"مازلت حيا" ديوان شعري لفوزية ضيف الله:قصائد العبور للوعي الخلاق.
2024 ,07 شباط
هيام الفرشيشي:صوت العرب - تونس.
"مازلت حيا " ديوان شعري لفوزية ضيف الله صادر عن دار المقدمة في 220 صفحة. تضع فيه الشاعرة القارئ  ضمن عوالمها  المحلومة، وضمن صور شعرية لروح تستكشف  ذاتها العميقة عبر إعادة كتابة اللغة. 
العنوان
 يحيل العنوان إلى استمرارية الحياة.  ولكن  أي حياة؟ حياة تدرك وترى في العالم الخارجي، وتتسلل إلى العالم الباطني، وتمنح لحظات الغبطة. حياة ثانية أكثر دهشة. 
ومضة الافتتاح 
تفتتح فوزية ضيف الله  ديوان "مازلت حيا" بقصيد ومضة فلسفي. فالشعر قدرة على تجديد الذات وتقمص ذاتا أخرى. قد تكون الأنا المتفلسفة أو القناع الشعري. لكنها لن تكون أبدا الذات القديمة وعلاقتها بالموروث القيمي والاجتماعي. 
“ اخلع عنك نفسك القديمة..
وانطلق...
نحو نفسك التي انتظرتك طويلا...”
هي ذات مغامرة ترى العالم والأشياء من زوايا متعددة، ومن منظور مدهش. وقد استعملت الشاعرة صيغة الأمر في تبرير أفعال الانطلاق والتجرد من أثواب الماضي. فهي تمر من مرحلة تقبل العالم كمعطى جاهز إلى رحلة وجودية ممتعة. 
قصائد متنوعة  
قال الشاعر الشاعر الأمريكي بيلي كولينز: "حين تأخذ القارئ في جولة في قصائدك ،  تدخله غرفة تلو الأخرى، مثل اصطحاب شخص ما في منزلك ووصفه". كذلك شأن قصائد فوزية ضيف الله في هذا الديوان، فهي تمر بنا من تيمة إلى أخرى في الديوان المتكون من 120 قصيدة. القصائد متناثرة منذ الصبا وإلى الأن، لكن ترتيب القصائد لا يخضع إلى أي ترتيب زمني، مع غياب تواريخ كتابة القصائد. ويبدأ الديوان  بقصيد "أنا إمرأة"  وينتهي بقصيد "اقلاع". فالشاعرة تمنح قصائدها ذات المرأة بحساسيتها وحدسها ورقة عواطفها لتقلع نحو آفاق الرؤى.  
 ونجد من العناوين ما يحيل على معجم الفن التشكيلي على غرار: 
« سحابتي الزرقاء، مدينة الرسام، زرقة حرف، معبد الفنان،  حقيبة الألوان، رسم على بطن حبلى، رسمت  يوما حائطا، إن الزمان قماش ». وعناوين تدل على التفلسف: « من وصايا زرادشت، سؤال، تمرد، طلاسم، حرية ». وأخرى تحيل على البوح والانعتاق: « روح راقصة، بوح، هل للرقص احزان، حب طفولي، حب لا يشيخ، كلما بكى قلبي، اهلا بالفرح، قلم البوح ».  وقصائد وجودية: "خارج الزمن، ما معنى ان تكون بلا جسم، تهيا لي". 
الشعر استرجاع للحظات الغبطة 
تطرح الشاعرة فوزية ضيف الله موضوعا فنيا مهما هو الذات الفنية الشعرية المتطهرة من أثقال الغضب، الحزن، والألم. وتستدعي صور  الذاكرة المتخففة من الرواسب الثقيلة، صور تحملنا إلى المتعة الجمالية حتى أنها تحول من القصيدة لوحة، نرى من خلالها ذاتها الأخرى المتحررة من الظلال والقيود والغضب. 
عندما يزورني الغضب
أفتح  خزانتي
ارتب مشاعري
لونا بلون..
أعرج على اهازيج الغناء الذي حفظته
أمرره فوق ألواني
أضيف إليها قطرات من الربيع الذي اهديته لي
ثم اسكب بقايا الحلم الذي خبأته في غيابك
تتمايل خزانتي عشقا عائما..
تتصاعد الضحكات من وجناتها..
تجهز لي مراة المرح الجنوني..
تضع أمامي ما أشتهي من ملامح وجهك..
تناجي بسمة الألوان في أصابعي
وتضيء غضبي بضحكة غناء
عندما أغضب
أسافر بعيدا عنك كل ليلة
استنشق لوني بعيدا عن الأضواء. 
ذاكرة الشاعرة كخزانة مرتبة تحتفظ فيها بفنون الفرح بكل أطيافها وتجلياتها: أهازيج وألوان وصور وايقاعات ولحظات فرح، ما منحه الآخر للذات من صور ربيعية مبهجة والربيع، يرتبط بالعاطفة المبهجة، بالتفتح، بالتلاقح، بالروائح الشذية، بالألوان الصادحة، بشفافية الكائنات المحلقة بفرح، بعطور وروده تشيع أريجها على الحاضر.  كل هذه الصور تفتح عوالم الحلم، تغمر الذات كمركب عائم يترنح ويتمايل على الموج يحررها من تكلس اللحظة، من الغضب المشنج . تصبح الخزانة استعارة لما رسخ في الذاكرة من ضحك جنوني، كإشراقة ضحكة طفل، تسترجع عبرها الصوت العذب وتشكيلة الألوان. 
وهي تكتب على قماش زاهي الألوان، أو على جذع شجرة صامدة أمام الزمن أو تجويفة الفرح المنزوي في تلافيفها. فالغرض من الشعر أن تحيي ما بدأ يذبل، و تسقي بماء الوجود ما تيبس ليينع  مشعا متألقا وكأنه خرج للتو من الماضي السحيق. لذلك تحشد المفردات ، وتطيل الجمل ، وهي تتمثل لحظات الاسترخاء والامتداد،  لتجهض الانفعال، وتصبح هي الأصل والمبتغى. كما أن إيقاع لوحة الصور ايقاع موسيقي. كما يتناغم اللون مع الذاكرة البصرية، تناغم الاهازيج مع ألوان البيئة، والألبسة  تقليدية ،  والأماكن الطبيعية ، تمزج بين الغناء والصور، وبين الفنون اللغوية والفنون البصرية. 
شعرية البوح
في هيمنة الذات وتوقها للبوح يصبح القلم شريكا فاعلا في فعل المكاشفة الشعرية، في لغة متحررة من التكلس، تشخص ما هو جامد، وتجسد الأفكار والرؤى، وتؤنسن الإبداع باعتباره ضرورة بشرية تسمو بالفكر والروح، يترك دهشة في ذهن المتلقي من خلال جمالية اللغة وانزياحاتها والتخلص من اللغة المعيارية.  
قلم البوح:
يحكى أن..
قلما أزرق..
هرب يجري  نحو النهر
سبح طويلا
ثم نام
حتى الظهر
حل الليل..
ركب الشعر.. 
ثم تاه..
وسط النهر..
أضحى جميلا..
بحمرة ورد..
صار اثنين..
وسط النهر..
يلتقيان..
عند النهر..
حاولت الشاعرة أن تقول أن القلم حين يسبح في النهر ويغفو يصبح شعريا، يعيش حالة التيه والسيلان كماء النهر يصبح متدفقا. جميلا متوهجا في لون الغسق .. فيتعدد القلم ..  وقد مثلت الأسطر الأخيرة صورة مدهشة، حيث تثنى القلم ليلتقي مع مرآة الشعر عند النهر.  في النهر  تنعكس الصورة. ويتغير المعنى.  ويطغى على الصورة إيقاع الحركة والتشخيص. 
تتعدد الصور الشعرية،  تمنحنا الشعور بالانطلاق نحو ينابيع الشعر.  وتوحي الرموز بالتحول الزمني / الزمن النفسي، بالانطلاق الوجودي.  وقد استخدمت الشاعرة كلمة نهر ثلاث مرات. فالشعر نهر . سطور كتبت بماء على رأي جبران خليل جبران . وفي عمق النهر يكمن سحر الشعر، فهو المادة الارضية الحاضنة للماء وهو الماء المنبجس الهاطل من السماء.  فمزاج القصيدة يثبت  الرؤى الناصعة.  وللقصيدة قصة خيالية تبدأ ب: يحكى أن" .. تبدو حكاية من الزمن القديم ولكنها تتجدد كالنبوة.. 
القصيدة رسم بالكلمات
يتحقق شرط الإبداع  في بعض القصائد في ديوان "ما زلت حيا" من خلال ابتكار نسيج تشكيلي متكامل،  يستلهم مواضيعه من الطبيعة الملهمة بألوانها وأشكالها وإيحاءاتها وموسيقاها، ومن خلال ترميزات الفكر  وما رسخ في ذاكرة الشاعرة من معارف ونظريات وفنون. ومن خلال انتقاء كلمات ذات مرجعية بصرية وأبعاد ذهنية وايقاع حركي.  فكل ما هو نسيج صور يفضي الى فكرة أو حقيقة أو  دهشة.
قصيدة الروح:
تراكمت سحبي
طية فوق طية
زرقة فوق زرقة
ونمت فوقها بلا حلم
وبلا لون…
تلاشت مراكب الفرح 
تحتي…
كان الفرح يسقط
فوقي
يسقط في هيئة  
ثلوج الشمال
وارتمت بلا نظام
طية فوق طية
لونا فوق لون
وكدت انسى
بين طية وأخرى
انني مازلت أحيا
تتميز أغلب قصائد  "مازلت أحيا " لفوزية ضيف الله بالاقتصاد اللغوي، حيث لا يتجاوز فيها السطر الواحد الثلاث مفردات. وهي قصائد تجمع بين ايحاء المفردات ودلالات الصورة. يمتزج فيها اللغوي بالتشكيلي.  وهي ترسم هيكل قصيدتها وتلون المعاني وكأنها بصدد وصف لوحة مشهدية بأشكالها ودلالات ألوانها. فالغيمات لم تعد بيضاء ولا رمادية بل تتحول إلى سحب زرقاء متراكمة في صعود بانورامي نحو الأفق: زرقة فوق زرقة.  ولكنها سرعان ما تتحول إلى كائن مائي شفاف: ونمت فوقها بلا حلم/ وبلا لون…كما أن تراكم اللون الأزرق هو انفتاح على الذات العميقة واستبطان لمخزون اللون الأزرق في الذاكرة : كان الفرح يسقط فوقي. وهي بين تلافيف الأزرق الممتد يغمرها سماويا وأرضيا، وتصبح داخل نسيجه، ثم يتراكم في لون الثلج ، وكأن الشاعرة في كون مائي صلب، وكلما اقتربت من زرقة السماء تفقد السماء لونها الأزرق وتصبح كونا ثلجيا. وهنا تراوح بين الشعري والعلمي، ففي كل ارتفاع يتقلص الدفء و تتبدد الزرقة الوهمية.. وعندما يجتمع اللون في أكثر من صورة وينفتح على السماء، يتكثف ويصبح وعي الذات به أكثر، ودرجات ألوانه وتبدلها تمنح التفاصيل، والتعدد، فيصبح ألوانا بدرجات متفاوتة أي يحمل مقاربة الاختلاف ويصبح الواحد المتعدد، ويتجسد في أشكال متعددة طبيعية وفنية …
  على سبيل الخاتمة
تجمع فوزية ضيف الله في قصائدها  بين التشكيل والإيقاع وعيش حياة ثانية في قصائدها. تحملنا صورها الشعرية المحبوكة بعناية و لغتها المنتقاة إلى الحالات الشعرية الأكثر دهشة،  وإلى الحياة الداخلية المستترة. 
 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون