السرد العنكبوتيّ والمستقبل المؤنث.
2021 ,06 كانون الأول

*د.رشا ناصر: صوت العرب- سوريا.

 

        من الممكن أن نطلق على السرد النسويّ تسمية مجازيّة تناسب وظيفته المستهدفة من معظم الكاتبات، هي (السرد العنكبوتيّ) الذي يتعمّد نسج   خيوطه الناعمة  الخادعة حول الذكر ليمتصّ منه كلّ احتياجاته الحياتيّة، ثمّ ينتهي الأمر بالخلاص منه، أو بمعنى أصحّ، الخلاص من سلطته التي حاصرت الأنثى                زمناً  طويلاً، وآن الأوان لأن تمتلك هي هذه السلطة.لقد أصبح الخلاص من الذكر ظاهرة لافتة في السرد النسويّ، وهو فعل مشابه لفعل أنثى العنكبوت التي تقتل ذكرها بعد أن تنتهي مهمّته في تلقيحها، لكن أنثى السرد تقوم بالخلاص من ذكرها تدريجيّاً، فتسعى أولاً لتهميش دوره الفعّال، ثمّ تستحوذ على بعض سلطاته، ثمّ تقوم بتشويهه داخليّاً وخارجيّاً، وربّما عمدت إلى إلحاق العجز به (جسديّاً و عقليّاً)، فإن لم ينفع ما سبق في الخلاص منه سعت إلى تمويته، لتنفرد هي بأفعالها وسلطاتها، وتعوّض ما فاتها خلال رحلة التهميش الطويلة التي عانت منها.

لقد قام السرد النسوي إذاً بمجموعة من الإجراءات الممهدة لسلطة الأنثى، ومن ثم اتجه إلى بعض الركائز الذكورية لنقضها أو تعديلها، وأولها الفحولة الجنسية التي ينظر إليها الذكر بوصفها من مخصصاته، وبوصفها ميزة لا تشاركه فيها الأنثى، وهنا يعمل السرد على تفريغ الذكر من هذه الفحولة، وإدخاله دائرة العجز حيناً، أو دائرة الضعف حيناً آخر، فيستدعي السّرد في نص الميراث مثلاً (لسحر خليفة) علاقة الذكورة بالأنوثة خارج نسقها الشّرعيّ، وفي سياق السّخرية من الموروث الفحوليّ، الذي يرى في ذاته القيمة المطلقة، وهي إشارة إلى الثقافة العربية التي تربط دائماً بين الذكورة والفحولة، فها هو (عبد الهادي بيك) يستمرّ في سرد مغامراته في أميركا، التي أقام فيها لأكثر من خمس سنوات، وصاحب عدداً من الأميركيّات والعربيّات، وقد لفت انتباهه هناك أنّ العربيّات بلا رجال، وقد اكتشف سرّ ذلك، تقول الرّاوية:

".... وحين استفسر ودرس الأمر من وجهة نظر علميّة، وجد أنّ السّر في الرّجل العربيّ لا في المرأة. واستدار إليّ بدون توقع، فهززت رأسي بأسف شديد لأنّي لا أعرف ما هو السّر. فتبرّع البيك بالتفسير وقال: إنّ السّر هو لأنّ رجلنا شديد الفحولة. وهذا ما لا تقدر عليه واحدة عربيّة، فسألته من غير ابتسام ودون أن ترمش عيني: (وتقدر عليه واحدة أميركيّة)؟ فضحك واهتزّت أوداجه ولمع جسره" ([1]).

وقد حاول البيك قبل ذلك أن يرمي شباكه على فيوليت، فحاول استدراجها واصطيادها من خلال سرده لقصته مع الكاتبة الإنكليزيّة (جلوريا)؛ ظنّاً منه أنّها ستكشف لغز القصة، وستنتهي إلى ما انتهت إليه (جلوريا) أي إلى الفراش:

"لكن قبل وصوله إلى الفراش قصّ عليها بكثير من الإسهاب والتلذذ كيف ترك جلوريا بعنجهيّة وكبرياء، ورفض رفضاً قاطعاً الاعتذار لها، وأثبت لها في ما لا يقبل الشكّ أنّه رجل عربيّ لا ينخّ لامرأة مهما كانت، كما أنّ الخيول العربيّة الأصيلة لا تنخّ لخيول الغرب المهجّنة المدجنة، عديمة الأصل والمحتد، وبهذا وجّه لكرامة جلوريا الإنكليزيّة ثالث صفعة. لكن يبدو أنّ النّساء يرغبن في الرجل القادر؛ لأنّه حين عاد إلى غرفته في الفندق قبيل الصّبح وجد شابين من شلّتها بانتظاره، وقالا له: إنّ جلوريا أقسمت ألا تنام تلك الليلة ما لم يجيئوها بذاك العربيّ المتكبّر لتقتصّ منه. ذهب هو واقتصّ منها، واقتصّت منه، ولكن أيّ اقتصاص، اقتصاص لذيذ مثل السكر" ([2]).

وربّما أراد السّرد – مرة أخرى – أن يقتصّ من عجرفة الرّجل الفارغة، إذ جعل فيوليت تكشف زيف (عبد الهادي بيك) وتناقضاته، ومن ثمّ طردته من بيتها بهدوء، وحينها رأته قصيراً وهي طويلة. لقد كانت فيوليت أذكى مما توقع عبد الهادي بيك، وقد هزمته بهذا الذكاء، وباتت تتذكّر هذا الموقف بشيء من الغيظ واللذة:

"الغيظ لأنّه تجرأ وتمادى، والغيظ لأنّه عاملها – في البداية – كطفلة صغيرة أو تلميذة، وأنّها ستتبرّك من أبّهته، وأنّها ستتشرف بمعرفته، وأنّه الشايب وهي فيوليت. ولذة عميقة مأساوية؛ لأنّه اكتشف أنّها أذكى مما توقع، بل أذكى منه. وتذكّرت كيف تذرع بشرب كأسين حتى يخفي سرّ سقوطه أو غبائه. ليس غبيّاً، قطعاً أبداً ليس غبيّاً، لكن أغبى مما يعرف، وقد عرف الآن، ولهذا هرب" ([3]).

 

وهنا نلاحظ حرص السّرد النسويّ على تشكيل واقع أنثويّ مغاير، تكون الغلبة فيه للمرأة، سواء أكان ذلك بتمرّدها أم بفاعليّتها الإنتاجيّة المؤثّرة في كشف تناقضات الرّجل الشّرقي. ومن ثم كان هناك حركة خفية للسرد تحاول أن تنحاز لمنطقة الأنوثة بوصفها ردّ فعل مباشر على انحياز الواقع لمنطقة الذكورة، الذي يعطي الذكر قدرات مجاوزة لما هو كائن، بل إنّ السّرد جعل الأنثى تنتصر على الذكر بذكائها، إذ لم تعد غبيّة ومخدوعة بأقواله التي قد تكون – في كثير من الأحيان – مضللة، ولم تعد مبهورة بالشّكل أو بالظّاهر، وإنّما استطاعت أن تقوّض وهم الرّجولة المطلقة من الدّاخل.

واللافت للنظر في هذا النص أنّ تعدد علاقات الرّجل يقابلها محدوديّة أو انعدام بالنّسبة للأنثى، باستثناء (فيوليت) بوصفها لا تنتمي إلى هذه البيئة انتماء كليّاً، ذلك أنّها تتطلع للذهاب إلى أميركا، إذ تحسّ بثقل المجتمع الذكوريّ وتدني مكانة المرأة في هذا المجتمع الذي يعطي للرجل حريّة التعدد والطّلاق بوصفه يمتلك ميزات جنسيّة تتيح له مثل هذا التعدد. ومن توابع هذه الفحولة المدعاة عند الذكر، أن يرغب في أن يكون الإنجاب امتداداً لذكورته، فهذا الإنجاب هو المظهر العملي لفحولته، ومن ثمّ آثر أن يكون إنجابه من الذكور إعلاءً لذكورته، وترسيخاً لطقس المفاضلة.

ثمّ يتمادى السرد النسوي في هذا السياق فينقل ظاهرة الفحولة من الذكر إلى الأنثى في بعض النصوص، كما في (نص هكذا يعبثون) للكاتبة (أمينة زيدان)، التي أرادت أن تنسب قدرات جنسيّة مجاوزة لكثير من إناثها (كريمة، أم كريمة، سيدة، صفية ...)، وأصبحت الأنثى لا يكفيها رجل واحد، وربّما كان ذلك رأي مضادّ للثقافة عما شاع عن فحولة الرّجل الشّرقيّ الذي لا تشبعه أنثى واحدة، وقد ورد ذلك على لسان (عبيد) واصفاً حال صفية ذات العلاقات المتعددة: "صحيح مرة ما يكفيهاش راجل واحد " ([4]).

ومن ثمّ يوالي السرد سلب الذكر بعض مكتسباته الاجتماعيّة، مثل حقّه في التعدد، إذ يتجه إلى إعطاء الأنثى هذا الحق من طريقين؛ الطريق الأول أن يتعدد الأزواج للأنثى الواحدة، لكن على التوالي وليس على الجمع، وهو طريق يتوافق مع الشرع، والطريق الآخر غير شرعيّ، إذ تتيح الأنثى لنفسها هذا التعدد بالجمع لا التوالي، أي في علاقات محرّمة.

وتكشف قراءة السرد النسوي عن رغبة الأنثى في مواجهة السلطة الذكوريّة مواجهة مراوغة وغير مباشرة أحياناً، كتوجيه النقد لمن مات فعلاً، أو التقديم للذم بالمدح، أو صنع تماثيل مشوّهة للذكر وهو ما كان في رواية عرس الوالد، وقد لاحظنا من خلال متابعتنا لمجموع الإناث في النصوص لاسيما المتمرّدات، أنّ الأنثى قد تأخذ بتمرّدها بعض الصفات الذكوريّة، وذلك نابع – أحياناً - من رفضها لأنوثتها المقيّدة لحريتها، فيدفعها ذلك لأن تتخلّص من مظاهر أنوثتها كما فعلت (زين في الرواية المستحيلة)، أو إلى رفض المساعدات التزينية التي تضفي عليها بعض الجاذبيّة والجمال كما في شخصية (نورة في طرشقانة)، إذ تترك جسدها على طبيعته التكوينيّة، حتى إنّه يقترب من الجسد الذكوريّ في خشونته وانتشار الزغب فيه، وعقليّاً نجدها مشغولة بإبداعها، الذي تسعى فيه لتقديم الأنثى كما تفهمها الأنثى، لاكما يتصوّرها الرجل، ونفسيّاً تنفر من العلاقة الزوجيّة لأنّها تجعلها محلاً للمتعة ووعاء للإنجاب، وقد يبلغ تمرّد الأنثى - في بعض النصوص - مبلغاً خطيراً، إذ تتمرّد على وظائفها البيولوجيّة، فترفض الحمل وتتمرّد على دور الأمومة (مزون، نورة).

وقد لاحظنا أنّ واقع الحرب وتوابعها التدميريّة كما في (نص هكذا يعبثون) قد كان له أثر في اندفاع الشخصيّات عموماً، والأنثى خصوصاً، إلى الفعل المتمرّد المتهور، فتتجاوز كلّ المحرّمات رداً على الماضي والحاضر، وبذلك يغلب على فعلها التمرّدي الهبوط والتدني.

وفي المقابل قدّم لنا السرد نماذج نسائيّة متمرّدة تمرّداً واعياً، أو بمعنى آخر قدم لنا أنثى متمرّدة تتسلح بالمعرفة، وتمتلك ذاتاً تلهث خلف كينونة مجهولة تدفعها للمغامرة بحثاً عن المعرفة، حتى تستطيع تحقيق كينونتها الفعليّة والفعّالة في هذا الكون الدائر (مزون، زين، فيحاء)، وهي تدعم القراءة بالتجربة العمليّة، وتستبعد الجسد من أن يكون حلقة الوصل الوحيدة بين الذكر والأنثى، أو لنقل: إنّها ترفض حصر الأنوثة في الجسد لأنّ هذا امتهان لها، وربّما يحوّلها إلى سلعة خاضعة لقانون السوق، وهي ترى أنّ هناك حلقة أخرى يجب أن تربطها بالذكر هي الحوار والعقل، أي أنّها تبحث على علاقة متكاملة معه من خلال ركيزتين هما: الجسد والعقل، بحيث إذا خفت صوت الجسد في لحظات بعينها علا صوت العقل ليغذي التواصل الفكريّ بينهما، فتتدفق أفكارهما الإبداعيّة، وتُردم جميع الخلافات.

لكنّ هذا النموذج من العلاقة المتكاملة غير متحقق على مستوى الواقع، لذلك تجد الأنثى نفسها في حيرة وتردد في اختيارها لرجل العقل أو رجل العاطفة والجسد، وأحياناً تنتهي الحيرة بها إلى الإعراض عن الزواج، ذلك أنّ الرجل الشرقيّ لا يرغب في تغيير مفاهيمه القديمة عن الأنثى، ولا يرضى أن يتنازل عن ميزاته السلطويّة التي منحه إياها المجتمع، أمّا هي فترفض أن تكون محلّ التابع أو أن تكون ضمن النسق التقليديّ الذي حصرها فيه المجتمع، وقد ساعدتها ثقافتها وتجاربها العمليّة في تعزيز رفضها لهذا النسق الذي يردّها إلى الهامش، وهي تتطلع إلى مقاسمة الرجل في المتن، وإلى تحقيق ذاتها الفعّالة في الحياة. لذلك يتمادى السرد النسوي –أحياناً- في اختراق الأنثى المتمرّدة لأسوار الذكر، بأن يعطيها القدرة والحقّ في اقتحام مجالات عمليّة وعرفيّة كانت من اختصاص الذكر وحده، إذ أصبحت تصول وتجول في ميدان السياسة والاقتصاد والاجتماع، أي أنّ السرد دفع الأنثى إلى مجالات كانت محجوزة للذكر، مثل المجال السياسيّ، وليس معنى ذلك أن تعمل المرأة بالسياسة، لكن على الأقلّ أن يكون لها رأيها في السياسة والمجتمع ومجمل قضاياه، ففي نص (دفاتر الطوفان) يتعرض السرد لتهريب الآثار عن طريق الإنجليز، ومقاطعة المؤتمر الاقتصاديّ الذي يسعى للتجارة مع اليهود، ورصد السلطة الإنكليزيّة واليهوديّة في عمّان، والحديث عن مكانة عمّان تاريخيّاً، وحديث الرحالة عنها، ويتعرض كذلك إلى ما آلت إليه الأمور في عمان من عدم احترام قداسة بعض الأماكن وتاريخيّتها، واختلاط العروق والأنساب وتداخل المستويات، والتحول البيئيّ وظواهره التي تكاد تطمس معالم المكان ومعالم ساكنيه، وتغيّر نمط الحياة الاقتصاديّة، إذ بدأ العمران والصناعات تحلّ محلّ مزارع الزيتون، وبعد أن كانت البيوت العمانيّة طينيّة تحوّلت إلى مبان مصبوبة بالأسمنت والحديد، وكان مكرم (أحد شخصيات الرواية) يراقب هذه التغييرات، لاسيّما الفئات الاجتماعيّة الجديدة الوافدة على البيئة من شوام وعراقيين وشراكس ومهاجرين.

وفي بعض النصوص تمارس الأنثى عادات الذكر العرفيّة مثل التدخين، والمشاركة في الاجتماعات والمظاهرات. وفي متابعة لسعي الأنثى المتمرّدة لامتلاك سلطات الذكر، جاء اهتمامها بإنجاب الذكور، إذ كان هذا من متطلبات الذكر دائماً، بوصف هذا الاهتمام امتداداً لذكورته، أمّا الأنثى فقد جاء اهتمامها بإنجاب الذكر بوجهة نظر مغايرة، لأنّ هذا الإنجاب قد يكون حماية لها في مجتمعات معيّنة، وقد يكون رغبة منها في عدم إنجاب الأنثى في هذا الوسط الثقافيّ الظالم لها، وعلى معنى آخر، إنّها تؤجل إنجاب الأنثى للوقت الذي تتغيّر فيه الأعراف والتقاليد، ويتمّ إلغاء قانون التفاضل، وقد يحصل العكس – في بعض النصوص- بأن تتمرّد الأنثى على وظائفها البيولوجيّة الإنجابيّة، لاسيّما إذا كان الجنين ذكراً، فتسارع إلى لفظه خارج رحمها، فتجهض بذلك رغبة الذكر في تحقيق سلالته من الذكور.

ويسعى السرد النسوي إلى تشويه صورة الذكر داخلياً وخارجياً من خلال بعض الإجراءات كشف، منها كشف طبيعة الذكر الشرقي، فهو إمّا خالص التقليديّة، وإمّا يتسم بالازدواجيّة والتردد، وأمام هذه الحقيقة يهتم السرد بالظواهر الثقافيّة والاجتماعيّة التي تعمّدت إعلاء الذكر إعلاءً ظالماً، سواء أكان هذا الإعلاء إعلاءً نفسيّاً أم جسديّاً أم ثقافيّاً، ثمّ تابع هذه السلطة الذكوريّة الإعلائيّة وتعددها، من حيث تمثلت في سلطة الأب والأخ والزوج، ذلك أنّ كلّ واحد من أصحاب هذه السلطة كان يحمل معه مخزونه الثقافيّ الإعلائيّ، ويتحرك به في المكان والزمان دون أن يغيّر فيه شيئاً، بل إنّه يتمتع بكلّ سلطاته، ويسعى لتوسيع نفوذه لكي يسيطر على الأنثى سيطرة مطلقة، ومن ثمّ كان توجه السرد النسويّ توجهاً مضاداً، إذ اتجه إلى رفض الذكورة وإعلاء الأنوثة، وكأنّه إعلان مضمر على المستقبل المؤنّث، لذلك قاد السرد النسويّ معظم ذكوره إلى الغياب التقديريّ أو الغياب الفعليّ بالموت، ومن ثمّ تنفرد الأنثى بالساحة الثقافيّة، وتقيم فيها سلطة جديدة، هي السلطة المؤنّثة.

وقد لاحظنا – في النصوص المدروسة- أنّ الأنثى سعت إلى ذلك ببعض الإجراءات التنفيذيّة، بدأتها برفض الذكورة وتشويهها على المستويين الجسديّ والنفسيّ، ثمّ أتبعت ذلك بإجراءات أخرى تعلي فيها الأنوثة على المستوى الثقافيّ والإنسانيّ والعمليّ، وبذلك وجدنا أنفسنا أمام أنثى ناجحة، ورجل شرقيّ متناقض يسكنه الفشل.

أمّا رفض الذكورة فتعددت إجراءاته ابتداءً برصد العلاقة المهترئة بين الذكر و الأنثى في العلاقة الزوجيّة، فهي تعتمد أنانيّة الذكر في تحقيق متعته دون النظر إلى الطرف الآخر (الزوجة)، حتى إنّ السرد – في كثير من الأحيان- كان يصوّر هذه العلاقة بأنّها أشبه بالعلاقة الحيوانيّة، ومن ثمّ أصبحت سمة الشهوانيّة والأنانيّة سمة للذكورة على إطلاقها.

وتعمّد السرد – أيضاً- إلحاق الذكر بالحيوان في صفاته، ومن ثمّ شوّه الذكورة في صورها المختلفة، أباً وأخاً وزوجاً وعماً...إلخ، ورصد تناقضات الذكر وادعاءاته الزائفة، ويبدو أنّ السرد – في غالب النصوص- حاول أن يلحق صفة النفعيّة والسعي إلى المصالح الفرديّة بالذكر، وهو عكس ما تقوم به الأنثى في ذات النصوص، إذ لا تسعى إلى خلاصها الفرديّ، بل إلى خلاص غيرها من النساء المظلومات.

ولأمرٍ ما أراد السرد إسكان الذكر دائرة الفشل وتعطيل فاعليّته، إذ يفشل في مشاريعه الاقتصاديّة والسياسيّة، وربّما كان ذلك دعوة خفيّة لتسليم زمام قيادة الأمور للأنثى علّها تحقق نجاحاً، وقد قدم السرد نماذج تظهر نجاح الأنثى في مشاريعها الثقافيّة والاقتصاديّة في مقابل فشل الذكر، فهل يعني ذلك أنّ المستقبل مؤنّث؟ وأنّ السيادة الإنتاجيّة ستكون للأنثى؟

ونقدم فيما يلي بعض محاولات السرد النسوي لنقل الأنثى من الهامش إلى المتن من خلال ما أشرنا إليه من إجراءات سابقة لهذا الهدف، فبالعودة إلى نص (دفاتر الطوفان) يأتي نجاح نجمة وتميزها رد فعل على القهر العائلي الذي عاشته قبل الزواج وبعده، إذ تمّ تزويجها من زوجها الأوّل أسعد دون أخذ رأيها وهي ما تزال طفلة. ففي أحد الأيام:

"اقتاد أبو حمزة ابنته الوحيدة نجمة من كتّاب خيرية فاخر، الواقع مقابل البريد. قدم ظهراً إلى الكتّاب، ووقف خجلاً بالباب هامساً باسم ابنته، فخرجت البنت بجدائلها المتراقصة فوق صدر ممسوح، هتفت: بابا !!

قال: غطي رأسك والحقيني

ولحقت نجمة بوالدها، ولم تعد إلى الكتّاب، قال لها:

كتبنا كتابك على أسعد التاجر في معان. صاحت البنت، ولكنّ صفعة أسكتتها" ([5]).

وتنتقل نجمة بعد ذلك من قهر ذكوري متمثل في (سلطة الأب) إلى قهر ذكوري آخر متمثل في زوجها (أسعد)، إذ فرض عليها أن ترتدي ثوباً أسود خالياً من النّقوش، وكأنّها دخلت بزواجها عالم الظّلمة لا النّور، وكان لا يتوانى عن ضربها بحزامه الجلدي عندما تخالف له أمراً.

لقد تمثل قهر الأنثى في تزويجها ممن لا ترغب، وفي ضربها وعدم احترام رغبتها في الانفصال، ومن هنا تعيش نجمة مهددة في زواجها، ولا يخفّ هذا التهديد إلا مع الإنجاب، والإنجاب نفسه يمثل طقساً ذكورياً ظالماً؛ لأنّ إنجاب الإناث لن يوثق الزّواج، ولن يحميه من الانهيار. صحيح أنّ إنجاب نجمة لغالب قد ثبّتها بالوتد إلى بيت زوجها، لكنّ ذلك لم ينسها قسمها الذي أقسمته عندما ضربها زوجها لأوّل مرة، إذ أقسمت أن لا تقيم له حداداً، وقد نفذت قسمها عندما توفي زوجها أسعد فارتدت سترة صوفية زرقاء وتزيّنت بالأساور الذهبية؛ مما أثار ثرثرة النّساء من حولها:

"النّساء اللواتي ضمّهن بيت العزاء تهامسن كلما تحركت من مقعدها: قال كحلية!! شو النّاس عندها عمى ألوان !! الجرزاية زرقا مثل حبّة الفيروز. تعجبّن من أساورها الذهبية تلوح في مرفقها تحت كمّ الرّداء الطويل " ([6]).

إنّ وفاة الزّوج، وكذلك ظهور نجمة بمنظر لا يليق بمناسبة الحداد، كان فرصة لوالدها لكي يمارس سلطته عليها مرة أخرى، فأمرها بالعودة إلى بيته؛ إذ أغضبه ما وصل إلى سمعه عن الحداد باللون الأزرق البهي، لكنّ نجمة وقفت في وجه والدها، وانتقل فعل الأمر منه إليها:

"قالت له باقتدار: وطّي صوتك، الأولاد نايمين، أخافت والدها، فكرر كلماته هامساً، متأكّدا من الرّدّ. لقد ركبت نجمة رأسها وحلفت ألا تغادر بيتها. خرج الأبّ متكدّرا يغالب فرحة خبيئة غامضة، هذه البنت لا فائدة ترتجى منها، لن يستطيع كبح جماحها في بيته، فليكن، لتنفرد بمنزلها وتتحمّل مسؤولية أولادها ومحلات زوجها التجارية، ومنازله العديدة التي كشف عنها حصر الإرث، من يريد أن يتحمّل ثقلاً عويصاً مثل ثقل نجمة؟؟"([7]).

ولكن هل استطاعت نجمة أن تتحمّل المسئولية الملقاة عليها؟ وهل تمكّنت من إثبات وجودها في ظلّ هذا المجتمع الظّالم؟ وما وسائلها لتحقيق وضع اجتماعي جديد لها تحقق به شخصيّتها ووجودها بوصفها كائناً بشرياً؟

لقد عادت نجمة أولاً للكُتاب لكي تكمل ما انقطعت عنه بسبب زواجها المبكّر، وتعلّمت القراءة والكتابة، ووقّعت عقود الإيجار مع الشركسي (تامبي) والدكتورة الإنجليزية (برنل) والممرضة (أسمهان)، وأجّرت دكاكينها التي كانت الأجمل والأوسع في السوق؛ مما أثار غيرة التجار الذكور من حولها:

"حتى إنّ الحج تقي الدين شعر بالغيرة، وراح يقلّدها، وجد الطريش باباً واسعاً للرزق في ظلّ احتدام المنافسة بين التجار الذين راجعوا تصوّراتهم عن أناقة المكان بدخول امرأة حساسة مثل نجمة معترك السّوق" ([8]).

ولم تكتف نجمة بذلك، بل اصطنعت لنفسها خاتماً بيضاوياً أنيقاً، وليس مدوّرا كالذي يستخدمه الرّجال، وابتاعت له حبراً أخضر، لتمتاز وتختلف. ومن ثمّ بات التميّز سمة مسلكية في حياة نجمة، حتى إنّها تميّزت في لبسها وأحذيتها الأنيقة التي كانت محور حديث الرّجال والنّساء، وأخذ الجميع يتساءل عن سبب قوّة نجمة وتميّزها، وهنا يطرح السّرد جملة من الأسباب، منها:

1- جرأتها في ارتداء الأحذية بلا جوارب كي تظهر بياض قدميها.

2- وهن والدها.

3- اقتدارها المادي.

4- تعلّمها القراءة والكتابة.

5- "كذلك سيقولون إنّ المرأة البدوية التي تزورها بانتظام وراء هذا الجموح؛ ألم تترك بيت زوجها الأوّل، عائبةً عليه عجزه عن إرضاء شبقها" ([9]).

لا شكّ أنّ إنتاج السّرد لأنثاه على هذا النحو الجديد كان رداً على الواقع الظّالم الذي يدخل ثنائية الذكر والأنثى في أنساق المفاضلة والتمايز، معلياً الذكورة على الأنوثة، وكان رداً مباغتاً لمجموع الشخوص المحيطة بنجمة. مع الإشارة إلى أن تمرد نجمة لم يكن عملية انفعاليّة وقتيّة، بل كان مؤسساً على وعي بكينونتها، وهذا أدّى إلى نجاحها في العمل الذي أدارته بعد موت زوجها، وهو ما جعل كثيراً من التجار يغارون منها ويحاولون التقرّب إليها.

ويتحوّل التمرد الأنثوي في هذا النص إلى رفض للذكورة، وقد أخذ هذا الرّفض صوراً متعددة، نذكر منها تمويت الذكر والاحتفاء بالأنثى، فالحرير يقول بلسانه: "أنا قماش أنثى، ألا تموت اليراعات الذكر، وتصير طعاماً للطيور، وحدي أنا الأنثى أصير الحرير"([10]).

ومن ثمّ كانت نجمة تتمنى أن يموت (زوجها)، فكان موته منطقة الأمان الوحيدة للخلاص من هذا الواقع الذكوري الظالم، الذي أوقعها في أسر زوج لا تميل إليه ولا تتوافق معه،  ونلفت النّظر - هنا - إلى أنّه عندما جاء الطوفان وحصد كلّ ما في طريقه، وقاد معظم الشّخصيات إلى الموت، فإنّ الغلبة في عالم الأحياء كانت للإناث على الذكور، بينما الغلبة في عالم الموتى كانت للذكور على الإناث، وكأنّها محاولة إضافية لتعديل السلّم الاجتماعي لصالح الأنثى على المستوى الكمّي الذي ربّما يقود إلى تفوّق كيفي، أو إلى التوازن مع الجنس الآخر على أقلّ تقدير. قبل ذلك لاحظنا سعي السرد إلى تقليص سلطة الذكر وجعله في خدمة الأنثى، فنجمة تتزوّج من التاجر (تقي الدين) وتستفيد من خبرته في السّوق بوصفه كبير التجار لإدارة دكاكينها وعماراتها، وهي تسعى للحدّ من سلطته على الدّوام، وتفضّل مصلحتها ومصلحة أولادها على كلّ شيء.

"عند حدود الولدين، يمكن لنجمة أن تتصرف بقسوة، فتقصيه من يوميّاتها وهي تداهن وتراوغ. فلا يتسنّى له حتى مجرّد اتهامها أو التشكيك بدوافعها التي تبدو نبيلة ظاهرياً"([11]).

وعندما وصلته برقية من بيروت تخبره فيها (هيام واعتدال) أنّ (غالب) ابن نجمة قد هرب إلى بيروت، بدا خائفاً ومرتجفاً يبحث عن طريقة لنقل الخبر إلى زوجته (نجمة).

لقد نجحت (نجمة) في تهميش دور (تقي الدين) الذي كان يتحيّن الفرصة لكسر شوكتها، وقد جاءت الفرصة بهروب ابنها إلى بيروت، والجميع يتربّص بنجمة وينتظر لحظة ضعفها؛ (والدها – زوجها – لمياء).

"تناقل السّوق نبأ هروب غالب المعاني إلى بيروت، وجنّ جنون نجمة فوالدها عاودته الجرأة لمحاسبتها، وتقي الدين يحمّلها المسؤوليّة لمجرّد كسر شوكتها، ولمياء تبدو سعيدة بصورة غامضة كأنّها كانت تتمنى غياب شقيقها. ينهار العالم الذي بنته فجأة ولكنّها تتماسك" ([12]).

لقد تماسكت نجمة وتعاملت مع الموقف بصلابة أدهشت الجميع؛ إذ جاء سلفها غاضباً بعد أن سمع بغياب ابن أخيه "وعلى الرّغم من كونه جاء غاضباً، إلا أنّ دخولها الواثق دفعه للوقوف وامتصّ همّته في المجادلة" ([13]).

وكذّبت خبر هروب ابنها، وادّعت بذكاء أنّها هي التي أخذته إلى بيروت، وأنّه أرسل لها برقية أخبرها فيها بوصوله وطمأنها، ولم تكتف بذلك وإنّما تعمّدت إحراج سلفها حتى لا يتجرّأ مرة أخرى على التدخّل في شئونها، فسألته:

".. شو ما حدا طرش لك أخبار قبل اليوم؟ يعني الولد نجح، البنت مرضت، أمهن تزوجت هيك أخبار؟؟

يعرف الرّجل أنّ نجمة تبتغي إحراجه، يشرب القهوة التي أعدّتها لمياء متعجلاً" ([14]).

لقد استعادت نجمة قوّتها بمجرّد خروج سلفها، وأخذت تقنع نفسها بعدم الجزع ما دام ولدها بخير، وإذا اقتضى الأمر ستذهب إلى بيروت وتعيده جراً ، ومن ثمّ عادت لحياتها اليومية:

"فهاهي تتنقل في الأسواق كعادتها، وتبتاع المزيد من الأحذية، لم يرَ أحدهم نجمة تذرف الدموع، حتى تقي الدين أدهشته تلك الصّلابة المفتعلة، وصدّقها . وحدها لمياء كانت تسمع بكاء أمّها في الأمسيات الباردة وتقول في سرّها: (تستاهل، قد أفعل مثلما فعل غالب)، ثمّ تخجل من أفكارها الشّريرة... وتندفع في نوبة طاعة عمياء لأمّها وكأنّها تعتذر" ([15]). واللافت في هذا النص أن رفض الذكورة كان - أحياناً – من خلال بعض الأبنية الصّياغيّة، إذ نلحظ ربطاً خفياً بين الرّجل والكب أو الثور أو البغل أو الحذاء. وهو ما سنوضحه:

أ- ربط الرّجل بالكلب: فالدكتورة الإنجليزية (برنل)، تلك التي تقطن تحت أسمهان "يُغفر لها كونها إنجليزية فقط، جولاتها المسائية ورفقة الرّجال، والمبيت في بيت لا ذكر ولا كلب
يحميه" ([16]).

وهو أمر يثير غيرة (أسمهان) التي تضطر أحياناً للخروج ليلاً بحكم عملها في التمريض، وهي تسكن في (العلّية) وحيدة، مما يثير حولها الأقاويل والشّائعات.

ب- ربط الرّجل بالثور: فالرّجال يُثارون لدى رؤيتهم للون الأحمر، كما هو حال الثيران، وقد جاء الرّبط بين الطرفين خفياً، وجاء في سياق تصحيح هذا الفهم لدى الرّجال، وهي خطوة من السّرد لإعلاء الأنوثة على الذكورة في تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة.

"المرأة تطلق جنون الرّجل إذا ما شاهد الأحمر، ومجمل الرّجال التبس عليهم الأمر ظنّوا لفرط ما تتشظى رغباتهم لدى رؤية الأحمر أنّ الثيران أيضاً ملموسة باللون. الثيران لا ترى، توتّرها حركة المصارع دون أن تدرك لون رايته حمراء، اللون يوتّر المصارع نفسه، وعلى الرّجال أن يرتقوا في تصوّراتهم عن ذواتهم ، ليسوا ثيراناً" ([17]) .

فهل كانت (عبارة ليسوا ثيراناً ) مؤكّدة لهذا الرّبط أم أنّها تنفيه؟؟

ج- ربط الرّجل بالبغل: "مسعد عنيدٌ مثل بغلته" ([18]).

إنّ هذه العبارة تحمل ربطاً مزدوجاً بين الرّجل والبغل، وهو ربط يشير إلى رفض الأنثى للذكورة، كما تحمل ربطاً معاكساً بين المرأة والبغلة، وهو ربط خفي له دلالة على نظرة المجتمع الذكوري للمرأة، ومما يؤكّد هذه الدّلالة أنّ (مسعد) وقع في هوى البغلة (راجي) منذ رآها أوّل مرة في السّوق، ومن ثمّ كان حريصاً على راحة بغلته وكأنّها زوجته:

"عندما أجمع مبلغاً من المال سأجعل راجي تبات في الآخور وتأكل أحسن التبن، ولن ألفّ حول رقبتها حبل الليف الذي يصلح للجمال، راجي الحلوة ستدلل" ([19]).

د- ربط الرّجل بالحذاء:

فنجمة "تحبّ تغيير الأحذية كما تحبّ ظبية تغيير الأزواج، معيبة عليها ولعها بالرّجال"([20])، وقد تأكّد هذا الرّبط مرة أخرى، عندما دار الحديث بين نجمة وأسمهان حول الأحذية، لاسيّما حذاء سندريلا:

"أشارت أسمهان أنّ سندريلا رمز هامّ لدور الحذاء في حياة المرأة، وقالت نجمة: هذا إذا كانت سندريلا بتفكر بالرجال، ولكنّي صدّقيني أنا بحبّ الكنادر أكثر، السباط بيتبدّل، والبابوج بترميه، أمّا الرجّال لصقة أبدية، ولا هم للسيف ولا للضيف ولا لغدرات الزّمان، لزقة وحياتك، للهمّ والعكننه" ([21]).

طبعاً تقصد هنا نجمة زوجها المرحوم الذي تزوّجته رغماً عنها، وعاشت حياة ظالمة وكئيبة معه.

لقد كان الحذاء في البداية وسيلة أو رمزاً لرفض الذكورة ، لكنّه تحوّل فيما بعد إلى وسيلة لإدانة الرّجل وتأديبه إذا اقتضى الأمر. في هذا السّياق تتوعّد (نجمة) سلفها بأنّها ستضربه بحذائها إذا ما حاول الاقتراب من بيتها: "والله لما أبوي قالي إنّ سلفي بدو إياني، جنّيت، أنا ماصدّقت أخلص، قلت له إذا قرّب من هالبيت لأفتح نافوخه بكعب كندرتي، هو وإلا غيره" ([22]).

وإذا ما أشعل سلامة الكبابجي -المستأجر في محلات نجمة- النّار ليطرد الذباب عن أسياخ اللحمة يحذّره الآخرون "مداعبين بأنّ الستّ نجمة ستدقّ رأسه بكعب حذائها الرّفيع الحادّ
الثمين" ([23]).

لقد تميّزت نجمة بأناقتها وذوقها الرّفيع في اختيار أحذيتها حتى بات الآخرون يطلقون عليها ملكة الأحذية، وربّما كان اهتمام نجمة بارتداء الأحذية الأنيقة ذات الكعب العالي رمزاً لمكانتها الجديدة في المجتمع، بوصفها امرأة مميّزة في عملها وفي شكلها، فالكعب العالي يرفع من قيمتها في المجتمع؛ ومن ثمّ نجدها تترفّع عن التدخّل في شئون غيرها، فعندما رأت أسمهان في الحمام خطر ببالها أن تسألها عن حقيقة الشّائعات التي تُثار حول علاقتها بالمحامي عبد الرزاق، "ولكنّها أمسكت مقدرةً أنّ لكلّ امرئ شأنه في تلك الحياة، وإذا ما أردنا أن يكفّ النّاس عنّا كففنا عنهم" ([24]).

إنّها دعوة من السّرد للمرأة لأن تسعى لأخذ مكانة جديدة ومميّزة، ولكنّ هذا السّعي لا زال مستمراً، لم يصل إلى المرتبة التي وصلها الرّجل، ولكنّه في طريقه إليها، لذلك يقدّم السّرد حادثة تؤكّد هذا المسعى، فعندما نسيت نجمة (قبقابها) في الحمام، وضعته الفتاة المسؤولة عن التدليك في خزانة الأمانات، ولأمرٍ ما نسي الحاج تقي الدين (قبقابه) في الحمام، وعندما عاد لاسترداده في اليوم التالي، وفتح له الفتى خزانة الأمانات "كان القبقاب العالي الكعب الذي يخصّ أبو عبد الرّحمن التاجر يعطف على قبقاب نسائي منخفض الكعب منمنم، دقّ قلبه"كذا ([25]).

علم تقي الدين أنّ القبقاب النّسائي يخصّ نجمة؛ ومن ثمّ حصلت المفاجأة، "لن يصدّق أحد ما يقول القبقاب، ولكن هذا ما حدث، لقد انقلبت مقادير امرأة ورجل، وارتبطت بصورة خفية بتلك الأفكار التي مارسها قبقابان في خزانة الأمانات، ليلتها هرع كبير التجار إلى قاضي القضاة إبراهيم هاشم قائلاً:

- نويت أتجوّز مرة ثانية " ([26]).

إنّ المكانة الجديدة للمرأة لن تتحقق إلا بجهود متكاملة بين المرأة والرّجل، لكنّ البعض يشكك في هذا الارتباط بين نجمة وتقي الدّين ؛ ومن ثمّ كثُرت الأقاويل:

"قال المنافسون في السّوق:

- معلوم، القرش بجيب القرش، والمصالح مطاعن الرّجال" ([27]).

وهذا الكلام يحمل ضمناً أنّه ليس من مصلحة الرّجل ولا من مصلحة المجتمع أن يعارض جهود المرأة لأخذ دورها في الحياة لتصبح عضواً فاعلاً ومؤثراً ومنتجاً، ذلك أنّ تعاون الطرفين (المرأة والرّجل) يعود بالمنفعة والفائدة عليهما وعلى مجتمعهما.

وهناك من ينظر إلى هذا الارتباط نظرة سطحيّة تجرّد المرأة مما وصلت إليه، إذ "أقرّ بعضهم بأنّ نجمة امرأة تستحق أن تُشتهى" ([28]).

وهي نظرة تحصر المرأة في إطار الشّكل فقط، لكنّ السّرد يطرح تساؤلاً مهمّاً، وهو سرّ إقبال نجمة بثقة على هذا الزواج علماً أنّها ظلّت زمناً طويلاً رافضة للرّجل والزّواج، " لكن الشّيء الذي لم يسأله أحد، ولم يدركه، ولا حتى الستّ نجمة نفسها، ما الذي دفعها بعد عمر من الوحدة وادّعاء الزّهد في الرّجال للتوقيع بخاتمها البيضاوي الأخضر على عقد زواجها الثاني دون
تردد" ([29]).

إنّ قراءة النّص ترجّح أن يكون سبب إقدام نجمة على الزّواج مرة أخرى، هو تغيّر وضعها وتحوّلها إلى قوّة تجارية منافسة لتقي الدين في السّوق لها احترامها ومكانتها اللذان لا يُمكن تجاوزهما، وبما أنّها زُوّجت رغماً عنها، ودون موافقتها من زوجها الأوّل المرحوم أسعد، فإنّها لا تحسب هذا الزّواج على أنّه زواج حقيقي، بعكس الزّواج الثاني الذي تولّد عن قناعةٍ شخصيّة وليس عن ضغط خارجيّ. لقد جاء الزّواج الثاني نتيجة تحوّلات كثيرة في حياة نجمة، فبعد وفاة زوجها تعلّمت القراءة والكتابة، واستخدمت ذكاءها الفطريّ في إدارة مصالحها وممتلكاتها، ومن ثمّ أخذت قرارها بالزّواج من تقي الدين عن قوّة وليس عن ضعف، وعن قناعة وليس عن فرض سلطة، وعن تكملة لوضع اجتماعيّ وليس عن حاجة للحماية والوصاية.

وهنا نشير إلى أن الأنثى قد تكتسب بتمرّدها بعض الخواصّ الذكوريّة، فمعاناة نجمة من السّلطة الذكورية دفعها لا شعورياً إلى تقمّص هذه السّلطة وممارستها على أولادها؛ فعندما تواجهها لمياء بحبّها للأحذية؛ إذ قالت لها بجرأة: "انتي بتحبّي الكنادر أكثر من أولادك" ([30]). تعاملت نجمة مع هذه المواجهة بقسوة إذ: "حظيت البنت الوقحة بصفعة قويّة، ورغم أنّ نجمة لم تكن قاسية مع أبنائها، لكنّها وباقتدار غريب قادرة على رسم حدود فاصلة بين ما يحقّ لهم قوله، وما يمتنع
بتاتاً" ([31]).

وبنفس القسوة جرّت لمياء من شعرها، عندما هرب أخوها (غالب) إلى بيروت كي تعترف بالحقيقة.

ويتحرّك السّرد النسوي في منطقة جديدة يتيح فيها للأنثى الاستغناء عن الذكر حتى في العلاقة التي تصل بها إلى المتعة الجسديّة، وخلال مسرود رامز يرصد السّرد في نص (الرواية المستحيلة) موقف فهيمة - الصانعة في بيت الخيال وكانت قبل ذلك تعمل في بيت الراقصة قوت القلوب- وقد تعرّت أمام المرآة، فتنها جسدها فتعاملت معه بمهارة، وأبحرت في مدار اللذة بمفردها دون حاجة للذكر، يقول السّرد:

 ".... شهقت وهي تدور بحسن يضيء الغرفة، وقررت أنّها أجمل من قوت القلوب ومن الممثلة الجديدة مريم فخر الدين، والتصقت بصورتها في المرآة تقبّلها وقد اشتعلت أناملها بسحر جسدها وأسراره واكتشفت طاقتها على الإبحار وحيدةً في نهر الألعاب النارية والتنهدات والانفجارات المشعة أنيناً..."([32]) .

وفي مقابل هذه العلاقة التي نجحت فيها الأنثى في الاستغناء عن الذكر، يقدّم السّرد مفارقته في فشل العلاقة الجسديّة لبوران مع زوجها، حتى إنّها لم تعرف الاكتمال الجسديّ معه، وتحوّلت علاقتها به إلى وظيفة اجتماعيّة لاسترضائه تارةً، وللإنجاب تارةً أخرى، وربّما كانت الولادات المتتابعة سبباً في هذه العلاقة الشّائكة، إذ ترهّل جسدها وفقدت جاذبيتها حتى إنّ زوجها أعرض عن الاحتفاء بجسدها، وصار يقوم باللازم بسرعة، بعدها ينسحب إلى نومه وشخيره.

ولم تتخلّص بوران من تهديد زوجها لها بالزواج من أخرى ولم تحصل على حريّتها إلا باستشهاده، فكان الموت وسيلة الخلاص، ومن ثمّ كان قرارها النهائيّ الاستغناء عن الرجل وعدم الزواج مرة أخرى، وقد كان موت الزوج هنا خلاصاً من سلطته الذكوريّة:

"بعد استشهاد زوجها صار بوسعها أن تنام في السرير العريض دون أن يشخر هو إلى جانبها ويتجشأ ويأمرها بتحضير قهوته قبل الفجر. صارت تنهض من نومها حين تشاء وتنام حين يحلو لها، وتلتهم ما يحلو لها من الطعام دون أن يرمقها بعين اللوم والتهديد.. ما أكره أن تكون زوجةً تخدم رجلاً يذلها ولها ضرّة، وما أروع أن تصير أرملة بطل!.."([33]) .

و هنا يلاحق السّرد في موضع آخر علاقة الأنثى بزوجها وكيف أنّ وظيفة الإمتاع ارتبطت بالعدوان على الأنثى كما حدث مع عروس حمص التي رأتها زين في صباحيّتها إذ:

"لاحظت آثار كدمات زرق تغطي الذراعين وآثار جرح كآثار عضّة كلب أعلى منبت الثدي اختفت بقيته تحت الثوب... تحت أصبغة وجه العروس، وكحلها وحمرتها، لاحظت زين أنّها صغيرة..وتشجعت واقتربت منها مقعدين فسمعت خلسةً حوارها مع صديقة لها:

سألتها الصديقة: لماذا ضربك هكذا؟

أجابت العروس هامسةً: إنّه لا يستمتع إلا هكذا.الرجال يحبون ذلك....

وأنتِ؟

عيب.... البنت المحترمة لاتفعل شيئاً غير التمنّع فالاستسلام"([34]).

إنّ عدوانيّة الذكر تسبب عنها رفض الأنثى لسلطته الذكوريّة، ومن ثمّ تحوّل الرفض إلى كراهيّة للذكورة ذاتها، لذلك كان ردّ فعل زين أن كرهت الزواج والرجال، مادام الزواج سوف يفقدها نفسها: "للمرة الأولى في حياتها داخلها شيء من الكراهيّة الحذرة للرجال.. وحين اصطحبتها عمتها بعد ذلك لزيارة قبر خالد بن الوليد، دعت إلى ربّها ألا تحلّ بها مصيبة الزواج كي لا تصيبها الكدمات إذا ظلّ زوجها حياً، وتُدفن معه إذا مات"([35]).

ويمعن النص في رفض الذكورة البيولوجيّة، وتمثّل ذلك في رغبة زين في قصّ زوائد الذكر، بوصفها علامة التميّز الوحيدة الفارقة على مسار السرد، وهنا نستطيع أن نقول: إنّ المواجهة الحقيقيّة مع الذكورة كانت في سعي السرد لإفقاد الذكر آلة ذكورته([36])، وقد جاءت المواجهة بداية على نحو رمزيّ في تعمّد (كسر الساق)، وهنا يستحضر السّرد حادثة كسر ساق (أبو علي) بعد أن دعت عليه زوجته لأنّه يريد أن يحرمها من القط عنتر، إذ طلب منها توديره:

"صاروا يلقبونه بـ (أبو بريص) منذ قراره الفاشل بتودير القط عنتر. كما تتندر نسوة زقاق الياسمين بحكاية زوجته التي أجابته حين طلب منها الاختيار بينه وبين القط عنتر فقالت: عنتر! كما يُروى أنّ أم علي دعت عليه بأن يكسر الله رجله عقاباً له على رغبته في التخلّص من القط وغيرته منه، والغريب أنّ أبو علي سقط بعدها بأيام على درج الجامع وكُسرت قدمه"([37]).

كما يستحضر السرد رغبة زين في الارتباط بمظفّر المقعد العاجز لاعتقادها أنّه لن يقوى على خيانتها، تقول: "... هو يؤكد لي حبه الأزلي ووفاءه وأنا أصدّقه، إذ ليس من السهل عليه خيانتي، فهو لن يجد بسهولة الفتاة التي ترضى به، ومعظمهنّ يسخر من ذوي العاهات، كما تدّعي ناريمان...أحببت ساقه المشلولة والأخرى الضعيفة حتى لتعجز وحدها عن حمله بلا عكاز.."([38]) .

واللافت أنّ السرد –هنا- قدم دفقة تشويهية عالية للذكر، فقد تعمّد كسر ساق مجموعة كبيرة من شخوصه الذكوريّة، فزوج قمر يعرج بسبب جرح أصابه في الحرب، كما أنّ ابن الجيران (أدهم) مقعد ومتخلف عقليّاً، أمضى عمره في مقعد متحرك، وكذلك أبو عيدو العسيري مُقعد بسبب مرضه، ومثله أبو كريم. وربّما كان ذلك انعكاساً لرغبة الأنثى (منتجة السّرد) في تقييد الذكر وإكسابه عجزاً يحد من حريّته، بوصف ذلك رداً على الواقع الذي يقيّد حرية الأنثى.

وقد أخذ تشويه الذكر صوراً متعددة في هذا النص، وقد تمثّل ذلك في مجموعة من النقاط:

1-من خلال بعض التعبيرات الصياغية ورصد ملامح الذكر التي تلحقه بعالم الحيوان: ([39]) مثل رصد السرد لحال (أبو عيدو) لحظة سقوطه في أرض الدار وسط طبقة من الجليد، فهو يتحرك ببطء كسلطعون، ويحاول النهوض كصرصار - في رأي جهينة- زوجة ابنه عيدو، وقد كان رافضاً لهذا الزواج ويغمرها بالشتائم ليل نهار، برغم أنها تعمل على خدمته لأنه مريض ومقعد. رأته وهو يسقط وقد خلا البيت من سكانه:

"مرة شاهدته يجرّ جسده وقد استند على عصاه بيد، وعلى الجدران بيده الأخرى، متحركاً ببطء كسلطعون هرم. اقتربت منه لمساعدته، فرفع عصاه مهدداً وغمرني بالشتائم"([40]).

وفي مشهد آخر رأته ممدداً في فناء الدار وهو يحاول النهوض عبثاً مثل صرصار انقلب على قفاه. ويصف السّرد عيدو الغاضب لأنّ جهينة أفسدت زواجه من لمياء، بالثور الهائج. ولا ننسى هنا (أبو علي) الملقب (بأبي بريص)، وقد لحقه هذا اللقب منذ أن فشل في إبعاد القط (عنتر) عن زوجته.

2-رصد عاهة الرجل: وهنا نلاحظ حرص السرد على تشويه الذكر بإصابته في موضع ذكورته كما هو حال الطفل (هاني)، وقد تابعنا محاولة السرد إلحاق العجز بساق الذكر كما هو حال (مظفر، أبو عيدو، بائع الخضار، أدهم، أبو كريم، معين)، وقد يُفقد السرد الذكر عينه كما هو حال (منيب الأعور) الذي كان يرمي بالققط الإناث من الشرفة، وقد يلحق التشويه الذكر حتى بعد وفاته، مثلما حصل مع زوج بوران الشهيد فقد "أعادوه إليها جثة مفقوءة العينين بعدما مثلوا به وبرفاقه الدرك..شاهدته بذراع مقطوعة، الذراع اليمنى بالضبط أمّا اليسرى فما زال خاتم الزواج في بنصرها"([41]).

ويأتي الخلاص النهائيّ من هذه السّلطة بقتل الذكر، إذ تروي بوران أنّ زوجة عباس كتبت له تعويذة، ومات بعدها باختناق الفتق(*)

3-عقاب الذكر بتغيير وظائفه البيولوجيّة، وإعطاؤه خصائص بيولوجيّة أنثويّة، ونقصد هنا شخصيّة عبد الفتاح الذي يتقدّم النماذج الذكوريّة الرديئة، إذ تراكمت عليه المخلفات الثقافيّة فجعلته معادياً للأنوثة في مستوياتها المتباينة، فكان عقاب السّرد له إلغاء هويته الذكوريّة وإلحاقه بالجنس النسويّ الذي يرفضه، إذ كان سبباً رئيسيّاً في موت هند عندما جعلها تنزف في البيت ساعات طويلة، وتأخّر في نقلها إلى المستشفى عملاً بنصيحة الشيخ طه، خوفاً من أن يكشف عليها أطباء ذكور، وبعد موتها بدأ يشعر برائحة كريهة تصدر منه وكأنّها رائحة جيفة، وقد أصبحت زجاجة العطر ملازمة له يضع منها كلّما فاحت منه تلك الرائحة: "قالت له فلك: ما حكايتك يا أبو لؤي؟ رائحتك مسك وعنبر وزكية دائماً، فلماذا تتعطر هكذا؟ كنت تعيب على المرحومة كثرة العطر، ومنذ وفاتها بدأت تتعطر فماذا حدث؟."([42]).

ويتابع السّرد انتقامه من عبد الفتاح بأن أفقده عقله، إذ بدأ يشعر بأنّه حامل وأنّه على وشك الولادة مثل النساء، وقد أراد أن يقول ذلك لصديقه (أبو عدنان)، لكنّه لم يقدر فانزوى إلى النفق المظلم في أعماقه يتذكر حادثة وفاة هند وبداية العقاب. يقول لنفسه:

"حدث لي ذلك بعد وفاة هند... كنت أريد أن أنسى ما حدث في تلك الليلة المهيبة، ليلة وضع هند، وحيرتي بين صراخها المستغيث ونصيحة الشيخ طه بعدم إحضار طبيب ذكر لها... لقد لاحظت دائماً فتور أمجد نحوي منذ موت زوجته كأنّه يتهمني. لست مجنوناً. كلّ ما في الأمر أنني أتعفّن، وتصدر عن لحمي رائحة لم يعد العطر ينفع في حجبها عن أنفي، وأنني استيقظت ذات يوم ووعيت أنني حامل كالنساء... أهذا قصاص لي؟.."([43]).

بل إنّه كان يشعر بآلام الطلق عندما اصطحبه أمجد إلى الطبيب، وتوقع أن يموت خلال الوضع مثل هند، وهنا نلاحظ طريقة السّرد في استنطاق الذكر فيجعله يعترف بأخطائه تجاه الأنثى.

4- تشويه الذكر داخليّاً: وهنا يهتم السّرد برصد الصّفات السّالبة في الذكورة عموماً، فيقدّم صورة مشوّهة للأبوة في شخصيّة والد جهينة، إذ يحوّل أبوته إلى تجارة فيبيع ابنته بالسعر الذي يشبعه، وقد قام بالشيء نفسه والد فهيمة، وكانت ردة الفعل الأنثويّة على هذه الأبوة المشوّهة أن فهيمة وجهينة أنكرتا أبويهما، وهذا الإنكار - في عمقه - إنكار للسلطة الذكوريّة الأبويّة، تمهيداً لإحلال السّلطة النسويّة.

قدّم السّرد - بعد ذلك - صورة شائهة للزوج في علاقته مع زوجته، إذ يتمتع بما اشتراه، ويتمتع بتعذيبه كما هو حال عروس حمص التي كان جسدها يصطبغ بالكدمات والضّربات من عريسها الذي يستلذّ بذلك. بل إنّه قد يحوّل زوجته إلى (غانية) يدفع لها ثمن الاستمتاع بها، كما كان يفعل أبو أدهم، ذلك أنّ إحدى النساء روت في حمام النسوان الذي تحوّل إلى مكان للإفضاء النسويّ ضدّ السلطة الذكوريّة أنّ:

"أم أدهم ترفض أن يقربها زوجها إلا بعد أن يدفع لها ثمن شعرها، كلّ مرة مثل النساء اللواتي لا ينفعن يا لطيف!

وماذا يفعل؟

يدفع لها كلّ مرة وتزيد لذته بذلك!

... قالت فيحاء: ولمَ لا والزواج عندنا لايختلف كثيراً عن (الكذا) الرسميّ؟.."([44]).

وقد عني السّرد برصد السّلطة الذكوريّة في قمّة عدوانها، عندما يوجه الذكر عدوانيّته إلى زوجته السابقة (ماوية) عندما التقاها مصادفة متزيّنة بأحمر الشفاه، فصفعها وكأنّها ما زالت زوجته، تحت تهديد أخذ ولديها منها، وهنا يرصد السّرد قسوة الذكر تجاه زوجته بالرغم من مكانته العلميّة المرموقة بوصفه أستاذاً جامعيّاً، إذ كان يضربها يوميّاً.

وفي سياق تقديم الذكر تقديماً شائهاً يأتي تعذيب الصبية لبعض الحيوانات، مما أثار اشمئزاز زين، وبالأخصّ عندما طلبوا منها المشاركة في مباراة قتل السلاطعين وقصّ رأس القطة، وهنا راودتها ذكرى رمي عمها للقطط الإناث في النهر.

وهنا نلاحظ في مقابل قسوة الذكر أنّ السرد يحاول إظهار إنسانيّة الأنثى وإعلاء جوهرها الإنسانيّ، ولا ننسى هنا أنّ جهينة التي كان حماها (أبو عيدو) يغمرها بالشتائم ليل نهار، لم تقدر أن تتركه يموت أثناء سقوطه في أرض الدار التي يكسوها الجليد، وبعد أخذ ورد واستحضار لشريط مآسيها، تغلبها مشاعرها الإنسانيّة، فتقرر مساعدته وتحمله إلى سريره وتغطيه، وبذلك أنقذته من الموت المؤكد:

"بوسعها ألا تفعل شيئاً، فقط تتركه حيث هو وتمضي إلى عرس زوجها كأنّها لم تره يموت، وتنتقم منه ومن بناته ومن زوجته ومن زوجها.. وهي تتأهب للخروج من باب البيت يتناهى إلى أذنيها أنين إنسان. صوت يعيدها إلى جسدها الآدميّ وزمانها ومكانها وعذاباتها وقهرها، ودون أن تفكر لا تدري لماذا تعود راكضة إلى ساحة الدار. تنحني على الرجل العجوز. تحمله بين ذراعيها القويتين وتعيده إلى فراشه وهو يحدّق فيها بذهول"([45]).

ويتحقق هدف السّرد عندما تستطيع جهينة بعد هذه الحادثة أن تجعل حماها يعيد النظر في تصرفاته ومواقفه معها، وبدلاً من أن يطردها من البيت كما أراد ابنه عيدو لأنّها أفسدت زواجه من لمياء، عندما انقضت عليها ضرباً، كتب لها حماها البيت الكبير حفاظاً على حقها وحقّ ابنها، وبارك هذا العمل الإنسانيّ كلّ نساء الحي ورجاله، وربّما كان ذلك دعوة من السّرد لإعلاء الجوهر الإنسانيّ على كلّ الفروق النوعيّة والبيولوجيّة.

يهتم السّرد - كذلك- بكشف سلبيّة الرجل تجاه المواقف التي تخصّ المرأة، فيتوقف - في بعض الأحيان- صامتاً في مواقف ظالمة للأنثى تتطلب تدخله ونصرته لزوجته، وهنا تتساءل زين وهي تقرأ مذكرات أمها: "هل قام أبي بإيذائها عمداً وبصورة مباشرة، أم أنّ القتل كان يتمّ، كما هي العادة في أسرتنا، على ما أظنّ، بهدوء وصمت وبالوسائل الهادئة الفعّالة؟ هل شارك والدي في قتلها ولو بسلبيّته ولا مبالاته أو بتحميلها فوق طاقتها"([46]).

وفي هذا السياق تظهر سلبيّة (عيدو) أمام شتائم أبيه لزوجته جهينة في بداية زواجهما، وسلبيّته كذلك تجاه زوجته الثانية (لمياء) حين انقضت عليها جهينة بالضرب والشتائم. كما يظهر هشام (زوج خزامى) الثاني سلبيّته بأن رفض التدخل عندما قامت ابنة عمه (هدى) باختطاف وضّاح (ابن خزامى) لقهرها وإذلالها لأنّها خطفت هشام منها.

وفي المواقف السابقة يتضح زيف السلطة الذكوريّة التي تفرض وصايتها على الأنثى بدافع الحماية، وفجأة تجد الأنثى نفسها وحيدة أمام بعض المواقف التي تتطلب نصرةً من الذكر الذي يكتفي بالصمت وعدم التدخل. وهنا يعاود السّرد حركته لإعلاء الأنثى، عندما تستطيع زين أن تختطف (وضاح) من عمته هدى وإعادته إلى أمه خزامى وسط دهشة الجميع، وبذلك تكون قد فعلت - وهي الطفلة الصغيرة - ما لم يقدر عليه الرجال.

لقد كانت عناية السّرد موجهة إلى كشف تناقضات الرجل الشرقيّ، ذلك أنّ سلوكه مشبع بالتناقض، فهاهو ريمون يخترع المبررات الوهميّة التي تسمح له بخيانة زوجته، وهو يفصح عن تناقضاته تجاه زوجته (نينا) بقوله:

"كيف ألومها وهي التي أعطت ما حلم به أهلي؟ إنني ببساطة أحبّ ريم، وأحاول أن أخترع لنينا ذنوباً وهميّة كي أجد لنفسي المبررات لخيانتها. كنت أعرف أنني لم أتزوج من امرأة متعلمة، فكيف أطالبها بمزايا المتعلمة والجاهلة في آن؟... لماذا لا أعترف ببساطة أنني أريد أن تكون لي عشيقة"([47]).

وخطورة هذا التناقض أنّه مشبعٌ بالأنانيّة، فأمجد الذي يحمل درجة الدكتوراه من باريس، كان يخاف أن تذهب (هند) إلى طبيب ذكر، يقول صراحة:

"كنت أمقت الدكتور (مريدن) حين تصطحب هند إليه زين. أغار منه عليها. كان أيّ اتصال لها بجنس الذكور يوجعني. إنّها ملكيّتي الخاصّة.. لعلّي في قاعي مثل شقيقي عبد الفتاح ومثل صديقي معتز المتزوج من امرأتين محجبتين تعيشان معاً. كنت أتمنى أن أغطيها بحجاب وأزرعها في خيمة تحيط بها صحراء ولا ترى سواي"([48]).

وهكذا فإنّ التناقض يحكم الرجل الشرقيّ حتى أصبح قوله مناقضاً لفعله على الدوام، فهاهو مطلق (ماوية) يلقي محاضرة عن تحرير المرأة وعن وجوب تنميتها من خلال العلم والعمل، وهو الذي كان يضرب زوجته ويريد تزويج ابنته (أمية) وهي لا تزال طفلة وقبل أن تكمل تعليمها. وفي مواجهة هذا الزيف وهذه الازدواجيّة بين القول والفعل، تستنطق فيحاء - ابنة أخ ماوية - بخبث، زوج عمتها، وتستدرجه أمام الجميع للموافقة على عدم تزويج ابنته قبل أن تتمّ تعليمها:

"نهضت فيحاء بقامتها الفارعة متجاهلةً أنّه الزوج السابق لعمتها وسألته بلغة عربيّة فصيحة: نستنتج مما قلت أنّك تحبّذ تنمية إنسانيّة المرأة عبر العلم والعمل، وقد استنتجنا من ذلك أنّك لست من أنصار الزواج المبكر جداً في سن الخامسة عشرة مثلاً، وتفضّل تعليم البنت ريثما يتنامى وعيها. أجاب نصف متلعثم: هذا صحيح، ولكن... قاطعته فيحاء قبل أن يستثني حالة ابنته، والتفتت إلى الحضور وقالت بصوتها الجهوريّ: يشرّفني أن أخبركم أنّ الدكتور المحاضر ليس من فئة الازدواجيين الذين يقولون ما لايضمرون. وكقريبة له أعلمكم بأنّه رفض عريساً شاباً ممتازاً.. جاء يخطب ابنته لمجرد أنّها لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، وهو يريدها أن تتعلم حتى البكالوريا قبل الزواج...وحين ودّعته فيحاء رمقها بنظرة قاتلة وهو يدمدم بلا صوت: حقاً إنّ كيدهنّ لعظيم!.."([49]) .

يتعمّد السّرد في الموقف السابق إعلاء الأنثى المثقفة الذكيّة، إذ استطاعت بذكائها أن تستغل الموقف وتجبر (زوج ماوية) على الموافقة على تأجيل زواج ابنته إلى أن تتمّ تعليمها.

 ويتابع السّرد استنطاق الذكر وكشف تناقضه من خلال ملفوظه لحظة خلوه مع نفسه ومواجهتها بما يشبه الاعتراف، وقد تعمّد السرد أن يستنطق أمجد بطبيعة السلطة الظالمة التي كان يمتلكها، بعد موت هند، فبموتها تعرّى من معظم قناعاته:

"بموتها تعرّيت من معظم قناعاتي... أنا حيوان مسكين جريح بحاجة إلى العزلة لأستجوب جرحي وأعالجه… مذنب أم بريء؟ قتلتها بالإهمال أم كنت مجرّد رجل آخر يذهب إلى عمله وصيد لقمته"([50]).

وبقيت هذه المساءلة النفسيّة ملازمةً لأمجد في كلّ تصرّفاته، بعد موت هند، وتتحوّل - في بعض الأحيان - إلى اعتراف صريح بأخطائه التي ارتكبها سابقاً في حقّ زوجته، والتي يحاول أن يتجنّب تكرارها مع ابنته (زين)، وكان اعترافه الأول بتناقضاته أنّ قوله لا يتفق مع فعله، وقد التفت إلى هذا العيب في شخصيّته عندما كان يلقي محاضرةً في (منتدى سكينة) عن ضرورة التسامح وقبول الآخر والتحاور معه بدلاً من رفضه، وإذا به يقف مع نفسه لحظة ويقول:

"يا لي من متناقض! هل تسامحت مع هند حين أنجبت بنتاً وهل قبلت بها ولياً للعهد؟ لا! هاأنا أذهب محاضراً منادياً بما أفتقده!"([51]) .

لقد سكن التناقض شخصيّة أمجد في علاقته مع ابنته زين، التي حاول أن يوفر لها كلّ ما حُرمت منه أمها، وأن يفسح لها مجالاً أوسع لنمو فرديّتها، لذلك كان يحثها على القراءة ويجلب لها كتباً من آداب وثقافات مختلفة، وكانت هذه القراءات محفزاً أساسيّاً لتمرّد زين فيما بعد، ولكن رغم ذلك كلّه يسكنه التناقض والتردد حيال الطريقة التي ينبغي أن يربي عليها ابنته كأيّ شرقيّ يعاني التناقض بفعل مكوّناته الثقافيّة المختلفة، القديمة والحديثة، فيسقط تحت سلطة الحيرة كلما كبرت زين:

"يكاد يسقط في الحيرة بين وقت وآخر.. هل يفعل بها حين تكبر ما فعله (حاجور) ببناته؟ يسجنها خلف نافذة تتأمل منها الأرانب التي تتناسل وتتوالد والحرمان يأكلها؟ وأيّ شرف هذا الذي يلطخه حتى الزواج؟.. لا.. لقد بالغ حاجور وبلغ حدّ المرض والجنون... ولكن ألا يقطن في أعماقي أنا أيضاً كما في أعماق كلّ رجل شرقيّ مجنون صغير؟ ألا يقلقني أنا أيضاً ذلك اليوم الذي ينهد فيه صدر زين وتحيض وأصير مضطراً لمواجهة الأشياء، أنا الذي يهرب منها الآن بحجة أنّها طفلة.."([52])

إنّ الذكورة التي يقدّمها السّرد في نصّ (الرواية المستحيلة) ذكورة مشوّهة خارجيّاً وداخليّاً، يحكم مسيرتها التناقض والازدواجيّة، فهاهو أمجد يعاني الحيرة والتناقض في علاقته بالمرأة عموماً، فهو بحاجة إلى امرأة ذات خبرة دون أن تختبر شيئاً، يقول في جلسة مصارحة مع نفسه، وفي سياق المقارنة بين المرأة الشرقيّة والغربيّة، إذ يبدي إعجابه بشجاعة المرأة الغربيّة وصراحتها مع نفسها وعواطفها، أمّا الشرقيّة فيلجمها الخوف:

"مع دومنيك أتنزه علناً وأمشي في الشارع وأبيت في شقتها بلاخوف، ولعلّ ذلك شدّني إليها كثيراً. لاتعجبني الصلات هنا بين المرأة والرجل، وتثير استخفافي بريائها وزيفها وأقنعتها وسطحيّتها، بالمقابل هل كنت سأرضى بالزواج من إيفلين في باريس لو كانت عربيّة؟ وهل أرضى بأن تتصرف زين مثلها؟ وأيّ عار كان سيتملّكني لو كانت أمي مثلها؟ إنني شرقيّ متناقض معذّب أريد الشيء وضدّه.. أريد امرأة شرقيّة لديها مزايا المجرّبة ولكنّها بلا تجربة، وأحبّ نضج إيفلين ولا أحبّ ما فعلته كي تصير ناضجة.. أريد المرأة ذات خبرة دون أن تختبر شيئاً.. ها أنا وحيد ومتناقض، وهاهي زين مراهقة في الرابعة عشرة من عمرها تكبر أمام عيني مع قلقي منها وعليها. لا أريد أن أحرمها من شيء كنت سأمنحه لزين العابدين، ولا أريد أن يوسخها شيء. ولكن كيف؟.."([53]).

فيما سبق كان السّرد يكشف تناقضات الذكر الشرقيّ وازدواجيّته من خلال ملفوظه، لكنّ ذلك لم يمنع من أن يتمّ ذلك من خلال ملفوظ السّارد الخارجيّ الذي يكشف ازدواجيّة أمجد في تعامله مع ابنته زين وتدخله في بناء مستقبلها، إذ يحثها على قراءة الأدب ويمنعها في الوقت نفسه من احتراف الكتابة ويوجهها لدراسة الطب، إنّ هذا التناقض كان يؤلم زيناً، فثمّة منطقة من الأوجاع يستحيل اختراقها، ومن ثمّ تعجز عن الحوار مع والدها، وتكاد - في بعض الأحيان- تتسوّل تشجيعه لأنّها أرسلت قصة قصيرة للنشر، لكنّها تحجم عن ذلك كلّه لأنّها لا تريد أن تخسر محبة والدها وهو الذي بقي لها في الوجود، إلا أنّ ذلك لم يمنعها من التصريح برفضها للازدواجيّة ولأولئك الناس الذين يعانون الانفصال بين أقوالهم وأفعالهم:

"تعرف أنّها ستكون عدوتهم إلى الأبد... أولئك الذين يجعلون التطابق بين القول والسلوك مستحيلاً ويكرّسون الانفصام بين نبض القلب والممارسة.... ولكن ما علاقة أبي بذلك كلّه؟ إني مشوّشة الأفكار ومضطربة لأسباب أجهلها"([54]).

في سياق كشف السّرد للصورة الشائهة للذكر الشرقيّ، يتعرض لحقيقة علاقته بالأنثى، وكيف يتحوّل حبّه لها إلى حبّ تملّك وظلم وكتم أنفاس، لذلك تحذر (ناريمان) صديقتها زيناً التي أحبت (مظفر) وتعلّقت به:

"...انتبهي إذا كان يريد تعريتك من صديقاتك ودراستك فهذا ليس حباً بل حبّ امتلاك. بوسع بعض المعاقين أن يكونوا قساة قسوة العالم عليهم... ثمّة لحظات أشعر فيها أنّ مظفر يظلمني ويكاد يكتم أنفاسي وهو يحاسبني إذا تحدثت جدتي على الهاتف طويلاً ووجد هو خط الهاتف مشغولاً.. وأتمنى لو كان حبّ مظفر حريّة، فأنا أكره الاختيار بين الحبّ والحريّة"([55]).

ثمّ اكتملت الصورة المشوّهة للذكر (مظفر) في خيانته لزين، وهي التي كانت تفكر بتحدي العالم والتضحية بكلّ شيء في سبيل إسعاده، وهكذا بدا العالم لزين عالماً مراوغاً متعدد الأقنعة والوجوه، لذلك تقع في الحيرة، فكيف يمكنها أن تعرف الشخص الذي سوف تحبّه من غير أن تعرف حقيقته وجوهره؟:

"إنني أعي أنّ هناك دائماً مخلوق الوجه ومخلوق القناع. وكلّ واحد اثنان، الوجه والقناع أو أكثر من اثنين. عامر لا يشبه قناعه.. مظفر كسر قلبي لاختلاف قناعه عن وجهه، وأنا قد عشقت القناع. فكيف أستطيع في المرة القادمة أن أحبّ رجلاً دون كشف القناع عن وجهه؟... تخوض زين حرباً غامضةً مع نفسها وأحياناً مع حضورٍ ما حولها تعجز عن تحديد ماهيّته.. حرباً ملتبسة لاتميّز فيها وجه العدو من الصديق، ولاتميّز الوجه ذاته لكثرة ما تبدل الوجوه.."([56]) .

وربّما لذلك لجأت زين إلى قراءة مذكرات عامر لمعرفة حقيقته، إذ اكتشفت أنّه إنسان معذب مثلها، وهو عكس ما يبدو عليه في الواقع، وهذا ما دفعها فيما بعد لقراءة مذكرات أمها لمعرفة حقيقتها المجهولة أيضاً.

ولابد أن نشير هنا إلى ظاهرة لها خطورتها في السّرد النسويّ، هي السعي لإنشاء سلطة نسويّة في مواجهة السّلطة الذكوريّة، وذلك بإنتاج وقائع تتيح المجال لهذه السّلطة، مثل إشراف هند على الأطفال ومساعدتهم في إنجاز واجباتهم وتعليمهم الفرنسيّة والإنجليزيّة، وبخاصّة البنات، وقد تعمّد السّرد أن يعلي من فعل هند على لسان الذكر (أبو رشيد) الذي كان يحترمها ولا يذكرها بسوء، يقول أمجد لحظة خلوه مع نفسه:

"بالرغم من شجارها مع الجارين (أبو سطام النص) و (أبو قعّود) البساتنة لأنّهما مثلنا يعلّمان الصبيان من دون البنات، ومع أبو رشيد النص الذي يرسل رشيد إلى المدرسة ويحرم شقيقته دعد منها، ورغم غضبه لأنّها تحاول تعليم ابنته القراءة والكتابة (من خلف ظهره) كما فعلت مع خادمتها الصغيرة جهينة التي أحضرتها معها من اللاذقية، إلا أنّه كسواه يحترمها و لا يذكرها بسوء، بالرغم من أنّها ترفض أن تتحجب كبقية نساء الحي"([57]).

وهو الدور نفسه الذي قامت به زين فيما بعد مع أطفال اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، عندما عرض عليها ابن عمتها (عامر) - فلسطيني الأب - المشاركة في برنامج محو الأمية مجاناً، وقد كانت هذه المشاركة فرصة لمحاولة نسيان خيانة مظفر لزين.

وهنا نلاحظ سعي السّرد إلى إعلاء قيمة عمل المرأة، وجعله في مقدمة اهتماماتها الحياتيّة تمهيداً لترسيخ سلطتها في المجتمع.

ولأمر ما أراد السّرد إسكان الذكر دائرة الفشل في المشاريع الاقتصاديّة والسّياسيّة، وربما كان ذلك دعوة خفية لتسليم زمام الأمور والقيادة للأنثى علّها تحقق نجاحاً، ففي نص (طرشقانة) يترك (سي المختار) مقود الأمور الخاصّة بأبنائه لزوجته غالية ([58])، ونور الدين يشتري مجموعة من المحلات التجاريّة، ويترك لزوجته (ليلى) حريّة الإدارة؛ فأصبحت فيما بعد من سيّدات الأعمال، تحقق المكاسب الكبيرة بسبب حسن الإدارة ([59]). والحاجة قمر تنجح في الحفاظ على أملاك عائلة الشواشي وإدارتها، ونورة تتميّز في كتاباتها الرّوائيّة. أمّا بالنسبة لمراد فلم يحقق له السّرد التميّز في رسوماته والنّجاح في معارضه إلا بعد التحوّل الرّمزي إلى أنثى([60]). وقد قدم النص دفقة مضيئة إعلائيّة للأنثى، فكان إعلاؤها إعلاءً قوليّاً (لفظيّاً) وإعلاءً فعليّاً بإظهار أهميّة الفعل الإنسانيّ لها، و تحوّل الإعلاء - أحياناً - إلى مطوّلة مدحيّة في مقابل تلك الهجائيّة للذكورة، وكلّ ذلك يكاد يكون على لسان شخصيّة مركزيّة واحدة هي (مراد)، إذ يصعّد من قيمة المرأة في قوله لأولاد عمّه:

"أنا أحبّ النّساء لا لأجل ما تبحثون عنه لديهنّ، بل لأنّي قريبٌ من معدنهنّ الرّقيق، لأجل أسرار مسربلة في أعطاف الإلغاز.. لأنّ المرأة أم الإنسان ورحم الخلق.. لأنّ الأرض أنثى والسّماء أنثى والشّمس أنثى والرّحمة أنثى والمحبّة أنثى..."([61]).

وفي سبيل هذا الإعلاء للأنثى، قدّم السّرد مجموعة من النّساء اللاتي أحطن بمراد، وكلهنّ نماذج إنسانيّة بالغة السّمو، وفي مقدّمتهنّ (قمر) برغم معارضتها لتحوّل مراد، وقد تجلّت فيها الأنوثة والإنسانيّة في أجمل صورها، فهي قلب دافئ للحنان والاحتضان، قامت بتربية مراد وغازي وقبلهما أحمد الشواشي وأخيه المنجي (أولاد زوجها المصطفى من زوجته الأولى)، ثمّ هي معول اقتصاديّ جيّد للأسرة، وسبب رئيسيّ في استمرار عزّها بأن حفظت ممتلكاتها ونمّتها بالتجارة، وبفعل ذلك كلّه استحقت اللّقب الذي أطلقه عليها السّرد (زعيمة القبيلة).

لقد تميّزت الحاجة قمر بالفطنة والذكاء، وهي مثل أمّها سندٌ لزوجها في العسرة واليسرة، فها هو أبوها يعرضها للزّواج من سي مصطفى قائلاً:

"لقد تزوّجت من أمها وأنا قلفة والسّوق صعبة.. فكانت معي بالجهد والحيلة حتى استقام عودي وأصبحت (معلم) يأتمر بأمري الصنّاع، ولا أظنّ ابنتي إلا شبيهة بأمها وخير من يربّي لك أحمد وسي المنجي"([62]).

وبالفعل احتضنت (قمر) التوأمين وحرصت على تربيتهما وكأنّهما جاءا من رحمها، ولم يشغلها عنهما إنجابها المتأخّر لوحيدها (سي المختار)، واستطاعت بقوّة شخصيّتها أن تحقق التعايش بين الأخوة الثلاثة، وبعد أن ختم التوأمان القرآن، عملت حفل ختان للأشقاء الثلاثة. عدا عن ذلك تميّزت (قمر) بسلطويّة عالية على من حولها من أولاد وأحفاد، إذ لا يستطيع أحد أن يرفض لها طلباً أو أن ينتقدها وإلا ستطير مشاريعه في مهبّ الرّياح ([63]). بل إنّ مراداً يرى أنّ رأيها ماضٍ رغماً عن إرادة الجميع، ورغماً عن إرادة الجنّ والشّياطين، لذلك لم يكن أمامه سوى الانصياع لأمرها في الذهاب إلى الشّيخ الفيلالي، فذهب إليه مكرهاً.

ويعلي السّرد (الحاجة قمر) في قدرتها على حماية البيت الكبير من الأزمات، فبعد خسارة (سي المختار) و(سي المنجي) في تجارتهما كاد يذهب مجد آل الشواشي لولا حيطة (نانا قمر) إذ:

"أخفت عن الجميع مجوهراتها وحليها وعقود ما ورثت عن أبيها، ونجت بفضل الله من التيّار.. لقد تحمّلت أعباء كلّ العائلة إثر النّكبة.. موّلت قضايا الأرض الفاشلة في محاكم الاستئناف والتعقيب، ودفعت مهر غالية والوالدة واهتمّت بسيمون.

أضاف مراد مقاطعاً:

- واشترت لي شقة الزّهراء ووضعت لي حساباً جارياً بالبنك.."([64]).

وهنا يظهر السّرد فشل الذكور في حماية الثروة، ونجاح (الحاجة قمر) في حمايتها وتنميتها بالتجارة، وبذلك احتلّت مكانة لا تقلّ عن مكانة الرّجل، بل كان لها سلطة إصدار القرارات وسلطة تنفيذها أحياناً.

إنّ كلّ ما سبق بالإضافة إلى كرمها وحسن معشرها جعلها مهابة لدى النّساء ومسموعة الكلمة لدى الرّجال، ومن ثمّ تحوّلت إلى معيل وسند للأسرة الكبيرة:

"ما من شاب نال من العلم درجات وتقلّد المناصب إلا وكانت لأيديها البيضاء عليه ظلّ نعمة، وما من فتاة التحقت بالمدارس العليا وتمكنت من شهادة اختصاص أو تزوّجت في حال مستورة إلا وكانت (الحاجة قمر) صاحبة الفضل والرّعاية في ذلك"([65]).

عدا عن ذلك قام السّرد بإعلاء (أنوشكا) في تعاطفها الإنسانيّ مع مراد وعرضها المساعدة، واحترامها لحلمه في التحوّل. كما أظهر تميّزها في العزف على الكمان، إذ كان لها سكرة المبدع الواثق وللسامعين نشوة الألحان المنسكبة([66]).

لقد قدّم النّص مجموعة من الإناث اللواتي تقرّبن من عالم مراد وتفهمن طبيعته المُلبسة، حتى إنهنّ قد بدأن خطوة عمليّة لإنقاذه من هذا الإلباس؛ فأنوشكا تقوم بعرض حالته على أطباء متخصصين، ونورة وليلى قامتا بجمع بعض المال اللازم لإجراء الجراحة، وكانت نورة - قبل ذلك - أوّل من آمن بموهبة مراد في الرّسم، وهي التي شجعته على إقامة معرض خاصّ به وكانت في مقدّمة من جاء لحضور حفل افتتاح المعرض، وهي التي دافعت عن وجهة نظره أمام الجميع ولم تصادر أحلامه كما فعل أهله، تقول لهم:

"إنّه يحمل حلماً كبيراً رآكم تغتالونه فجأةً، لا أقول لكم افتحوا صدوركم لحلمه... فنحن مازلنا دون ذلك... ولكن هادنوه.. ولا تعتبروه مجنوناً... مراد ليس مجنوناً يا سي المختار، بل يحمل في صدره حلماً لم نعتد عليه ولم يخطر على بال أحد منكم"([67]).

ومن ثمّ جاءت مساعدتها له بطريق غير مباشر، إذ حققت لمراد التحوّل الذي يحلم به من خلال عملها الرّوائي، لكنّها في الوقت نفسه لم تعطِ هذا التحوّل اكتماله المرغوب في الحمل والولادة، وكأنّ نورة تقدّم تحذيراً مضمراً لمراد حتى لا يسرع في الإقدام على هذا التحوّل، أو تهيّئه - على الأقل - لهذا التحوّل المنقوص إن تمّ.

عدا عن ذلك قام السّرد بإعلاء شخصيّاته النّسويّة الحاضرة والغائبة، فكان إعلاؤه لسيمون والدة مراد، على لسان الذكر (أحمد الشواشي) في رسائله التي عثر عليها مراد، إذ كان يحترمها لموقفها الإنسانيّ ونصرتها للمظلوم، ووقوفها إلى جانب حريّة الشّعوب وكرامة الإنسان ([68]).

ويطول بنا الأمر لو تتبعنا نماذج سردية نسوية التي نستطيع أن نلمح فيها بعض هذه الركائز التي تشير إلى خصوصية ما في السرد النسوي، والتي تمثل الهوية الإبداعية لهذا السرد.

*أستاذة الأدب العربي الحديث في جامعة البعث، وعضو اتحاد الكتّاب العرب.



([1]) الميراث: 85.

([2]) الميراث: 247.

([3]) السابق: 256.

([4]) هكذا يعبثون: 152.

([5]) دفاتر الطوفان: 26.

([6]) السابق: 28.

([7]) دفاتر الطوفان: 28-30.

([8]) دفاتر الطوفان: 30.

([9]) السابق: 31.

([10]) السابق: 16.

([11]) دفاتر الطوفان: 117.

([12]) السابق: 222.

([13]) دفاتر الطوفان: 223.

([14]) السابق: 223-224.

([15]) السابق: 224.

([16]) دفاتر الطوفان: 14.

([17]) السابق: 12.

([18]) دفاتر الطوفان: 54.

([19]) السابق: 56.

([20]) دفاتر الطوفان: 29.

([21]) السابق: 38.

([22]) السابق: 29. الكندرة والسباط والبابوج والقبقاب كلها تأتي بمعنى الحذاء.

([23]) دفاتر الطوفان: 32.

([24]) السابق: 38.

([25]) السابق: 39.

([26]) دفاتر الطوفان: 40.

([27]) السابق: 40.

([28]) السابق: 40.

([29]) دفاتر الطوفان: 40.

([30]) السابق: 156.

([31]) السابق: 156.

([32]) السابق: 217.

([33]) الرواية المستحيلة: 82.

([34]) السابق: 189.

([35]) الرواية المستحيلة: 188.

([36]) انظر الرواية ص: 107-108-165-172-177-178-219-222.

([37]) الرواية المستحيلة: 167، ربما كان ارتباط الأنثى بالقط وتربيته في هذه البيئة رداً على الواقع الذي يشبّه الأنثى بالقطة، وأنها مثلها بسبعة أرواح، كما ورد على لسان عبد الفتاح ليخفف من قلق أخيه أمجد على زوجته التي تعاني عسر الولادة ص:10، وانظر:17-85-23.

([38]) الرواية المستحيلة: 421.

([39]) ربّما كان ذلك رداً على القهر الذي لاحق الأنثى والذي تلازم في مجتمع النص مع النظرة المتدنية لها وإلحاقها بالحيوان: فهي قطة وفأرة وبومة وعندما تنسحب إلى حزنها تصبح كالسلحفاة التي تنزوي داخل صدفتها.

([40]) الرواية المستحيلة: 257.

([41]) السابق: 78.

(*) انظر السابق: 284.

([42]) الرواية المستحيلة: 63.

([43]) السابق: 288-289.

([44]) الرواية المستحيلة: 282.

([45]) الرواية المستحيلة: 261.

([46]) السابق: 456.

([47]) الرواية المستحيلة: 347.

([48]) الرواية المستحيلة: 19.

([49]) الرواية المستحيلة: 356-357.

([50]) السابق: 37.

([51]) الرواية المستحيلة: 361.

([52]) السابق: 211.

([53]) الرواية المستحيلة: 338.

([54]) السابق:402.

([55]) الرواية المستحيلة:421-422.

([56]) الرواية المستحيلة: 433-434.

([57]) السابق: 28.

([58]) السابق: 96.

([59]) انظر السابق: 124.

([60]) طرشقانة: 128.

([61]) السابق: 17.

([62]) طرشقانة: 47.

([63]) السابق: 76.

([64]) السابق: 82-83.

([65]) طرشقانة: 8.

([66]) انظر السابق: 54.

([67]) السابق: 105.

([68]) طرشقانة: 90.

 

2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون