ملامح التجارب المسرحية السورية في لبنان (2011-2018) والتحولات الإنتاجية الطارئة.
2021 ,19 كانون الأول
 
جزء من بحث قدمته د.نجوى قندقجي في ندوة بعنوان " تأثير جهة الإنتاج بما تمنح من مقدرات إنتاجية وأدوات عمل علي التجريب فى المسرح" في الدورة 28 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي.
*د. نجوى قندقجي:صوت العرب - القاهرة.
 
تلعب مصادر الإنتاج دوراً حاسماً في بناء العمل المسرحي على الصعيد الفني والفكري والجمالي. وكان المسرح عبر التاريخ يعكس بأدواته التعبيرية مستوى هذا المورد الإنتاجي، ويخدم أهدافه النفعية المُعلنة والمُتضمنة بدءاً من المسرح اليوناني وتكفّل الطبقة الثرية بترسيخ مقامها المجتمعي، مروراً بالقرون الوسطى وتحكّم المؤسسات الدينية لنشر تعاليمها ومن ثم الشركات البريطانية في عهد العصر الإليزابيثي الذهبي. 
في بلداننا العربية، تختلف العلاقات الإنتاجية مع اختلاف مسارات نشأتها وتطورها من جهة، واختلاف المنظومة السياسية بين الدول بما تتضمنه من تباينات في عمل المؤسسات وبُنيتها من جهة أخرى. وفي نظرة عامة يمكننا رصد أشكال مختلفة من آليات الإنتاج المسرحي، إذ هناك الإنتاجات المحدودة والمحدّدة التي تقدمها المعاهد الأكاديمية لعروض الطلاب أثناء الدراسة وحتى التخرّج. وهناك الإنتاج الحكومي المتمثّل بالوزارات الثقافية والمسارح القومية والوطنية التي تدعم عروضاً منفصلة أو تقوم بتنظيم نشاطات مسرحية على شكل مهرجانات أو مناسبات فنيّة. وهناك بعض الإنتاجات المُستقلّة التي تسعى إليها الفرق المسرحية معتمدة على مصادر مختلفة من التمويل، مثل منظمات المجتمع المدني والسفارات والشركات والمؤسسات الدولية المعنية بالنشاط الثقافي والإنساني.
يقوم الإنتاج المسرحي في سوريا بشكل أساسي على دعم المؤسسة الحكومية متمثلة في "مديرية المسارح والموسيقى" التابعة لوزارة الثقافة، والتي تضم عدة مسارح منها: المسرح القومي ومسرح العرائس والمسرح الجوّال. تدعم هذه المديرية الأعمال المسرحية لفنانين تقدموا لإنتاجها سواء كانوا موظفين لديها أو من خارجها، إضافة إلى وجود بعض الفرق المستقلة ذات الإنتاج والتمويل المحدود ارتبطت أعمالها بأسماء ممثليها مثل دريد لحّام مع (فرقة تشرين) وناجي جبر مع (فرقة دبابيس) وفرقة قنوع. ومع انتعاش الإنتاج التلفزيوني قامت بعض شركات الإنتاج الفني بدعم وتمويل بعض العروض المسرحية ولكنها لم تتسع لتشكّل مصدراً ثابتاً يمكن التعويل أو الإعتماد عليه، بل بقي هذا النوع من الإنتاج مقتصراً على تجارب يمكن تعدادها. 
 ومع إندلاع الحرب السورية عام 2011، قدم عدد كبير من الفنانين السوريين إلى لبنان وظهرت تجارب مسرحية سورية شغلت مساحة لافتة في الحراك المسرحي فيه، وأثارت بعض المفاهيم للتقنيات التعبيرية المسرحية. ومع ذلك وجد الفنان السوري نفسه في بيئة إنتاجية مختلفة في آليات عملها عن تلك التي خبرها في بلده الأم رغم تلاصق البلدين، مما كان له الأثر الكبير على طبيعة عمله الفنية والإبداعية وفتح آفاقاً جديدة للتجريب، وهو ما ضاعف من مستوى التحديات والصعوبات التقنية أمام المسرحي السوري في تكيّفه مع الشروط الإنتاجية الجديدة. وهذا ما يطرح أسئلة عدة:  
- ماهي الشروط الإنتاجية المستجدّة التي واجهها المسرحي السوري في بلد منفتح وحرّ مثل لبنان؟ وكيف استطاع التكيّف معها وتجاوز التغيّرات في الآليات الإنتاجية؟
- كيف تجلّت ملامح التجريب الفني تبعاً لاختلاف المصادر الإنتاجية؟ وما هي السلبيات والإيجابيات سواء خلال الصيرورة أو لاحقاً في مخرجات العمل الفني؟ 
- كيف كان إتجاه التاثير بين العمل والمتلقي؟ وهل أثّرت هذه العلاقة (العمل/المتلقي) على أدوات العمل التجريبية بحكم التجريب ضمن بيئة إنتاجية مغايرة؟
ساتناول بعض التجارب المسرحية السورية لفنانين أنتجوا أعمالهم في لبنان حيث يقيمون فيها، وليس تلك الأعمال المسرحية التي أُنتجت خارج لبنان وكانت المسارح اللبنانية فرصة للعرض فقط. 
 
آليات الإنتاج وواقع المسرح السوري حتى عام 2011:
كان المسرح القومي منذ تأسيسيه خلال الوحدة بين مصر وسوريا عام 1959 عماد الإنتاج المسرحي السوري، ومع أنّه شهد ذروة في انتاجه الكمي، الذي وصل إلى تقديم خمس وخمسين مسرحية حتى أوائل السبعينيات، فقد كان يعاني أزمة حدّدها الباحث "بلبل "في أربع نقاط: الإهتمام بالنص الأجنبي وتفضيله على النص العربي، عجزه عن جذب الجماهير، قصوره في طرح المشاكل الإجتماعية المحلية الملحّة، والتصاق التجربة المسرحية بشخصية المخرج ومزاجه، ما جعل تطور العمل المسرحي لا يسير ضمن خط ناظم نحو هدف محدد.  تغيرت بعض ملامح هذه الأزمة خلال الثمانينيات، دون خلوّها منها،. وفي التسعينيات جنح المسرح السوري نحو التجريب تماشياً مع فورة الحداثة التي اجتاحت المسرح العربي بشكل عام، 
ومع بداية الألفية الثالثة بدأ يبرز دور خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق في تغيير ملامح المشهد المسرحي، ونتج عن ذلك بعض التجارب التي تحمل بعض المظاهر الحداثية التجريبية، سواء في اختيار الموضوع أو المدخل التعبيري للعمل. 
بقي الفن المسرحي السوري حتى 2011 يعيش فراغات واسعة وعزلة عمّا يجري في المسرح العالمي، مع استمرار تمظهراته الفنية في كونه مسرح المحتوى وليس الشكل والمضمون، وكانت العروض بمثابة مغامرات مسرحية بسبب عدم توافر التمويل بالمعنى الإجتماعي والمؤسساتي، وتراجع تراكم الإصطفاف النقدي الذي أدى إلى انعدام الاحتدام المسرحي الإبداعي أيضاً. 
 
المشهد المسرحي في لبنان: 
يمتلك المسرح في لبنان منطقه وهمومه وبيئته الفنية الخاصة به، ما يجعله منسجماً مع الصورة المتشائمة لواقع المسرح العربي بشكل عام، وكأن الحركة المسرحية تعيش قطيعة تاريخية مع ما قدمه المسرحيون المؤسسون من لطيفة وأنطوان ملتقى وريمون جبارة ومنير أبو دبس وجلال خوري في السبعينيات، إضافة إلى تجارب روجيه عساف ونضال الأشقر، ولاحقاً الثمانينيات مع يعقوب الشدراوي وسهام ناصر ورفيق علي أحمد وعايدة صبرا. ومع ذلك كان أن حدث نشاطاً مسرحياً انفجارياً مطلع الألفية الثالثة وربما استمرت لما بعد 2011، ولكنها بقيت مصابة بالشكلانية وخفة الفودفيل، حيث "وقع الجميع في الشكل التقريبي، بدل أن يسلكوا الطريق الممتلئ بأسئلة جديدة قبل الشروع في الإجابة عن هذه الأسئلة والرؤى"  . وإذا نظرنا إلى الجانب الآخر من الصورة، تطالعنا مكوّنات على تضاد والواقع المسرحي السوري والتي كان على الفنان الوافد التعامل معها، ويمكننا أن نضع أبرزها في النقاط التالية:
- انفتاح لبنان واطّلاعه على التجارب العالمية امتداداً لمركّبه الثقافي كمكان مجتمعي، وما يتبع ذلك من إمكانيات الحصول على تقنيات أوسع.
- تعدد الفضاءات والفرق المسرحية بفضل التسهيلات القانونية في تأسيس الكيانات أو الهيئات المستقلّة، وهو ما يرفد المشهد المسرحي بتنويعات تجريبية ويغني الخيارات المهنية، 
- إختلاف آليات التمويل والإنتاج بحكم التحرر من التبعية الجهوية الرسمية (الحكومة)، والاعتماد على التمويل الخاص ودعم السفارات والهيئات والمنظمات الدولية، 
التقارب الثقافي بين سوريا ولبنان:
يساعد توصيف البيئتين المسرحيتين السورية-اللبنانية في مقاربة الأسئلة وإيجاد مسارات التأثير بين التشابه والإختلاف المتبادلة بينهما. يتمثل التقارب الثقافي بين سوريا ولبنان امتداداً للتاريخ السياسي بين البلدين، كما يمتدّ إلى البيئة الإجتماعية والتي تبدو تقريباً واحدة في أوجه كثيرة، ليأتي مسار التقارب الثقافي والفني متيناً ومؤثراً. 
وعلى صعيد المسرح، فإن التزاوج في المسرح بين لبنان وسوريا ليس وليد اللحظة بل تقوم التجربة المشتركة والمتبادلة والعميقة منذ أوائل الستينيات مع تجربة عبد الغني العريس مؤسس مسرح القباني حيث كان يدير فرقة تعيش في سوريا ولبنان معاً. إذ كانت سوريا تشكّل العمق الإستراتيجي الثقافي للمسرح اللبناني، كما جرى مع مسرح الرحابنة وتجربة الحكواتي مع روجيه عساف، والتي جاءت ضمن عروض المناسبات وليس بالشكل التجاري، لتأخذ نوعاً من التثبيت والترسيخ، كما كانت الساحة البيروتية شرفة على الغرب وأيضاً فرصة إثبات بالنسبة للمسرحيين السوريين. كما عزّز هذا التقارب إقامة مهرجان دمشق المسرحي والفرق المدعومة من منظمات المجتمع المدني.
انحسرت العلاقات االمسرحية بين البلدين في بداية الألفين، وأصبحت في أدنى حالاتها لانعدام مهرجانات المسرح التي كانت تجمع المسرحيين وتوفر فرصة التفاعل الفني الثقافي، وإن كان هذا لم يمنع من أن هناك بضعة عروض قد تكون هنا وهناك. ومع انطلاق الثورة السورية 2011، نزح السوريون إلى لبنان بأعداد هائلة، وشكّل عدد الفنانين حمولة كبيرة على المسرح اللبناني، ولكن صعوبة إقامة الفنان السوري حوّلت لبنان إلى منطقة عبور 
 
المسرحيون السوريون والواقع المسرحي الجديد: 
أبدت الحركة المسرحيّة السوريّة في لبنان نشاطًا ملحوظًا مع تزايد أعداد اللاجئين السوريين بلغت ذروتها بين عامي 2012-2015، وكانت الأعمال المسرحية جزءاً من النشاط الثقافي السوري، حيث عقدت مهرجانات "منمنمات شهر لسوريا" 2013، "منصة المسرح العربي أغورا" 2014، كما كان ملتقى "ابتكر سوريا" في العام 2016 الذي ناقش جميع أشكال النشاط الثقافي الفني السوري، بما يشمل الفنون البصرية وعروض الرقص المعاصر والموسيقيّة والسينمائيّة والمسرحيّة، كما أحصي ما يقارب الخمسة عروض مسرحيّة العام 2018.  
ربما لا تستطيع الحرب السورية، ولقسوتها، إلا أن تكون حاضرة وإن كان على شكل تهويمات أو إيحاءات تخرج من ثنايا العمل المسرحي بموتيفات وإشارات تتفكك دلالاتها وتستقر عند هذه الحرب. ضمن هذا السياق، تشير الخبيرة في فنون العرض جمانة الياسري "بات المسرح إحدى المنصات الأساسيّة التي تُروى عليها الحكاية السوريّة، وإن كان من بعيد... وكُتبت عشرات النصوص المسرحيّة  في محاولة تأريخ الكارثة والكشف عن الحقيقة عبر العودة إلى وقائع وأحداث زامنت، بل وحتى سبقت في بعض الأحيان لحظة عام 2011."
يمكن تناول طور إنتاج العمل المسرحي، الذي يعكس بنية الإدارة الثقافية للعمل الفني بدءاً من التمويل إلى التنفيذ وصولاً إلى التسويق، ضمن ثلاث سياقات أساسية:
أ- على صعيد المحتوى: 
ب-على صعيد الشكل الفني: 
ت- العلاقة مع المستهلك:.
أ‌- المُنتج المسرحي والمحتوى:
يبداً المحتوى في التكوّن اعتماداً على النص، فهو أساس إنطلاق العملية الإنتاجية، مع كل محاولات الرؤية الإخراجية في تفجير معاني النص وتعميق دلالاته ومقولاته. ومن هنا فإن خيار المخرج للنص يحدد المسار الإيديولوجي للعمل، في محاكاته ومقاربته للمحتوى والمقولة. وفي نظرة عامة على أعمال المسرحيين السوريين، يطالعنا تنوّعاً في اختيار النصوص بدءاً من النصوص العالمية والمحلية والإقتباس الأدبي والتأليف الجماعي. ولا يمكننا استعراض جميع النصوص ولكن يمكننا استحضار أمثلة لبعض النصوص العالمية، مثل "تيكي كارديا" 2014 عن نص الفرنسي فلوريان زيلير "الحقيقة" المستوحاة من مسرحية هارولد بنتر "الخيانة" والذي أخرجه جمال ارشيد، وكان عرض " تفصيل صغير" 2014 الذي أخرجه عمر جباعي للكاتب الإسباني أنطونيو بويرو بييخو، إضافة لمسرحية "أوكنو" 2015 عن نص الكاتب البولوني إيرنيوش إيردنسكي، كما أخرج عبدالله الكفري "الإعتراف" 2018 استناداً إلى نص مسرحية "الموت والعذراء" للكاتب التشيلي آريل دورفمان، حيث قام بالإعداد وائل قدور. كما اعتمد المخرج أسامة حلال التأليف الجماعي والإقتباس من النصوص الأدبية والشعرية مثل "سلوفان" 2013، و"فوق الصفر" 2014-2016 وهو عرض راقص مستوحى من شعر المسرحي برتولد بريخت، ومن تأليف عبد قبيسي وعلى الحوت، أما عمله "الجانب الآخر من الحديقة" 2018 فكان عن "قصة أم" للكاتب الدانماركي هانز أندرسن. بينما كانت أغلب تجارب ساري مصطفى المسرحية من تأليفه مثل عرضي "حلم" 2014 و"حقن اللعبة" 2016، وأيضاَ مسرحية "ما عم اتذكر" للمخرج السوري وائل علي والتي حاول المخرج إعادة بناء السيرة الذاتية لموسيقي كان معتقلاُ وهاجر إلى فرنسا، فقدمت واقعة سياسية اعتمدت المساحات الصوتية مما أثار سؤال ماهية نوعها الفني بين المسرح الوثائقي أو المسرح التسجيلي . لا يمنع توافر هذا الاختلاف في النصوص من طرح الأسئلة التالية: 
- هل كانت الحرب هي تيمة-موضوع العرض الأساسية ؟ أم حاول المسرحي السوري أن يتبرأ من الموقف السياسي ويكتفي بالبوح الإنساني؟ 
- هل سعى العمل المسرحي إلى إيصال جحيم الحرب أم إلى إحياء المسرح السوري كفن؟ هل وضعت التجربة أسئلة جديدة أمام الفنان السوري ذاته؟
تشير الباحثة ماري الياس في ملف عن المسرح السوري حول الكتابة المسرحيّة، أنه ورغم الظروف والصعوبات التي يمر بها السوريون، هناك غزارة في إنتاج النصوص، ولا سيّما تلك التي أنتجتها ورشات الكتابة التي أشرفت الدكتورة الياس بنفسها على بعض منها بدعم من برامج"مؤسّسة مواطنون فنّانون"، وممولها الرئيسي شبكة تماسي، وهناك دورات أخرى دعمتها "المورد الثقافي" و"آفاق" و"اتجاهات - ثقافة مستقلة"، وتعتبر أهمّها ورشة نظّمها "مسرح الرويال كورت" البريطاني برعاية المجلس الثقافي البريطاني في بيروت، وأغلب هذه الورشات سعت لتجمع كتّاباً من الداخل والخارج، وتضع ملامح هذه الكتابة المسرحية في معضلة أهمها هو فقدان المرجعية، بسبب تلك الفجوة التي تفصل هذا الجيل عمّن سبقه، ليصبح "ما ينتج أو يُكتب للمسرح اليوم يدل على أنّه غير قادر أن يستند إلى الحاضر المُركّب المُعاش والتعبير عنه بشكل واضح، من عبثيّة الحياة وإلحاح القضايا الكبيرة والمصيريّة" ، ومن جهة أخرى تجد أنه وبسبب صعوبة في إمكانيّة التعبير وتقديم صورة كاملة لما يحدث واجه الفنان المسرحي التباساً حول مفهومي الهوية والإنتماء، وهذا الضياع قارب الجنون في بعض الأحيان.
 
ب‌- المُنتج المسرحي والشكل الفني:
شكّلت الفرصة المسرحية في لبنان أمام الفنان السوري استمراراً لتلك التي محاولات قادها مجموعة من المسرحيين والمثقفين في سوريا قبل الأزمة كما أسلفنا سابقاً، وذلك لإرساء الفن المستقل وحرية التعبير وتجاوز الإنغلاق نحو الانفتاح والتقارب مع تجارب المسرح المعاصر، و"تجلّت هذه المحاولات بتشكيل فرق شبابيّة، والبحث عن أمكنة بديلة، تأسيس معاهد خاصة والانفتاح على أشكال عروض جديدة مثل مسرح الشارع، مسرح الصورة، وخاصة الكتابة الجديدة
أما على صعيد الشكل فقد اختار المسرح الحركي لإيصال المعنى وتعميمه فهماً وإدراكاً على نطاق أوسع دون وساطة الكلمات، وأراد كسر ذاك الفاصل الراديكالي التي تخلقه الخشبة بين المنصة والمتلقي، وهو خيار كان في بداية الألفية الثالثة خارج عن المألوف في المشهد المسرحي السوري.
جميع هذه التجارب واجهت صيرورة مختلفة في إنتاج العمل المسرحي وصولاً لولادة العرض المسرحي، مما يدفعنا للتساؤل:    
- ماهو العائق الأساسي في إنتاج عرض مسرحي؟ هل هي فنيّة أم تمويلية؟ أو ما هو التحدي الأساسي في مجاراة المسرح اللبناني؟ هل كان على الصعيد الفني أم على الصعيد الفكري؟ 
- هل استطاعوا خلق تجربة تعويضية؟ وماهي القيود التي استطاعوا التحرر منها بفضل ما أتاحته الساحة اللبنانية؟
وجد المسرحيون السوريون أنفسهم في مواجهة موديل مختلف تماماً في إنتاج السياسات الثقافية في لبنان، حيث لاتوجد الدولة بسبب مخلّفات الحرب الأهلية، والتي غاب معها بناء مؤسسات رسمية تستطيع تنفيذ خدمات كان يجب أن تؤمنها الدولة. وقد غطّى هذا الغياب قيام كيانات فنيّة، تلعب دوراً بديلاً عن الدولة، هنا يمكننا ذكر مسرح دوار الشمس ومسرح المدينة، ومسرح مونو والذي يتبع الجامعة اليسوعية، ومسرح بيروت الذي خرج منه الكثير من المسرحيين الذين يعملون اليوم، كما يمكننا إدراج فرقة زقاق في هذا السياق أيضاً. كل هذا خلق بيئة ومناخ يوفّر الحصول على عمل وإنتاج وبرمجة من خلال دعم مؤسسات أجنبية أو مؤسسات مانحة. 
كانت المبادرة الذاتية هي المحاولة الأولى في التغلّب على آليات الإنتاج المعقدة في البلد المضيف، وكانت بدافع الحماس من جهة وبدافع عدم القدرة على التأقلم مع صعوبة هذه الآليات من جهة أخرى. في ضوء النقطة الأولى نجد أنه أُنجزت بعض الأعمال بجهود بطولية، مثل إنجاز المخرج ساري في تقديم عرض "مونولوج..استفقت" 2013، الذي أفاد أنه قدمه من دون تمويل ما عدا بعض الأشياء التي اشتراها من ماله الخاص (150.000 ل ل ما بعادل 100$) وتدبّر مكوّنات الديكور من ممتلكات مسرح دوار الشمس. أمّا التدريبات فكانت في البيت، لأن المسرح يسلّم فضاء الخشبة لنصب الديكور قبل العرض فقط بأسبوعين، ولم تكن العروض الأخرى اللاحقة بأفضل حال وإن كان مع التوفّر التمويل الذي بقي شحيحاً، ولكن ساري يؤكّد "مع كل هذه الصعوبات كنت سعيداً بالتجربة، لأنني لو كنت في سوريا لما استطعت الوصول إلى مرحلة العرض، لأنه حتى المبادرة الشخصية بحاجة لترخيص" . وكان تحدي شحّ التمويل، جزءاً من تجربة جباعي أيضاً فقد بلغ إنتاج "أوكنو" 4500 دولار لكامل العرض، بينما بلغ انتاج عرض "برونز" 6000 دولار، ولا بدّ أن هذا كان له تأثير كبير على البنية الفنية الخاصة بالعرض ولغته البصرية وحلوله الدرامية، فقد اضطر في مسرحية "تفصيل صغير"، التي بلغ انتاجها عشرة آلاف دولار، إلى تخفيض عدد الشخصيات من خمسة عشر شخصية لتصبح مسرحية في سبع شخصيات، مثّل المخرج نفسه دور إحداها، كما تنازل عن مشاركة الممثلين المحترفين واستعان بالأصدقاء والناس العاديين للاختيار في لعب  أدوار المسرحية.  
وفي معرض حديثي مع المُخرجَين، يؤكّد كلّ من مصطفى وجباعي، على وجود فجوة كبيرة بين المانحين والفاعلين المسرحيين، ونجد توافقهما في تحديد الصعوبات التي يواجهونها في تحصيل التمويل اللازم لانتاج العمل المسرحي، والتي يمكن وضعها في النقاط التالية:
- عدم وجود خبرة لدى المخرج السوري في تقديم الطلب للحصول على تمويل من المؤسسات الخاصة.
- عدم القدرة على تأمين أو تكليف مختصين في كيفية كتابة وتقديم طلبات التمويل، وهم قلّة في الوسط الثقافي السوري. 
- الصعوبات المعيشية واللوجيستية لدى الفنان السوري.
- عائق اللغة، حيث معظم الطلبات تُقدم باللغة الإنكليزية وإن كان المشروع يخص الشأن السوري الذي تودّ تمويله هذه المؤسسات.
- القناعة بعدم مصداقية هذه الآلية في التقييم القائمة على فن الكتابة وليس الفعل، ما يبقي اعتبارها اجراء غربي مستورد لا يتناسب مع البنية الفنية العربية في الإنتاج.
- التأثير السلبي على المحتوى، ليأخذ منحى استهلاكياً وليس ابداعياً حتى يتناسب مع توجّه المؤسسات المانحة، أو ليحقق أهداف مشاريعها المطروحة، والتي قد تتناقض مع الطرح الدرامي والفني للعرض. 
- الإستياء من مظاهر التعالي التي تبديها بعض المؤسسات المانحة أثناء إجراءات التقديم، مثل عدم الردّ أو تقديم أسباب الرفض، والتي تولّد شعوراً بالإذلال والنفور لدى الفنان.
- أعطاب شروط التقديم على اختلاف المؤسسات وتفاصيل شروطها، مثل: كتابة الرؤية الإخراجية والتي لا تنضج إلا مع سيرورة العمل والتدريبات، وضع الميزانية، نسبة الدفعات وتغطيتها، إلخ. 
ربما تستدعي هذه المآخذ إلى إعادة النظر في طبيعة هذه الآليات والبحث عن آليات جديدة للتمويل، التي يدعو إليها بعض الفنانين السوريين، وهي حلول تحتاج إلى تعاون من قبل جميع الفاعلين في المشهد الثقافي السوري، وليس فقط الحقل المسرحي
 
ت‌- المُنتج المسرحي وفضاء التلقي:
استقبلت الكثير من الفضاءات الثقافية اللبنانية الفنانين السوريين حيث أقاموا مختلف النشاطات الفنية، وكان مسرح "دوار الشمس" من أول المبادرين لإقامة مختلف النشاطات الثقافية السورية، كما قدم مترو المدينة، أحد فضاءات مسرح المدينة، مختلف الأعمال السورية، ولاسيّما الموسيقية، وتعرّف معه الفنانون السوريون على أحد أهم ممارسات الفن المستقل المعاصر (المشهد ماتحت الأرض- underground scene)، وهو شكل لم يكن مألوفاً لدى السوريين ومحصور بثقافتهم المعرفية وليس التطبيقية، وهو ما أنتج أعمال تجرّب على النوع الفني وتسائل هوّيته. كلّ هذا ما كان لولا وجود التعاون ما بين الفنانين أنفسهم (سوريين ولبنانيين) من ممثلين وتقنيين، ومع الفضاءات المستقلة مثل ستوديو زقاق وزيكو هاوس، ومن جهتهم أبدى الفنانون السوريين نوعاً من التكيّف عبر إعادة التفكير بالعملية المسرحية بطريقة أخرى، والتي برزت في التجارب السورية وعلى أكثر من مستوى، مثل مشاركة الفنان اللبناني وظهور أشكال أدائية مستحدثة وجريئة، وتقديم العروض في أماكن ومناسبات مختلفة، والتفاعل مع الناس وطموح في استدامة العرض وتلقي الدعوات لتقديمه في الخارج.
 أنتج التفاعل والإحتكاك مع الفنان اللبناني، تأثيراً متبادلاً، وذلك لاختلاف التربية الفنية ما بين الممثل اللبناني والسوري، الذي يعود إلى مناهج التدريس في المعهد بسوريا بما يخص الأداء والتمثيل المبنية بشكل كلاسيكي قوي باستطاعتها تأسيس أرضية قوية، بينما تبرز حرية الفنان اللبناني الجسدية ومهارته التعبيرية الحركية، في حين يتميز الممثل السوري، وباعتراف اللبناني، بنضوج وإدراك في فهم المحتوى درامياً وهنا يتم ّ التبادل
إنها لحظة اللقاء بين فنان قادم من دولة لاغية للفرد وأخرى تولي اعتباراً للفرد، وهي مساحة غنية بالنسبة للفنان السوري واللبناني كي يختبروا مساحة جديدة من التعاون العضوي، ولاتمنع هذه النقاط الإيجابية في إطار التفاعل مع الفضاء المضيف، أن نطرح الأسئلة التالية:
- هل تفاعلت هذه الأعمال السورية مع محيطها وتركت أثراً؟ ماهي آليات التلقي من قبل الفضاء اللبناني؟ 
- هل استطاع الفنانون السوريون خلق تجربة تعويضية؟ وماهي القيود التي استطاعوا التحرر منها بفضل ما أتاحته الساحة اللبنانية؟
في رصد حركة المشاهدين للعروض السورية وعدد هذه العروض، يطالعنا أنها كانت تستمر لأيام معدودة، وإن كانت الصالة ممتلئة، وهذا في أحسن الحالات، أي بقيت هذه الأعمال معزولة ومقتصرة على فئة محددة، وهو ما يعيد إلى الأذهان أزمة المسرح في البلد الأم، ولكن هنا تعود في جوهرها لظروف الإنتاج عموماً، وظروف العيش الصعبة في لبنان، بلد الإنقسامات الطائفية والسياسية الحادّة، وكيف ينعكس ذلك بشكل خاص على السوريين. 
هذه المرحلة، البدء من الصفر، تطالع الفنان السوري في كل عمل، ليس فقط على صعيد الأدوات الفنية والأسئلة الفردية والفنية مع الممثلين وطاقم العمل بل بالعلاقة مع الجمهور أيضاً، حيث ينعدم إدراك العلاقة وكيف تطورت عن الأعمال السابقة أو بنيت عليها، وهو ما يؤثّر على الوصول إلى الجمهور الذي يطمح العمل المسرحي إليه، ولكن ربما على الصعيد الشخصي، فإن التجارب تخلق تراكماً في الوعي والتجريب الفني، وهذا ما نلحظه في تطوّر واختلاف أعمال كلّ من حلال وجباعي ومصطفى، عند إجراء مقاربة أكثر دقة للمقارنة ما بين أعمالهم الأولى والأخيرة.  
يدرس الباحث والناقد علاء رشيدي أنواع التلقي في المسرح السوري المعاصر انطلاقاً من 2011، حيث يمكن للعرض أن يبحث عن أشكال جديدة في العلاقة مع المتلقي، فأحياناً يكون التلقي جزءاً من عملية التأويل المسرحي، وقد يكون عنصر التلقي مكوّن أساسي من مكوّنات العرض في افتراضه الفني. وقد توصل رشيدي إلى أن التجريب طال أشكال جديدة في التلقي لأن واقع المسرح السوري خارج سوريا، تطلب البحث في أسلوبيات التعبير عن الموضوعات الحديثة، لإيصال رسالة العرض إلى المتلقي. 
لم ينقذ هذا التنوّع في العلاقة مع المتلقي وفضائه، محدودية التأثير للتجارب السورية في لبنان، وكلّ هذا الترحيب والإحتضان الذي لاقاه الفنانون السوريون من قبل أقرانهم اللبنانين، لم يتغلب على الرفض الرسمي للوجود السوري في لبنان، لاجئين أو فنانين، فالسلطات الرسمية لا تهتم بالصفة المهنية وبقيت تتعامل مع السوريين كأرقام. وهذه السلبية تصيب كلا الطرفين، و ليس مستغرباً أن يصل الناقد المسرحي اللبناني عبيدو باشا إلى نتيجة كتبها عام 2015 عندما كانت الحركة المسرحية السورية في لبنان في أوجها كما نوّهنا، ويقول مصرّحاً بشكل قاطع: "لن تنمو المسرحية السورية إلا في سوريا، إلا بالمدينة السورية. حضورها حضور قاصر بلبنان وفي أي بلد آخر، لا بسوريا. لأن المسرح مديني. نقطة التموضع، تبقى رمزية، لحظة الإبتعاد عن دمشق أو حُمص أو حماه أو حلب. لا تأثيرات. لا شراكة، مؤثرة. لن يتمخض الجرح عن عقد وربط مع المسرح، إلا في سوريا. لم تعد المسرحية حدثاً، أضحت مناسبة، لا أكثر".
لا شكّ أن هذا شكّل نوعاُ من الفصام بين الواقع والحلم لدى المسرحيين السوريين، إضافة إلى الخذلان من الثورة أو الحراك وما وصلت إليه من نتائج مختلفة عن تلك التي كان الفنان بانتظارها، بالتالي هو في البداية اعتبر نفسه من المحرّكات الثورية ولكن مع الزمن، أصبح أمراً بعيد المنال، فقد عانى الفنانون السوريون من الرفض الرسمي لوجودهم ومن المعوّقات القانونية التي كانت تهددهم باستمرار، مما قضى على الشعور بالأمان أو الإستقرار، وبات لبنان مكاناً خطراً بالنسبة لهم، فكانوا هاربين ليس إلا وهذا ما يفسّر مغادرة معظمهم نحو أوروبا، ودون عودة.
استنتاجات:
- ساهمت التجارب المسرحية السورية في لبنان في إظهار أعطاب هذا المسرح المقيّد-المسقوف، حيث انتقل الفنانون السوريون من وسط مسرحي منضبط في حدود التعبير إلى وسط منفلت ومفتوح الحدود كمّاً ونوعاً.
- تنوعت الموضوعات التي طرحها الفنانون السوريون في أعمالهم، ولكن بقيت الحرب حاضرة وإن قرر بعضهم الإبتعاد عنها، وإن توارت من الحكاية فقد ظهرت في المفردات الأدائية والبصرية.
- واجه المسرحيون آليات الإنتاج الحرّ لعدم امتلاكهم المهارات اللازمة لتنفيذه وإتقانه، واعتمدت تجاربهم على المبادرات الذاتية والتعاون الإيجابي من قبل الفنانين اللبنانين والفضاءات الثقافية المستقلة. 
- ضاعت هوية العروض الفنيّة بسبب فقدان الإستمرارية وعدم تحقق التراكم، فكان العرض مناسبة مسرحية سورية ليس جزءاً من المسرح اللبناني وليس جزءاً من المسرح السوري أيضاً.
- لم تسطيع تجارب السوريين أن تترك أثراً فنيّاً أو أن تصنع إبهاراً، رغم الترحيب بهم من قبل الفضاء المسرحي اللبناني ولكنها بقيت رهن شروطه الخاصة.
 *مخرجة مسرحية وأكاديمية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون