"أجمل الشوارع هي التي لا يعرفنا فيها أحد":لقاء حواري مع الشاعر كمال بوعجيلة، في مدينته التي أثثها شعرا "باريس".
2023 ,29 تموز
د.فوزية ضيف الله:صوت العرب – باريس.
التقيت الشاعر كمال بوعجيلة في صخب باريس وأنوارها، في المدينة التي كتبها شعرا، وسكنها ولها، رغم أنها أتعبته، في حوار طريف وصادق، وفيه ألم دفين حول ما يحدث هنا وهناك، ما بين عوالم الابداع ومقامات السفر والوجود.  الشاعر كمال بوعجيلة، يكبر في عيون من يعرفون مقامه، لكنه لا يريد أن يكبر، فالكبر لفظ لا يعنيه، مازال متمسكا بأحلام الطفولة ولا يمكنه أن يتحلى عن باريس، وإن أذاقته من الأتعاب ألوانا. 
أيّة علاقة مازالت تجمعك بالإبداع وبالشعر والكلمة في باريس وكيف ترى المشهد الابداعي راهنا؟
أنا سعيد بلقائك في هذه المدينة المتفوقة عبر التاريخ بأنوارها وبأريحيتها وتسامحها مع الجميع. والحقيقة ليس ثمّة انقطاع مع المشروع الفكري والإبداعي. أنا بدأت مشروعي شعريا ومازال المشروع متواصلا. ربّما تتخلّله بعض النثريات أحيانا، فالشعر قالوا عنه الكثير، من بين المهلّلين لموته كثير من النقاد، لكنّهم ماتوا ومازال الشعر حيّا. غادروا ومازال لم يُغادر وأتصوّر أنّ الحياة بدون شعر لا معنى لها. إذن فالقضية هي قضية ارتباط عضوي وحقيقي بين الحياة والشعر. ويبدو أن الطبيعة أول ما نطقت شعرا. لذلك مازلنا متمسكين بهذا الفن وأنا أعتبره كما يقول البعض "الفلسفة أم العلوم"، أنا أتصوّر أن الشعر هو أب وأم الآداب جميعها. 
هل تتصوّر أن العملية الابداعية (شعرية، فنية أو ثقافية) هي مسار يتطلّب هذا الارتحال بالمعنى والارتحال في المكان، وأنت ارتحلت في المكان. فكيف كان لهذا الارتحال في المكان صدى في أشعارك وهل كان لسفرك وإقامتك بباريس وقعا على تجربتك الشعرية؟
في الحقيقة، لكل تجربته. أنا لا أتصوّر تجربة إنسانية دون هذا التنقل أو الترحّل أو الرحيل عبر الأمكنة. فالأمكنة لها مزاج ولها روائح ولها طقوس، تماما كالإنسان وكبعض الأحياء. أنا كنت مهوسا بالرحيل حقيقة منذ الصغر وكان هوسي أن ألتقي مدينة أو مدنا تُشبه لأحلام تلك الطفولة. أؤسّس مدنا وأؤثّث طرقات ومسالك من وحي الخيال الطفولي. لقد سافرت الآن، أستطيع أن أقول أنني سافرت في المكان كثيرا ووجدت حقيقة أن أغلب أحلامي متجسّدة في مدينة باريس. لذلك عشقت هذه المدينة وخلال رحلاتي لم أكن أتصوّر أنني سأعتنق حبّ مدينة وأنني سأقتنع بمدينة بمثل هذا الاقتناع الآن وهذا غير راجع لا لتاريخ هذه المدينة ولا لأنها مدينة الأنوار أو فلسفة الأنوار أو ما قرأته عنها. أصارحك الحقيقة، أنّي في حياتي اليومية المادية لهذه المدينة وبين قوسين تعبت فيها كثيرا وربّما آخر الأتعاب هو ما وقع لي في سنوات 2012-2013-2014-2015 من محاصرة لصيقة ورفعت عني أو حجزت أوراق إقامتي، ولكني صمدت وناضلت واسترجعت حقوقي بفضل الكثير ممّن وقفوا معي من فنانين وشعراء وكتّاب وناس عاديين، في كل القارات الخمس. لذلك أقول أن الاقتناع يأتي من التجربة ومن الحياة اليومية الحقيقة وليس من الكتب. أنا سعيد أنني أعيش في مدينتي التي أثثتها وأنا طفل ووجدتها وأنا كهل وعلى مشارف الشيخوخة. 
يقولون أن الكُتّاب مثل الآلهة، ما يكتبونه هو ما يحدث فعلا، فهل أن المدينة التي كتبتها في شعرك مجازا هي التي تحققت فعلا في الواقع؟
إلى حدّ الآن هي ما أراه الآن. كما قلت يجب ألا يُفهم من هذه المثالية أو الطوباوية هناك مصاعب كثيرة، هناك أشياء تُوجع القلب وتُؤلم تحدث في هذه المدينة. هناك الكثير من النقائص ولكن من خلال جولتي عبر أوروبا وعبر العديد من القارات، أنا مرتاح في هذه المدينة وقد ساعدتني كثيرا على اكتشاف مشروعي الشعري. فأنا الآن بصدد الكتابة من خلال التراكمات التي وقفت لي وأشكر لهذه المدينة كما قلت، رحابة صدرها فهي تقبل الجميع بطريقة الحقيقة. أكاد أقول أنّها لا تُوجد إلاّ في هذه المدينة من خلال معرفتي لكل المدن التي زرتها والتي أقمت بها. 
هل تتصوّر أنه هنا يمكننا أن نتحدّث عن "الهجرة الشعرية"  وأنه على الشاعر أن يطلب الهجرة نحو أماكن تلهم ابداعاته الفنية؟
الشعر في الحقيقة هو رحلة، وهو رحلة تجاه المستقبل كما يقول البعض. هناك فكرة أنا مهوس بها، وهي "تذكّر المستقبل" وأنا يبدو لي أنه علينا أن نتذكّر المستقبل أفضل من أن نتذكّر الماضي.
كيف نتذكّر المستقبل؟ 
نصنعه في الخيال، ثم نلتقيه. كما التقيت أنا مدينة باريس. القصيدة هي نوع من التذكّر للمستقبل، هي سفر نحو المستقبل، مع نوع من الايحاء بأننا لم نصل بعد إلى ما نراخ الآن. أي أننا نرى بصورة عكسية مثل المرآة العاكسة. 
للشاعر قدرة على استباق المستقبل ولكن الاستباق الشعري هو استباق يكاد يكون خلقا. 
هو نوع من المجازفة، مجازفة فيها الكثير من العثرات. لا يطمئن الانسان إلى رؤية الأشياء ولكن يحاول أن يُحقق شيئا من التوازن بين ما يراه وما يريد أن يراه. هذا التوازن ربّما يُوجد في القصيدة فنحن لا نكتب ما نراه وما نعيشه وإنّما أيضا ما يُمكن لنا أن نحقّقه. 
قلت منذ قليل في سيلق حديثنا، أن "أجمل الشوارع هي التي لا يعرفنا فيها أحد". كيف ذلك؟ هل هي خلاصة عمر كامل؟ 
كنّا بصدد الحديث عن الشهرة، وفي هذا الخضم، تحدثت عن المشهورين وعن بحث الانسان عن الشهرة، فقلت أن أحسن الشوارع هي التي لا يعرفنا فيها أحد. فأنا شخصيّا من خلال تجربتي الآن، ربّما أتفهّم هذا الشعور والبهجة والانتشار في عمر ما. أما الآن فأنا أستغرب حقيقة، كيف يبحث الإنسان عن الشهرة، فأنا أرتاح كثيرا عندما أعود إلى بيتي وأكون وحيدا، أسترجع بعض الأحداث وبعض ما أفكر فيه وأكون بيني وبين نفسي شبه مرتاح لما أدّيته وأشعر الآن فعلا وحقيقة بأن من بين المظاهر المغرية للإنسان وهي في الحقيقة مزعجة، هي هذه الشهرة التي يبحث عنها الكثيرون والتي ربّما عندما يعيشونها ويكتشفونها، سيعرفون كم هي مضرّة بجوهر الإنسان. فجوهر الإنسان هو داخله، ثقته التي يقف أمامها عاريا ووحيدا.  
أتصوّر أنّك في هذه الشوارع التي لا يعرفك فيها أحد، تُلقي نظرة عن بعد، حول المشهد الثقافي في تونس، فالمسافات تجعل الرؤية أوضح؟
صحيح، فالمسافة هي ما يجعل الرؤية أوضح فعلا، عندما نكون داخل الحدث ليس كما نلاحظه من خارجه. تونس الآن ماذا سأقول عنها؟ أنا ربّما أكون محظوظا لأني وجدت هذه المدينة أستظلّ فيها، الحقيقة، لا أريد أن أستعمل كلمات قاسية ولكن الأمر مخيف في تونس، يكاد يُنبئُ بمفاجآت غير سارة اطلاقا من كل النواحي ، اجتماعيا، سياسيا، وعلى المستوى الثقافي ليس ثمة مشروع ثقافي واضح، ليس هناك مشروع سياسي واضح، باستثناءات قليلة. سادت التفاهة، بكل أسف، لست سعيدا بهذا الأمر أو حتّى بأن أقوله. لكن هذه هي الحقيقة. عندما تسود التفاهة ويطغى الجهل، نصل الى حالة تونس الآن، وهي حالة مزرية بكل التوصيفات. في المشهد الثقافي، ما يُكتب الآن حول ما يحدث في البلد مخيف أوّلا، والمخيف فيه أكثر أنه سطحي، لا يتناول إلا السطحيات والبذاءات بكل أنواعها، وفي هذه الحالات القصوى ونحن كأننا في غابة، تركن ربّما العقول الحقيقية والضمائر الحيّة إلى شيء من الراحة وإلى شيء من الحماية لتحمي نفسها. لذلك تطغى الغوغاء والعامة وتسيطر السفاهة والتفاهة، بحيث يختلط الأمر على الناس وهذا الاختلاط يسعد من؟ يُسعد الانتهازيين، المنافقين، أصحاب المواهب الرثّة وأنا أقول لك بكل صراحة: الهجوم على رموز تونس، وعلى وجوهها النيّرة، لا أخفيك أنّه أنبأني منذ سنوات، بأنّ الأمر على غاية من الخطورة وأبدؤه من الأساس: الهجوم على رمز مثل الحبيب بورقيبة التونسي بالشراسة التي وقعت في هذه السنوات على مستوى التلفزة ووسائل الاتصال والجرائد وفتح المنابر للجهلة والغوغاء. فالاعتداء على رموز البلاد بتلك الطريقة هو مؤشّر يُنبئ بما نحن فيه الآن. نحن الآن في الدرك الأسفل. آخر عودة لي لتونس كانت منذ ثلاثة أشهر، رجعت مستاء جدّا. ماهو الرمز الثقافي الذي لم يُهاجم من الطاهر الحدّاد حتّى آخر رمز الآن؟
أريد أن أقول لهؤلاء العامّة، وأنا أُسميهم العامة وبكل وُضوح: لم أر فيهم ناقدا له تاريخ أو منظّر له تاريخ. هي عامّة تكتب لأنّها أتيحت لها فرص التواصل الاجتماعي. أي رمز ثقافي لم يُسب في هذه البلاد؟ أي رمز سياسي لم يُسب في هذه البلاد؟ أي رمز أدبي أو مبدع لم يُسب؟ كفانا، فالنقد والحوار الفكري والثقافي يكون في مستوى راق.  وليس بهذه الطريقة التي نعيشها الآن. 
هل لكلامك علاقة بما يحدث الآن في الساحة الثقافية؟ 
بكل ما يحدث في الساحة الثقافية منذ 2011 وإلى اليوم، حقيقة فضيحة. ليس النقد سبّا لرموز الثقافة. رموز الثقافة تُخطئ، والأنبياء يُخطئون والشعراء يُخطئون والكتّاب يُخطئون وليست آخر الدنيا. أما أنهم يتعرّضون لهذه المهزلة وأن من هبّ ودبّ يسبّهم ويُنكّر بهم ويبعث فيهم رسائل تهجير وتشفير ورسائل تنكيل، فهذا لا يُمكن أن نقبل به، هنالك حدود. 
لقد اكتظت الساحة بالشعراء، ومنهم من هم دخلاء على الشعر، ألا يبدو أنه بات من الضروري القيام بمسح انتقائي؟ 
لقد قاموا بالمسح من قبل. لكن الزمن هو الكفيل بذلك، التاريخ هو الكفيل بذلك. كما يقع في كل العصور والعهود، تكتظّ الساحة بمن هبّ ودبّ وبعد التاريخ هو الذي سيفصل في هذا الأمر. ثمّة أشياء واضحة، ثمة ما يُسمّى "الطفرة" وفي لهجتنا اليومية "النفحة"، "نفحة وتطير"، لا تزعجني هذه القضيّة وقد تناقشت فيها مع عدّة أصدقاء، هي قضيّة غير مزعجة فلتمتلئ الساحة، لكن المهمّ ألاّ يُزعجوا الآخرين، فذلك هو المخطر. لذلك تحدّثت بحماس عن النقد وعن دور النقد، ليس النقد سبابا أو شتيمة وليس عنفا ولكن أن تكتب  خواطرك فذلك أمر آخر لا يضرّ ولا يُقلق الآخر. أمّا الفرز فيأتي مع الزمن، من هو الغربال الحقيقي؟ ثمّة ما يمكث، ثمّة ما يذهب زبدا.  
ماهي التجارب التي مكثت في ذاكرتك، من هم الشعراء الذين تُعوّل عليهم شعريا وقاوموا هذا المسح؟
بالنسبة للشعر، لقد ربطتني علاقة وطيدة جدّا مع الشاعر أولاد حمد، حياة ونصّا، عشنا تحت السقف نفسه تقريبا لمدّة 3 أو 4 سنوات في نهج حمام الرميمي وكذلك كنصّ واضح أنه صمد. كذلك أتذكّر صديقا رحل باكرا للأسف وكانت عندي ثقة أنه قلم حقيقي وشاعر حقيقي، محمد البقلوطي، تُوفي باكرا باكرا للأسف، ومن أصدقائي المقرّبين رضا الجلالي الذي رحل باكرا أيضا، وبلقاسم اليعقوبي. لقد تركونا دون صداقات حقيقية. رحلوا بسرعة غريبة. أنا الآن أسترجع الذاكرة، وحتى خصوماتنا ومعاركنا كانت داخل القصيدة، كانت خصومات جميلة وصادقة ولم تكن احتفالا بالماضي. أو لم يكن حنينا مرضيّا، كنّا جدلا حقيقيا، نتناقش ونتخاصم ونغضب في حدود معقولة جدّا. لن أذكر لك أسماء، لكن تكهنت لكثير من شباب في بداياتهم بمستقبل جميل، لكنهم بكل صدق خيّبوا ظنّي. ولا فائدة في ذكر الأسماء، هم سيعرفون أنفسهم. 
ألا تتصوّر أنّ الصداقات الشعرية حتى بعد الوفاة، تظلّ قائمة وخالدة، وتُستحضر شعريا  وتظلّ مقوّمة للكتابة ومنشدّة نحو سبل إنشائية تعطيك ذلك الفيض الشعري والاحتفال بالكلمة؟
أنا أفضّل علاقة فيها الكثير من الخصام والعراك مع شاعر حقيقي على علاقة فيها مجاملات ونفاق مع شاعر غير حقيقي. 
من هو الشاعر الحقيقي؟ 
الشاعر الحقيقي، هو الذي يعيش شعره وأحلامه وواقعه، لا يكتب إلا ما يكتب، وليس تحت الطلب وتحت الموجة وتحت الظروف. 
تحت طلب من؟ 
طلب السلطة أو المجتمع. السلطة متوزعة، سلطة المجتمع، الحاكم، الأموات، الكثير من السلط. فالشاعر الحقيقي هو الذي يبعث كل هذه السلط إلى الجحيم. 
وهل بعث كمال بوعجيلة هذه السلط إلى الجحيم؟ 
من زمان، منذ التسعينات، منذ قررت السفر والرحيل. فهمت أن الشابي لم يكتب "يئست من المشاريع التونسية" عن عبث أو عن هراء، هذه الجملة كتبها تقريبا في رسالة إلى صديقه الحليوي. شيء يؤسف وأنا يئست من المشاريع التونسية.
هل تكتب عن يأس؟ 
لا. ليس يأسا من الحياة، يأس من حقبة معيّنة في زاوية معيّنة وهي تونس التي نعرفها. 
ماذا تقول لتونس؟ 
لقد كتبت مرّة قصيدة، كرهني لأجلها كل نساء العرب وهي "التونسيات" عام 2012. تكهّنت أنّ تونسية سوف تقود ثورة، وقرأتها في عدّة محافل، كان النساء العربيات يغرن، يقلن لي: أين مكاننا من هذا؟
هل تتكهّن أنّ مصير تونس بيد امرأة؟ 
لقد كان مصيرها منذ وُجدت تونس مربوطا بامرأة إلى يوم الناس هذا. 
هل هي موجودة؟ 
الآن هي موجودة، والعالم كله يعرفها. طبعا، القوى المناوية للتقدّم وللتاريخ سيقفون ضدّها. 
هل تتصوّر أنّ هذه المرأة لو حصلت على ما تكهنت به، فإن الهيمنة الذكورية سياسيا وثقافيا وابداعيا لن تجد لنفسها مكانا؟
ستُناضل طبعا، ثمّة ردّات فعل خطيرة جدا. فالذكورية بكل صدق، وقد تكون معرفتي محدودة، مربوطة دوما بالرجعية والتخلّف في كلّ تاريخ الانسانية.  وقد كانت الأمومة والأنثوية دائما مربوطة بالتسامح. الآلهة لمّا كانت أنثى، انظري للعالم كيف كان. ولمّا توحّدت في كائن ذكوري كيف أصبحت. تُقاتل الديانات كلّها قائم كلّه على الذكورية، كلّ الحروب قامت على الذكورية ولذلك أفهم معاناة المرأة وهي تُصارع، تُصارع آلاف قرون وقرون من الذكورية والجهل. إذا كنّا غير قادرين، رغم أن الجانب السلبي من الذكورية معنا، لأننا نحن من فصيلة الرجال، فما بالك بإمرأة كيف تُصارع. يكفي أن نقول كلمة لصالح المرأة، فترى ما يحدثلك. أنا وصفوني في القاع، وتحت القاع من تحت، قلت كلمة في إمرأة وهاجموني واعتدوا علي لفظيا طبعا وليست لهم الجرأة على المواجهة وجها لوجه. ويحدث ذلك في زوايا مظلمة. لذلك قلت لك، الشعر ليس لعبة سهلة أو تنميق كلمات أو ترتيب أوزان أو بحث عمّا يُرضي هذا أو ذاك.  الشعر هو الحقيقة التي يمكن بها أن تقول أعترف أنني قد عشت. هذه هي الحقيقة الوحيدة، "أنني عشت". "عشت" يعني عندما تكون كلمة الحق على رقبتي أقولها وأعطي رقبتي، عندما تكون كلمة الحق على جسدي، أقولها وليأخذوا جسدي، عندما تكون كلمة الحق، أقولها، فليسبّوا وليلعنوا. هذه هي الحقيقة التي يهرب منها أنصاف وأشباه الرجال.  لذلك قلت لك في البداية تكهنت خيرا واستأنست خيرا في بعض شباب بادئ ذي بدء، وأعطيت  إشارة أنّه ثمة مستقبل لهؤلاء، بعد ذلك خيّبوا ظني، لأنه هناك الشهرة التي تحدّثنا عنها، هناك الجاه، هناك المال. أعطيك دليلا وحيدا. أنا تخليت عن كل هذا، منذ 30 سنة لم استدعى إلى مهرجان مهمّ في تونس، واستدعى هنا في باريس في كل تظاهرة وأقرأ الشعر، وأُترجم للفرنسية والانغليزية والايطالية، أُستدعى في اسبانيا، ايطاليا (تحصّلت على جائزة كبرى في إيطاليا) في سويسرا وقد أمضيت في سويسرا شهرا وأنا ضيف على جمعية الكتاب السويسريين، شهر وأنا أتنقل من مدينة إلى أخرى وألقي الشعر وأتحدّث عن الأدب في تونس. ما الذي أريد أن أقوله: أنا لم أبك على موائدهم، ولم أشتك يوما في تلفزة أو إذاعة، أو مع صحفي. أنا أعرفهم، يقواون لي أنت أكبر شلعر عربي وعندما يذكر اسمي وأُقترح في مهرجان يشطبون اسمي. 
هل تجد إجابة لهذا الرفض؟ 
أنا أفهم. ما تحدّثنا فيه عن فاضل الجزيري وغيره، غيرة وحسد وحقد. الناس البسطاء يعرضوننا في الشارع في كلّ مدن تونس، يسألون عني وعن ظهوري وعن كتبي، ولماذا لا أظهر. هذا ما يحدث في مدن تونس من الكاف إلى تطاوين. أنا لا أُجيب بحقد، أقول لهم إني في الخارج، وأن ظروفي لا تسمح وأني سوف أعود. فلا أحكي لهم عن القضايا، وعلى الحقد، حسد غريب ونميمة وضغائن. هو يعرف نفسه لأني قابلته في شارع الحبيب بورقيبة، وقلت له هذا الكلام. يقول لي أنت أكبر شاعر، قصيدة "أفروديت" وقصيدة "زيارة " وبعد ذلك يكتب مقالا يذكر فيه شعراء تونس الأحياء والأموات والقادمين ولا يذكر اسمي. قابله في تونس قلت له لماذا هذا النفاق؟ ماذا تريد مني؟ لقد ذكرت الكل إلا أنا، لست شاعرا إذن؟
هل يتصّل بك القادمون إلى باريس؟ 
بعضهم صراحة،  قابلت بعض الشعراء، ومرات عبر الصدفة، بصدق أقول لك، أفهم ظروف الناس التي صنعت شيئا في تونس، حتى نُخفّف الكلمة ولا نجعلها إبداعا، من النوع الذي تحدّثنا فيه. أفهم معاناة الناس الذين قاموا بشيء ما، لأنني أعيشها وأعيشها بكلّ أريحية. يكذبون ويُصدّقون كذبتهم. لا يعرفون مستواهم ويُحاولون تجميل الأمر. ثمّة طرائف، ربّما  يوما ما –إن أسعفني الحظ- سوف أكتب مذكرات مثل كل المشهورين في هذا العالم. ثمة شاعر وصحفي وكاتب سيجري معي حوار منذ 20 سنة، منذ أن كانت القدس العربي جريدة يُشرف عليها عبد الباري عطوان وتنشر في لندن. إلى اليوم لم يقم بهذا الحوار. ثمة شخص آخر أجرى حوارات مع الشعراء الأحياء والأموات والقادمين، ومازال حواري ينتظر. وهذا الشخص كلما ألتقيه يقول لي أنت أكبر شاعر في تونس. قلت له لا أريد أن أكبر. لا أريد أي شيء كبير. أحبّ كمال كما هو. أنا كمال بوعجيلة فلا تبحث بعيدا. أنا وجدت نفسي صدفة فأكملت الشعر. أحبّ الشعر منذ أن كنت صغيرا، وكان رسمي سيئا، لم أستطع الرسم ولم أستطع فعل شيء آخر. غنيت لعبد الحليم حافظ وتحصّلت على جائزة  وكان عمري أنذاك 11 سنة وتمّ تسجيلي. دخلت المسرح، ومثلت في دار الشعب في تطاوين على الركحوعمري 12 سنة. وبعد ذلك قلقت، لذلك جئت إلى الشعر، لم آتي إلى الشعر لأكون كبيرا. لي صديق، نعرف بعضنا منذ 40 سنة، قلت له قل لي يا كمال، ناديني يا صعلوك، يا كمال الذي ترك تونس وهرب.
لماذا ترك كمال بوعجيلة تونس؟ 
كما تركت الكثير من الأشياء دون تفكير عميق. تقابلت مع باريس صدفة، ووجدتها مدينة تُعجبني، فقررت البقاء. وقد ذهبت إلى إيطاليا في الأوّل. كنت أبحث عن مدينة أستريح فيها. صدّقيني أذهب عند أصدقاء في بريطانيا، اسبانيا، هولندا، وألمانيا وبعد 10 او 15 يوما أقول لهم باريس بدأت تدقّ. لقد جاءت صدفة، ربّما كانت ستكون مدينة أخرى، غير معروفة، وغير مشهورة. أنا لا أبحث عن الشهرة، أو عن مدينة تاريخية، سترين في كتابي القادم مدن وقرى لا يعرفها أحد. أنا أعجبتني، رأيت فيها نوع من الحميمية، بغضّ النظر عن تاريخها. ثمّة أماكن نرتاح فيها، ثمّة شقق نرتاح فيها وثمّة شقق لا نرتاح فيها. ليس العيب فينا أو في الشقق ولكن هكذا هي الحياة، أنا قلقت في تونس، تركت أولادي صغارا وذلك هو الشيء الوحيد الذي يُؤلمني. كل ما تبقّى لا يهمّني، السياسة أو أن أصل إلى المركز الفلاني، أو أن تُصبح شاعرا مُهمّا أو سينمائيا مهمّا فذلك لا يُقلقني. ما يُقلقني هو كيف أرتاح فيما أنا فيه. 
هل بحثت عن المقام الشعري الذي تكون فيه أنت كما أنت فكانت باريس؟  وفي هذا المقام وجدت ذاتك شعريّا فتخليت عن كلّ شيء؟
بالضبط، لقد جُلت كثيرا، قبل باريس. قضيت شهرا في سويسرا عند السويسريين، وفي روما شهرين، وكذلك اسبانيا. لقد جئت إلى هذه المدينة التي لي فيها ذكريات حقيقية. هي ليست بطولات أو أوهام، لكنّها ذكريات حميمية، لذلك لا أستطيع  (أمام سؤالك العظيم: لماذا تركت تونس؟)  ربّما هي التي تركتني وقالت لي ارحل، كفاك مني. مثلا يمكن للفرد أن يقلق، أحيانا يقلق الإنسان من شيء هو أقرب إليه من الوريدين. فالحبّ ليس مفهوما أبديّا، كلّ شيء فان، في هذا العالم وبالتالي ليس ثمّة شيء مؤكّد أبديّا. فلماذا هذه الضمانات؟ لماذا نريد أن نُقيّد أنفسنا؟ لماذا لا أنساك؟ (ردّا على من يعترضك في الطريق ويقول لك لقد نسيت). يُمكن أن أنساك وربّما لا وجود لأسباب للرحيل، ربّما لا وجود لأعذار. 
ثمة ناس أصبحت أبطالا بعد 2011 ولم نسمع بهم يوما ولم نرهم يوما، ا في التاريخ ولا في الجغرافيا، ظهروا فجأة، يكرهون بن علي، والتجمعويكرهون السلطة ويحب السلطة الحالية، فهل ثمّة فرق بين هذه السلطة وغيرها أو التي قبلها، هي كلّها سُلط. وهذا من الظلم ومن القهر، وهؤلاء في السلطة القادمة سيُصبحون مناضلين، ضدّ السلطة القائمة الآن، والتي يدعمونها.  هذا هو رياء الانسان الذي أتحدّث عنه في قصائدي، والكذب والنفاق.
الشعر والسياسة؟ 
الشعر هو سياسة الحياة، الشاعر الذي يتملّص من السياسة، يهرب من قول الأشياء في أماكنها ليس بشاعر. وشعر العاميات والحريات المطلقة هو شعر مهلهل. لا يسوى شيء، "مهلهل" بلغتنا الدارجة. إذا لم تقل لي ما الذي يُؤلمك، فليس لزاما عليك أن تقول لي شعرا. شعر الهلاميات، أنت في تونس أو في مالطا، وتشعر على فلسطين، وتقول أن تونس ليس فيها ظلم فهذا كلام مردود على أهله. الشعر هو حقيقتك، فأنت تقف أمام المرآة، والمرآة هي الحياة، هي المجتمع، وديكتاتورية المجتمعات أفضع من ديكتاتورية السلطة. من لا يجرح المجتمع، لم يفعل شيئا، وليس بالضرورة أن كل شيء يُعجب المجتمع، فالمجتمع لم يُعجبه يوما أبو القاسم الشابي، ولم يُعجبهم يوما الطاهر الحدّاد ولا بورقيبة، ولا من  عنده مبدأ يُناضل من أجله ولو كان خاطئا. لسنا نحن من نقوّم الأشياء، لسنا المقوّم الحقيقي للزيف، للحقيقي، أو لغير الحقيقي.  نحن نتحدّث عن مواقفنا، ربّما تكون هذه المواقف خاطئة.
هل أنت شاعر قبل الأوان؟ فما يولد قبل الأوان يُفهم بعد الأوان.
ما يبقى يُؤسّسه الشعراء. لقد سألتني منذ قليل عن الغربال، وما سيبقى سيؤسّسه الشعراء. الشعر تجربة حياتية، وقد ظهر بالكاشف الآن، عندما نقرأ التاريخ،  هناك شعراء القصيدة الواحدة، والبيت الواحد، والفرق حسب رأيي هو في الممارسة. هناك شعراء يملئون أمكنتهم وحياتهم اليومية الحقيقية، عاشوا الحياة وكتبوا ما عاشوه، وما فكّروا فيه، دون رياء. لقد قلت لك، البيت الشعري، اذا أوصلني للمشنقة فأنا مستعدّ، المهم أنني يصدرعن "الجواجي"، بصدق،  ولكن البيت "المفبرك" لكي يرضى عليّ فلان فلا.  فالسؤال لماذا أنت في باريس؟ ولماذا تخليت عن تونس؟ لهذا السبب الوحيد، أنني لن أُرضي أي إنسان كان، إلاّ  برضايا أنا. المجاملات هي أصل اندثار كل من صُفّق لهم من شعراء أو كُتّاب. تهليل كبير بهم وبعد 10 سنوات لن تُجدي شيئا. وهذا ينطبق على كلّ المجالات الابداعية. ثمة أمر أنا شبه متأكّد منه وعن تجربة، والعمر قصير: صدقني مهما كانت العداوات، فالمبدعون الحقيقيون لا يملكون في قلوبهم أية نقطة سوداء، يغضب ويسبّ إن أخطأت معه، لكن بعد ذلك ينسى. فالأحقاد والوشايات والرسائل التي تنقل للوزارة أو للرئيس أو غيره لا يُصدّقها إلاّ صغار العقول. 
من لديه ما يقوله في ساحة الإبداع يؤسس نفسه بنفسه. أي رسالة لأيّ مسؤول، هي وشاية وإن كرهوا. كفاكم من النفاق. ان كتبت رسالة لمسؤول فأنت تقوم بوشاية، مهما كانت حسن نواياك، مهما كانت درجة المسؤول، لا أكتب له ولا يكتب لي، وهم الآن يُسمون أنفسهم مبدعين وشعراء وسينمائيين. ما علاقتك برئيس الدولة أو برئيس المصلحة أو بالوزير أو غيره؟ وأقصد كل الذين يكتبون رسائل للرؤساء وهذا عيب عليهم وعليهم الترفّع.  نحن لا نكتب رسائل لا للرؤساء ولا للوزراء، نحن نكتب رسائل للناس التي تفهم، ورسائلنا للحياة، وليس ثمة فروق بين الشعوب، كلها هي الانسان. في عهد بن علي، ثمة من سألني، ما الذي يُقلقك؟ قلت له: لقد كثر الرؤساء في البلاد، ذلك ما يُقلقني. فردّ ما الذي تقصده بكلامك؟ قلت له: الرؤساء كثيرون: رئيس البلدية، رئيس الدولة، رئيس المركز، ورئيس الشعبة، ولكن ذلك كثير. وبعد ذلك قالوا: أنت شاعر وتقول ما تحب. سوف أحكي لك أمرا آخر، في بدايات سماح قصد الله، وفي طريق عودتي من باريس، قال لها عز الدين بن محمود ثمّة شاعر جميل جدا سجّلي معه حوارا، وأعطاها فكرة عنّي، وأثناء الحوار وصلنا إلى مرحلة قلت لها فيها: أنا يبدو لي قصة ولادة المرأة من ضلع آدم الأعوج، هي قصّة كاذبة، والعكس هو الصحيح، وهو ما تقوله الطبيعة بيولوجيا، نحن الذين خرجنا من ضلعها وليست هي، فصاروا يرتعشون، واصفرّ وجهها، فقلت لها: من يستدعيني لحصّته، يرتقي. وذلك ما حدث معها. حتى الدكتاتورية لم يتحدّثوا لنا عنها بصدق. يتهمون الدكتاتورية بتهم كاذبة، يكفيكم من النفاق، فعندما سقطت الدكتاتورية أصبحت سيئة، وقد كانوا يُمجّدونها، ونعرفهم واحدا واحدا. لقد غادرت، خرجت من البلاد، وفي أوّل حوار لي في الشروق مع نور الدين بالطيب، قلت له لقد ذهب بن علي للسعودية، انتهى. أنا والطاهر الهمامي، الوحيدين الذين رفعنا أيدينا ضدّ لائحة اتحاد الكتّاب المساندة لبني علي، سنة 1994، وكلهم وافقوا عن اللائحة، استدعاني الميداني بن صالح، وأنا في وقتها في اتحاد الكتاب، وبعد ذلك طردوني إلى تطاوين، قال لي لماذا تعاند يا بدويّ، يا متخلّف؟ قلت له: صوتي أنا يا ميداني لن يزحزح اللائحة، سوف تمرّ. أمّا أنا فقد أنقذتكم، فكيف تتفقون 450 كاتب على فكرة واحدة، ما دام قد وحّدكم بن علي. الآن أصبحوا كلّهم ضدّ الدكتاتورية التي قُبرت. أنت ضدّ المقبور، وتُصفّق لمن يمارس في الدكتاتورية الآن. لذلك الآن، كما قلت لك، الكتاب والشعراء والمبدعين، لا يكرهون ولا يحملون حقدا، ولكن يتقزّزون. أنا أتقزّزوأشعر بألم كبير. لقد كانوا يُصفّقون لدكتاتورية ولمّا أصبحت مقبرورة صاروا تشتمها، والآن يصفّقون لدكتاتورية جديدة.  
وهذه العامّة، تسبّ الفاضل الجزيري، تسبّ الكاتب الفلاني، ليكن، ولتتحدّث كم قبض. هل ترين، شاب جاء بأربع كلمات من باريس، ضغطوا عليه، وأصبحت قضية مؤامرة وقضية دولة، وهو فرح بالكلمتين اللتين يُكرّرهما، وتصوّر أنّهما سوف تضحكان الجمهور. وهو لم يفهم شيئا مما يحدث. ممكن ألاّ نتفق، لكن ثمة حدّ أدنى من الاحترام.  
من الناس الذين أحترمهم كثيرا مثلا، المنصف المزغني، ولا نكتب مثل بعضنا البعض، ولكن أحترمه وأعرف أنّه يحترمني، وهذا نتفطّن إليه بالممارسة وليس بالكلام. فالمسألة حياتية، فما الذي يحدث؟ هؤلاء لم يمسكوا بميكروفون مرة في حياتهم، وترينهم يشتمون الفاضل الجزيري، الفاضل الجعايبي...فإن كان عبقري عليه أن يتريث.مخيفة هذه الأشياء،  ما نمارسه مع بعضنا البعض، يُخيف أكثر مما يحدث في مصر أو ليبيا أو الجزائر. في مصر عندهم صراع عنيف بين بعضهم البعض، في الجزائر أو في فرنسا وغيرهم، لكن ثمة حدّ أدنى من الاحترام. نحن في تونس نزلنا إلى تحت التحت. ويجب أن تُقاوم الناس كلّ هذا. فلنحترم رموزنا. هل سمعتم فرنسيا يشتم دي غول؟  لقد أسقطوه من الحكم وظلّ دي غول نفسه الذي يخصهم. لم يهينوه، لم يشتموه، حيّا أو ميّتا. حتى الذي لا يُحبونه لا يشتمونه. لا وجود لشخصيّة يتفقّ عليها الجميع. يوجعني قلبي عندما أعود. يشتمون أبو القاسم الشابي، والحبيب بورقيبة، ومحمود المسعدي وغيرهم. شيء يُوجع القلب، هذه رموز ذهبت، ليست حيّة الآن، لقد دافعوا فيما مضى عن أنفسهم، وهم الآن في حضرة الأموات. ولا يليق شتم الموتى.
إلى هذا الحدّ يتألّم كمال بوعجيلة؟
إلى هذا الحدّ وكثيرا، ألم كبير جدّا. لم يتركوا لا الحيّ ولا الميّت، فلماذا كل هذه الشماتة؟ ليست لدينا مقابر جماعية ولم تحدث عندنا جرائم. في رواندا تصالحوا ولم يشتموا رموزهم. وما وقع في كمبوديا، ملايين الرؤوس والجماجم ولم يشتموا رموزهم، فهل سبّ يوما روسي لينين؟ ثمّة احترام. إنها الدونية، وهي ثقافة، لقد تربينا على الكره. لقد نجونا في فترتنا نحن، فقد درسونا الفلسفة في فترة المسعدي وأنا أتحدّث عن جيلي، والآن رأيت ما تلقاه أولادي وأولاد أختي، مواضيع حول الجهاد والكفّار و"لا ترحموهم" وآيات الحروب...عوض أن يُدرّسوهم أن الديانات لا تختلف كثيرا عن بعضها البعض، وأنها مرحلة من مراحل التفكير الإنساني يقولون لهم  "خير أمّة أخرجت للناس"..وغير ذلك.  
ماهو دور المثقف الجامعي، الفنان، لمقاومة هذه الدونية؟ 
يلزم فضحها، ولو حساب رفاهيتنا وحياتنا. حياة الرفاهة ممكنة وسهلة جدّا. لا تعرف شيئا ولا تقل شيئا، ويدرسون صغارهم..ولكن صغارهم سيُعانون من صمتك. أوروبا لم تصل إلى ماهي عليه الآن إلاّ بعد تضحية عدّة أجيال. وليس الأمر مجرد لعبة، من سبينوزا ومن أعماق التاريخ. ألم يعاني مفكّريهم وشعراءهم حتى وصلوا إلى هذه المرحلة التي نتحدّث عنها الآن؟ 
هل للإعلام دور في ذلك؟
الاعلام هو نكبة النكبة، والإعلام لم يتطوّر، كل محاولات بورقيبة كانت لتطوير المجتمع والمرأة والصحة والتعليم، إلا في الاعلام فقد فشل فشلا ذريعا. الاعلام تعوّد على "التطبيل" وعلى "هزّان القفة"،  وهو يهزها إلى الآن. 
لكن عندما يتدخل أكاديمي للإعلام يُهاجمونه ويعتبرونه دخيلا؟ 
طبعا، مادام سيفضح الكثير من الأشياء، فالفضح كما قلت لك، مهمّة لكن صعبة جدّا لأنّ أولئك المُتمعّشين ليسوا في الإعلام فقط، بل في كلّ المجالات. شعراء ليسوا شعراء، كتاب وليسوا كتّاب، وهم يكتبون ويعيدون الكتابة، ثمة روايات لم تقرأ بتاتا، ومجموعات شعرية لم تقرأ بالمرة. 
هل الجوائز التي حصلوا عليها الكتاب الشعراء هي جوائز مستحقة؟ 
سوف أصفها لك وصفا رائعا، تلك الجوائز هي مثل صكوك الغفران التي باعها القديسون في أوروبا الوسطى، لا علاقة لها بالواقع كلها، مجاملات وأكاذيب. لم أتحصّل يوما على جوائز لأني لم أُقدّم كتابا للحصول على جائزة، ولن أفعلها، وقد قلت هذا في التلفزة مرّة.  أنا لا أؤمن بهذه الجوائز المزيّفة، ولو كنت مؤمنة بها، لطلبت صكّ غفران من الكنيسة. 
متى يتوقّف هذا القصف ضدّ المبدع الحقيقي؟  هل هي مسؤولية الوزارة أم المبدع نفسه؟ 
هي مسؤولية المثقف، والمثقّف الذي يذهب للوزارات والرؤساء فهو لا يمتلك من الابداع شيئا. يكذب على نفسه وعلى العالم. المثقف هو المطالب بزلزلة ومواجهة المجتمع.  أنا أقف مع المظلوم سواء كان زميلي أم لا، لا أطبّق قاعدة ظالما ومظلوما. لا أساند الظالم، هذا عار. 
 المثقفون الذين تلتقي بهم حال عودتك إلى تونس وتنتظر لقاءهم بشغف؟
سوف أتحدث عن الفترة الأخيرة، في الفترات السابقة رحل الكثير إلى عالم آخر ان شاء الله يكون أجمل أو أقل وطئا. منذ سنوات، أقابل رضا مامي صديقي، بعض الاصدقاء في المسرح، أنور الشعافي، صابر السبتي، بعض وجوه المسرح، فاضل الجعايبي، كنت دوما أتابع أعماله الجديدة. لقد رحل أغلب أصدقائي من الشعراء والكتاب. أصبحت علاقتي بهم في برود تامّ، وقد كرهت المجاملات. 
مع من تريد أن تتخاصم؟
مع من أحبّهم. لا أخاصم إلاّ من أحبهم، ومن لا أحبهم لا ألتقي بهم أصلا ولا أحتاجهم. لي صديق حبيب كذلك أريد أن أذكره، لم نلتقي منذ زمان، أنيس الزين، يكتب الرواية، كنت ألتقيه دوما، ويأتي إلى باريس وألتقيه. وقد قدّمته وقدّمت له روايتين كذلك هنا في باريس. 
جملة شعرية أخيرة تختم بها هذا الحوار؟
وفي الوقت وقت
لنحتفل بالقليل القليل 
من الفرح الطارىء
والكبرياء العليل
كذب كل ما ندعيه
ومحض هراء…....
لم نكن خير ما احتملت الأرض 
وما زلنا نلعق سوءاتنا مطمئنين 
ونمسح بالخرقة عوراتنا….
ونصلي على الأنبياء 
نفاقا...ونطلب المغفره
لموتى لم نستشرهم. ..
ونسفك باسم الاه لم يستجرنا
دم الأبرياء 
وفي الوقت وقت
لنحتفل بالوقت
حين يعري حقيقتنا الباليه…
لم نكن اي شيء. ..
ومازلنا في الوقت 
نمتهن الحرف الخاسره
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون