخباركَ، ربما أريد أن أدهشك بحدسي، أو أتقاسم معك أوجاعي، فالأمر أكبر من احتمالي وغيابك.
وأنتَ تبحث عن مدينةٍ باسمك كنت أراجع أطلسَ لتسهيل بحثك، لم أجد باتساعِ قلبِ فلسطين لتسكن فيه، ركضتُ خلفك بأنفاسٍ لاهثة وأنا أنقّب لك عن رئة خالية من السرطان.
أعرْتك رئتي وأعذتك من الموت؛ فنجوتَ.
لو عاصرتَ ما تعانيه غزة اليوم لأدركك الموت يا حبيبي مرتين وزيادة. 
ولكن حسبك أن أحمل حزنًا مضاعفًا يتحدّب له القلب وتنحني له الروح ليسير المستقبل عاجزًا. إن شئت قل: انتحر الأمل.
أتعرف ما الذي يهدهد قلبي الآن ويبعث بداخلي خيطَ نورٍ أصفرَ خفيفٍ، يمشي على استحياء متمايًلا متثاءبًا ممزوجًا بيأسٍ وبراءة؟!  إنه "آثر "
نعم ابنك آثر الذي يعزف لغة الطبيعة ويصادقها بحنو وابتكار، هذا الطفل الذي يشبه أرضنا الكنعانية وحلمنا العربيّ وهويتنا الحرة.
وآثر يشرب الحليب مع القمر ويتمشّيان معًا إلى أمه القاعدة على الجبل، وأنتَ تجلس في بهو الدير الجوانيّ وبترا تعانقك، وقدوره يعزف على الربابة أنظرُ إلى حياتك من بين اللوز ودالية الكرْم وشجر الزيتون، وأتساءل:
هل تخاف الضباع يا سيّدي أم تخاف تقلُّب البلاد؟!
أعرف أنكَ تنظر الضبع كأسطورة الجبل وأنت تعودتَ السير بين الجبال والوقوف على التلة لتتحدثَ إلى كبير الألهه البابلية حتى يأفل وتعود.
في ساحة مزرعة الليمون تخبز لك أمك فطائر بنكهة رام الله تقسّم الشطائر وعينك ترتجل سبع دمعات، تغني بصوتك الشجي ...
"مرة القمر وقف معي وقفة عراس الجبل 
فرسي معي، فرسي الأصيلة
والبارودة، والعباية والشنب مفتول
عمك حط قلبه في الشنب لما فتل
واقف لحالي مثل لحراش 
جامد عشعراتي الندى 
واقف لحالي 
والهوا شمالي،وعبالي تيجي شغلات جوا القلب 
مدفونة ما شافا حدا 
نزلت سبع دمعات ودمعة 
والدمع غالي (يا سبعة)واسمعي:
عمك حياته قاسية 
فرسه معه،فرسه الأصيلة 
والبارودة والعباية 
عمره ما طاق الذل بين الأراضي الواطية"
سويًّا نغني، نطرب، ندمع سبع دمعات وزيادة.
تعرفُ أن بين الأعجمية والعربية حرفًا واحدًا أسقطّته عمدًا في اختياركَ لاسم ابنك آثر والذي كان بإمكانك أن تجعله آرثر، فلسانك الفصيح يأبى الرطانة وينتصر للإيثار، ويقول للحجارة صَلّي تجاه قبلتنا العربية كما علمكَ درويش.
أحمل صوتك وأسير نحو البديهة؛ لأضع تحت عنوانها تعريفات جديدة أسوةً بكَ عندما قلتَ:
"لا توجد فوضى..بل نظام آخر للأشياء"
 أعدِّلُ مفاهيمي عن الشّعر حيث مولد الجمال ومرعاه، نافيةً أنه لا يوجد جمال في هذا العالم بل نظام آخر للقبح؛ انطلاقًا من مقولة "كتابة الشعر في وقت الحرب بربرة" أمحو مفاهيمي الحالمة مثلما فعلتَ مسبقًا.
تحاصرني الآن ظلالك الزرقاء وأنا أتمشى إليك مع القمر وآثر؛ لنقول للحرب في طريقنا الطويلة يا جزيرة الموت 
كُفّي عن ابتلاع الأطفال...
ألم يكفيكِ روح حسين الطفلة؟
وبعدها أتركه يمضي وحيدًا، وأنا أتجه نحو بريد الموتى، أراسلك في عالم آخر، فهل ستصل رسائلي يا حسين؟!
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون