*مقاربة نقدية لسيرة الكاتب المبدع" فرحان بلبل"- كتاب -"المسرح وحكاية العمر".
2022 ,05 حزيران
د. رشا العلي
*د. رشا ناصر العلي :صوت العرب - سوريا.
الكتابة السيرية المسرحية -على قلتها- إحدى المحاور المهمة في الدرس النقدي المسرحي المعاصر، و من مشاغله لقيمتها الإبداعية والحياتية والثقافية، لذا جاء بحثي تلبية لحاجة ملحة لدى الدارسين والباحثين المشتغلين في الميدان المسرحي، ومن ثم اخترت المقاربة النقدية لسيرة كاتب من أهم المسرحيين السوريين، بل العرب للوقوف على سيرته الذاتية المسرحية، هو فرحان بلبل، بوصفها تمثيلاً لوجوده الثقافي والاجتماعي الذي يغدو وعياً إنسانياً بقدر ما هو وعي تاريخي واجتماعي، وقد اتخذ البحث من كتابه (المسرح وحكاية العمر) مجالاً لاكتشاف هذا الوعي وبحثاً عن الوظيفة الثقافية لهذه السيرة في واقع مضطرب تصطرع فيه الآراء وتمعن في تعليق وجود المسرح وفعله. 
ولعل أهم ما يميز هذه السيرة أنها تمتد لسنوات طويلة وتشهد على مراحل متعاقبة مر بها المسرح  السوري والعربي، فقد كوّن فرقة مسرحية حافظت على استمراريتها ما يزيد عن أربعين عاماً، وهذا قليل في تاريخ المسرح العالمي والعربي والسوري، وكان لها مشروع ثقافي تنويري له امتداداته الفنية والفكرية والاجتماعية، ولها هدف واضح ينبثق عنه أصول فنية محددة سنشير إليها لاحقاً، وهذه الأصول تتفق في بعض أجزائها مع مجمل حركة المسرح السوري والعربي، وتختلف عنها في بعض أجزائها، لكنها على كل الحالات تترك منهجها الفني والفكري الذي يصبح اتجاهاً مسرحياً ينهل منه من يأتي بعده من المسرحيين أخذاً منه أو نفياً له.    
الكاتب فرحان بلبل يستعيد في هذه السيرة أحداثاً وعالماً كاملاً يقبع في الذاكرة في شيء من الزهو والفخار أحياناً، وفي شيء من الحسرة والحزن أحياناً، وفي تأمل واعٍ للماضي والحاضر والمستقبل في كل الأحيان، لذلك نلمس في هذه السيرة بوحاً و تعبيراً عن قضايا ملحة وشائكة يطرحها على مستويات عدة سياسية واجتماعية وثقافية ووجودية، يطرحها بروح الباحث المتأمل الذي خبر الحياة وانشغل بهمومها الثقافية.
يطالع القارئ في السيرة الذاتية لفرحان بلبل أمرين:
الأول: حالة الصدام بين التصور الذهني والواقع الفعلي للمسرح.
والثاني: حضور فكرة التعلّم بما تتطلبه من آليات وعناصر ومواقف درامية وقيم معرفية وغايات نفسية وسلوكية.
ما إن يشرع القارئ في قراءة الكتاب حتى تستوقفه ظاهرة مهيمنة تستبد بأغلب فصوله وتضطلع بتوجيه مساراته، وقد عُنونت بشكل فني على الشكل التالي ( الجدول – النهر- البحيرة- مداد الكاتب)، يستوقفه نزوع الكاتب إلى التآلف مع منجزات العمل المسرحي، أولاً باحتراف الكتابة المسرحية سبيلاً يعبر به عن فهمه للحياة، وثانياً باندفاعه نحو إخراج أعماله سبيلاً يختبر فيه معارفه عن فن المسرح ومخزونه الثقافي.
وفي كلا الأمرين (الكتابة والإخراج) تشير هذه السيرة إلى دور المسرح أو أهدافه أو منطلقاته، فإما أن يكون فناً رفيعاً ومؤثراً أو مثيراً للمشاعر الإنسانية ومتفاعلاً مع الواقع، أو هو ليس بفن!
الشيء الآخر الذي نود الإشارة إليه قبل استعراض فصول الكتاب، هو تحديد الملامح العامة لهذه السيرة، اعتماداً على درجة العفوية، والتعبير الصريح عن الأنا، إذ كتبها بطريقة عفوية وحدسية تعكس طبيعته الداخلية، ففيها غنى شعوري يسهم في تشكيل رؤية للذات، وبلورة علاقتها بالعالم وموقفها منه، مما يجعل سيرته وثيقة الصلة بممارساته المسرحية، وما ينبثق عنها من موضوعات تغلب عليها الطبيعة (النضالية الاشتراكية)، باعتبار عميق اقترانها بأشكال المعاناة فردياً واجتماعياً، وهي قضايا تنصهر كلها ضمن مسألة التحرر، وهي مسألة مهمة في المسرح العربي عموماً.
أحياناً نلمح في هذه السيرة نوعاً من الاعتراف الذي يقوم على البوح والتداعي، واستدعاء مكونات السيرة الذاتية والاشتغال عليها لتكون سيرة موازية لسيرة المسرح، يعبر بها الكاتب عن ذاته المباشرة وعلاقته بهذا الفن الذي استغرق العمر كله، ومن هنا غدا المسرح هو حكاية العمر الحقيقية، وهذا ما يحقق صدق هذه السيرة، التي لا تهتم فقط بحياة بلبل وصراعه المرير من أجل تأكيد هوية عربية للمسرح ووضع قواعد ضابطة له، بل بوصفه كائناً مكتملاً له استقلاليته وخصوصيته وجهوده الفردية في إغناء فن المسرح تنظيراً وتطبيقاً عملياً من خلال الفرقة التي أسسها في سوريا وقدم بها ومن خلالها فهمه للحياة والمسرح هي (فرقة المسرح العمالي)، لذلك نجد في هذه السيرة ثلاثة جوانب أساسية، هي:
مكانته في المجتمع- تطوير قدراته- مكانة المسرح في حياته الشخصية المبدعة.
والسؤال الذي يلحّ الآن، لماذا لم يتقنّع الكاتب خلف قضايا عامة، بدلاً من الكتابة عن ذاته مباشرة؟ وهذا الأمر يستطيعه وفعله في بعض كتبه النقدية
ربما لكونه أكثر التصاقاً بذاته وتعبيراً عن هواجسه، وبحثاً عن هوية مسرحية ما تزال في ظنه تتعرض للاستلاب، ومن ثم كانت الرغبة ملحة في هذا الكتاب لتأكيد وجوده (إنسانياً ومسرحياً) من خلال إعلاء الذات في مواجهة أفعال الإلغاء أو الإقصاء، أو لنقل إن هذه السيرة تصور المغامرات الفردية التي تقوم بها الذات لمواجهة مظاهر الصراع التي أوجدتها التحولات المتأزمة للمجتمع، إضافة إلى شعور الذات بعدم تلاؤمها مع واقعها، والملاحظة الأولى أو المبدئية التي يُصدرها القارئ بعيداً عن مناقشة متون السيرة وطرح أسئلتها هي أن معظم هذه المتون ناقشت قضايا حياتية ومسرحية لصيقة بذات المبدع (فرحان بلبل) وهمومه.
فمن خلال استعراضنا لفصول الكتاب نلاحظ أن بلبل لم يسلط جهده على سيرته الذاتية المسرحية فقط، وإنما تحرّك منها إلى الخلفيات الثقافية التي وراءها.
مخاض البدايات وأثر المكونات الثقافية في توجه بلبل إلى المسرح: 
في الفصل الأول من الكتاب (الجدول) يتحدث بلبل عن المخاض الفكري والسياسي والاقتصادي الذي بدأ يهز سورية منذ بداية الخمسينيات، و الذي ظهر مباشرة في نشاط أدبي مجدد في الشعر والقصة والرواية مستندين إلى تراث عميق، وتأخر ظهوره في المسرح الذي اقتصر على تقديم النصوص المسرحية الأجنبية القوية، ذلك أن المسرحيين في ذلك الوقت كانوا ما يزالون يسيرون على حذر التلميذ الذي لم يأخذ عن أستاذه إلا أقل الدروس فلم يتقن أصول اللعبة جيداً، فكان تقديم النصوص الأجنبية واحداً من هذه الدروس.
في تلك الأثناء كان بلبل غافلاً عن النشاط الفوار في دمشق والجامعة لأنه كان مشغولاً بتدبير مصروف الجامعة فعمل مدرسا خصوصياً وأجيراً في بقالية وعاملاً مؤقتاً في الشركة الخماسية للنسيج التي تعمل في ظل نظام رأسمالي ربحي، والتي قدمت له عرضاً سخياً هو منحة إلى مصر بعد انتهاء دراسته الجامعية للحصول على الدكتوراه ومن ثم يعود ليكون عضواً في البرلمان، لكن قراءته المبكرة للماركسية جعلته يدرك أساليب رأس المال في الحكم والسيطرة، ذلك أن هذه الشركات هي التي تحكم سورية وتدفع بعناصر مؤيدة لها إلى البرلمان، لذلك أحسّ بلبل أنه إذا قبل بما عُرض عليه فسوف يكون خادماً مطيعا لأداة النهب والاستغلال، فاعتذر وخرج من الشركة.
في هذه المرحلة من السيرة لم يكن العمل وحده ما شغله عن نشاط الأدب وعن المسرح، بل كان مشغولاً أيضاً بالقراءة وتكوينه الثقافي، وكان مفتوناً بثلاثة أمور، أولها التراث العربي شعره ونثره وتاريخه، وكان حافظاً لآلاف أبيات الشعر وللكثير من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، مما شكل ذخيرة لغوية كان لها أثر حاسم في كتاباته المسرحية والنقدية فيما تلا من سنوات.
الأمر الثاني هو الأدب العربي الحديث والمصري على وجه الخصوص، شعراً ونثراً، ثم كان الانشغال الثالث أدب الغرب وفلسفته وكانت الماركسية والوجودية والفرويدية على رأسها والتي طبعت أبناء جيله بطابعها، لاسيما كتاب ستالين (المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية).
في هذه الأثناء بدأ بتكوين مكتبة بلغت أكثر من مئة كتاب جمع ثمنها من عمله في الخياطة بعد خروجه من الميتم في سن الحادية عشرة، وقد تعلم من هذه المهنة الصبر والاهتمام بالجزئيات الصغيرة المشغولة بإتقان وكان لذلك أثره فيما بعد، أي التعامل الدؤوب المتقن الصابر مع المسرح نصاً وعرضاً وتمثيلاً.
بهذا الزاد الثقافي المأخوذ عن القديم والحديث، وبهذه المعرفة الواسعة تخرج بلبل من الجامعة عام 1960 وعُيّن مدرساً في القامشلي الواقعة في أقصى الشمال الشرقي من سورية، وفي هذه المدينة النائية حدثت المفارقة وبداية العلاقة مع المسرح، واختبار لمعلوماته الثقافية من خلال المحاضرات التي كان يلقيها مرة كل شهر والتي كانت تثير حوارات طويلة مع الجمهور، وفي هذه المدينة كانت البداية مع المسرح على غير توقع وانتظار عندما طلب منه (اسكندر عزيز) أن يكتب مسرحية ليقوم بإخراجها، فكان الدافع لكتابة أول مسرحية والتي جاءت بعنوان (الثأر الموروث)، ودارت عن أسرة فلسطينية تهاجر من فلسطين بعد النكبة حاملة ذكرياتها وآلامها التي تحولت إلى ثأر شخصي ووطني موروث عند أبنائها، فكانت فلسطين جرحاً أطل في أول مغامرة مسرحية لبلبل وظلت حاضرة في أكثر ما كتب فيما بعد.
لقيت المسرحية إعجاباً كبيراً طوال أيام عرضها، ومع سفر (اسكندر عزيز) إلى دمشق لأنه قُبل عضواً في المسرح القومي، انقطع بلبل عن المسرح من جديد انقطاعاً تاماً، وعاد لنهمه للقراءة، ومع زواجه في القامشلي تحقق له الهدوء النفسي والجسدي والاستقرار وهو ما كان يفتقده مع اليتم،  فانصرف إلى الكتابة والإخراج والنقد، يقول: "فكان أن عشت حياة عائلية متوازنة مريحة سمحت لي أن أنصرف إلى المسرح بكل جوارحي وأنا أشعر أن ورائي امرأة تسندني وتشد أزري في كل ما أفعل" 
إن السيرة الذاتية لبلل كانت شاهدة على التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي مرت بها سوريا، فبعد غيبة ثماني سنوات عاد بلبل إلى محافظة حمص (1964) فلاحظ التغير العمراني واتساعه، كما لاحظ تغير الملامح الاجتماعية للمدينة وضياع السكان الأصليين مع الأعداد الكبيرة من الوافدين إليها من أبناء الريف، وتعدد الأحزاب والتيارات السياسية (بعثي- شيوعي- ماركسي- ناصري) مع محاولة أفرادها استقطاب بلبل.
حتى هذه اللحظة استغرق الشعر بلبل قراءة، بل إنه كتبه بأشكاله المختلفة (عمودياً ورومانسياً وحديثاً)، ثم دخل عالم المسرح المدرسي من خلال شخصيتين بارزتين في حمص في ذلك الوقت، هما نجيب الدرويش (شاعر وزجّال وكاتب مسرحي)، وعز الدين الأتاسي (مشرف على النشاط الطلابي في المدارس الإعدادية والثانوية)، وقد زجّا به في ميدان المسرح المدرسي من خلال فكرة (مسابقات أوائل الطلبة) وتنفيذها على مسرح ثانوية الزهراوي الذي أحدث حراكاً وإقبالاً على مدار ثلاثة أعوام، فتحولت المدارس إلى خلية نحل في القراءة، وكان يعقب هذه الحفلات مشهد مسرحي لذلك نشط المسرح المدرسي نشاطاً واسعاً.
في نهاية 1964 كانت نقطة التحول في حياة بلبل من الشعر إلى المسرح، حيث أصبح المسرح ميدانه، وقد أدرك أنه "إذا أراد الأديب أن يكون ذا أثر في مجتمعه وعصره ... فإنه لن يجد في الشعر مبتغاه"               
  فكان المسرح هو هذا الفن مع الاعتراف بصعوبة الدخول إلى عالمه، لقد وجد بلبل طريقه فقرر أن يُخضع كل ما يعرفه عن التراث العربي من أدب وشعر وفقه وتاريخ لفن المسرح، واندفع إلى قراءة كل ما يخصّ المسرح، وبعد سنة كتب نصوصاً كثيرة ثم مزّقها، لأنه أدرك نتيجة خطيرة وهي "أن النصّ الذي يبدو أهم عناصره ليس إلا أهونها شأناً، فهو تمثيل وإخراج، وفي تضاعيفهما موسيقى وفنّ تشكيلي، وإذا بهذا الغول الأمرد فنّ يحتوي فنوناً....وعليّ أن أعرف وجوهه المتقلبة كلها وإلا ظلّ يسخر مني" 
من هنا كان إصرار التحدي "إني لك بالمرصاد وسوف أركب ظهرك وأمتلك ناصيتك. فلتفعل بي ما تشاء فإني لست هاجراً لك"
 
 
*جزء من بحث في ندوة "فرحان بلبل وسيرته الحياتية والمسرحية"
 
 
 
 
د. رشا والاستاذ فرحان بلبل
من الندوة
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون