تقنيات الممثل وتكيّفه مع الفضاء المفتوح وتغييراته.
2022 ,22 تموز
المخرجة والاكاديمية المسرحية الدكتورة نجوى قندقجي
 *د.نجوى قندقجي:صوت العرب – الاردن.
 شاركت "د.نجوى قندقجي" في الندوة التي اقامها مهرجان الرحالة بعنوان" جماليات المكان المسرحي البديل" بمشاركة عدد من النقاد والمسرحيين الاردنيين والعرب، وسردت في ورقتها تجربتها الشخصية، مع تناول للجانب النظري، ونظرا لاهمية الورقة، نقوم في "صوت العرب" للثقافة والفنون، بنشرها تعميما للفائدة.
الأداء وتغيّرات الفضاء المسرحي- لمحة تاريخية: 
تعود جذور المسرح الغربي إلى نشوء المسرح اليوناني، ورغم انه كان تمثيلاً لاحتفال وطقس ديني يُقدم على شرف الآلهة واحتفاءاً بها، فإن هذا النشاط الفرجوي أكسب الفن المسرحي الكثير من الملامح والأسس الدرامية مازال المسرح حتى الآن يقاربها في التمثّل أو الإنفصال. وهكذا ولد الفن الدرامي وعاش ونما في مراحله الأولى في فضاء مفتوح، الذي كان أحد أهم شروطه، تحقيقاً للغايات التي وّجد من أجلها، كونه مكان الاحتفال والاستعراض لتجمّع عام، فكان المؤدي مغنيّاً وراقصاً ومتكلّماً فصيحاً، قادراً على جذب آلاف من المتفرجين، وإن كان المسرح الروماني قد قلّص من حضور الكلمة وأصبح العرض أقرب إلى نشاط رياضي يحمل طابعاً هزلياً لسيادة الكوميديا وتراجع التراجيديا، فإن ذلك جعل العرض قائماً على قدرات المؤدي ومهاراته الفيزيائية. 
امتد الإرتباط بين الممارسة الدينية والمسرحية خلال القرون الوسطى مع سيطرة الكنيسة، ولم تكن أيضاً الفضاءات المفتوحة بعيدة عن هذه التجربة، فقد دفع طابعها التبشيري والتعليمي حول الدين المسيحي، إلى الإنتقال نحو الشارع والساحات العامة، وصولاً إلى أماكن وفئات سكانية عامة أوسع، بعد أن كانت بدايات تلك التمثيليات تجري في الكنيسة ويقوم بأدائها الرهبان والقساوسة. وكانت أشكال الأداء محدودة تعتمد النص الديني والقدرة على تلاوته، بعيداً عن التعبير الجسدي أو الغنائي، لتأتي أشكال أدائية ثارت على حشمة الأداء وذهبت بعيداً في التهريج والرقص والإرتجال والغناء، وقد وُلدت في الشارع والساحات أيضاً، مثل كوميديا ديلارته ومثيلاتها. دفعت آليات تطوّر مفردات المسرح كفن  إلى حاجته لفضاء يوفّر التقنيات اللازمة لتحقيق هذه الحاجات الإرتقائية، فكان مسرح العلبة الإيطالية في القرن السادس عشر، الفضاء الرسمي للفن المسرحي، الذي سيشهد ثورة أخرى نحو الفضاءات الفضاءات المفتوحة في القرن العشرينن بدافع التغيير والتطوير والبحث عن أشكال تعبيرية ومساحات أدائية متجددة.    
تعتبر منهجية بريخت أشبه بثورة في تقنيات التمثيل للدور، عندما حطّم الجدار الرابع وابتدع "الأداءً الثالث" من خلال مبدأ "التغريب"، ما دفع الممثل إلى تطوير أدواته في تلك الرحلة الممتدة ما بين الشخصية والخروج منها، وجعله أمام انتقاء او ابتداع طرق تقنية جديدة للتعبيرالأدائي، لصالح الرؤية الفكرية الواضحة والتي أراد بريخت إيصالها على أنها جزء من الحقيقة، والتي على الملتقي الوصول إليها ومحاكمتها. منحت تجربة بريخت نوعاً من الفرصة نحو تعدد مستويات التفكير حول لعب الممثل دور الوسيط المزدوج، كوسيط بين النص والعرض من جهة، وكوسيط بين العرض والمتلقي من جهة أخرى. هذه الثورة على صعيد الأداء فتحت آفاقاً واسعة نحو تجديد الفضاء أيضاً ومختلف المفردات التي تخدم الفعل الأدائي، وربما معظم التجارب الحداثية والتي ظهرت لاحقاً، جاءت تأثّراً ببريخت على مبدأ أن على الفن الأدائي تحطيم الروتين التقليدي، وأن يكون ثورياً ليس في طروحاته وموضاعاته الفكرية بل في بنيته الفنيّة أيضاً. 
يعدّ بيتر بروك من أهم المخرجين المعاصرين الذين عملوا على تجديد المسرح الغربي متأثّراً بمنهجية بريخت، وإن لم يتبناها بشكل كلّي، ولكنه بحث عن فضاءات جديدة للأداء مؤكّداً أن المسرح يقوم على إحداث التواصل، إنه تعبير عن الحاجة الإنسانية في إقامة علاقة جديدة وحميمة مع الآخر، ولكننا في القاعة نحن بالواقع على مسافة من بعضنا البعض، إن كان بين النظارة الجالسين على المقاعد، أو بين النظارة والممثلين، وعلى العرض المسرح أن  يلغي هذه المسافة، ويبني علاقة حسيّة متباينة ولكنها توحّد الجميع، عبر خلق ما سماه بروك ب"المساحة الحيّة" وتميزها ضمن الفراغ العام عن "المساحة الميّتة"، من خلال التركيز على الحدث القائم، وإن كان هذا الحدث مرتبط بالأداء الجسدي والذي نقله إلى المكان المسرحي يفرض عليه شروطاً معينة، تحددها اختيار المساحة المناسبة لتحققه على الخشبة، وهكذا حسب بروك مساحة المكان هو عندما يحضر الإنسان-المؤدي في هذه المساحة الفارغة ليقوم الفعل، لأن "الشئ الهام هنا هو ليس المساحة من الناحية النظرية، ولكن المساحة من حيث هي أداة"  (بروك، بيتر: النقطة المتحولة أربعون عاماً في استكشاف المسرح. ترجمة فاروق عبد القادر، عالم المعرفة، العدد 154، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت .1991 ص158). وقد تنوعت أساليب الأداء وفضاءاته في عروض بروك عبر تلقيحها بالأشكال الفرجوية الشرقية، إذ قدم عروضه في فضاءات مفتوحة وفارغة سينوغرافياً في الأمكنة العامة والشوارع والحدائق، ولا سيّما تلك العروض في إفريقيا وآسيا بهدف تعزيز التواصل بين الأعراق والأجناس سعياً لما  أسماه "الثقافة الثالثة" من خلال تجارب مسرحية تجدد فضاء اللعب وتمازج ما بين الثقافات. 
أيضاً تبرز تجربة المسرحي البولندي تادروس كانتور الذي حاول تدمير مفردات العرض المسرحي ويتشارك مع بروك مبدأ البحث عن فضاء بديل خارج المكان المسرحي، فحاول من خلال تجاربه في "مسرح الموت" إلغاء المسافة بين الخشبة وصالة النظّارة، معتبراً أن الوضعية الواقعية في مسرح العلبة الإيطالية، تدفع المتفرج ليكون سلبياً لأنه يعيش وهماً وخيالاً كاملاً. تتالت التجارب والأساليب والمنهجيات وصولاً إلى ثورة الستينيات الفكرية، فكانت تجربة جوديث مالينا وجوليان بيك في المسرح الحيّ، تمثيلاً للفكر التحرري أو الفوضوي الذي ميّز تلك الفترة، وقامت العروض في أماكن غير تقليدية، مثل الشوارع والسجون، سعياً لتفجير طاقات الشباب في مساحات جديدة للتعبير، وكما يقول بيك "إذا كان ينبغي للمسرح أن يفيد في شييء فعليه أن يفيد في تطبيق وممارسة الثورة" (قلعه جي، عبد الفتاح. 2012. المسرح الحديث الخطاب المعرفي وجماليات التشكيل. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق. ص 163). كما يتشارك أوغستو بوال مع هذا المسعى، حين نقل عروض "مسرح المضطهدين" إلى المزارع والمصانع في انحاء البرازيل، قائمة وبشكل أساسي على فكرة إشراك المتفرج وكسر المعنى الميتافيزيقي للأداء، وخلع سمات الشخصية الدرامية ليجسّد الممثل-المؤدي الذات-الإنسانية ولكنها ثورية، لتكون هي قاعدة الأداء ومنظوره. نستطيع القول أن الفضاء المفتوح جاء نتيجة للبحث عن فضاء بديل الطرح أفكار بديلةٍ، وفن مسرحي جديد وثوري، على خلاف بداية المسرح، عندما لم يكن الفضاء المسرحي المفتوح مفردة ثورية، بينما حدث ذلك لاحقاً في العصر الحديث. 
الأسئلة:
يمكن البحث نحو الأجوبة حول الأسئلة التالية:
- هل تتأثر تقنيات الأداء تبعاً لتغيّر الفضاء؟
- ماذا يقدّم الفضاء المفتوح من مميزات فنيّة مختلفة؟ 
- وماهي أهم التحديات ومستلزمات التكيّف التي يواجهها الممثل أثناء الأداء في الفضاء المفتوح؟
الممثل ما بين فضائين:
الممثل هو كتلة ساردة في فضاء الأداء. يواجه الممثل أدائياً أثناء صيرورة تجسيد خطه السردي، تجاوز مستويات عدّة من آليات التكيّف النفسية والفيزيولوجية تحتاج تقنيات متغيّرة وبشكل تراكمي وصولاً لشكل التجسيد المتكامل. تشكّل هذه العوالم مجموعة من الفضاءات يعيشها الممثل بدءاً من كينونته المحصورة بجسده، الكتلة المثيرة للفعل وصولاً إلى الفضاء المحيط لهذا الفعل الأدائي. تضعنا هذه المعادلة مبدئياً وبشكل تأسيسي عام للأداء في تفاعل مع فضائين، الأول هو فضاء نفسي يسكن الجسد وآخر فيزيائي خارجه.
أولا- الفضاء النفسي: تولد الشخصية الدرامية/الأدائية على الورق عبر الكلمة. تتشكل معادلة بلاغية ترسم صوراً ذهنية تمثّل أفكاراً وقيماً وأحاسيس ترتصف لبناء الحكاية أو خطاً سردياً يتبعه الممثل ويسعى لتجسيده عبر الفعل. هكذا يتكوّن الفعل في رحم فضاء داخلي غير ملموس ولكنه مدرك بدراية تامة، قبل أن يخرجه الممثل ويحيله إلى تجسيد ظاهر. مما لا شك فيه، أن هذا الفعل لن يتحقق ما لم يتم إدراك ومقاربة وفهم كل مفردات هذا الفضاء الجوّاني. تتموضع سمات الشخصية وخصالها ودوافعها على شكل بنيّة تشبه مكوّنات الذرة، حيث هناك تقبع النواة: الخصلة الرئيسية الدافعة والمحرّضة لأفعال الشخصية، وهناك الإلكترونات(البروتونات والنيوترونات)-الخصال الثانوية التي ترتبط بمدارات متحركة ومتحوّلة حول الخصلة-النواة على طول جريان الفعل. ربما لا يسعنا تشريح هذه الآلية بشكل تفصيلي، ولكننا نستطيع القول بإيجاز، أن فضاء الشخصية النفسي يتساوى ويتوازى من حيث المساحة والصيرورة مع فضاء الحركة الخارجية، ليصبح الأداء هو تكييف تلك التفاعلات مابين هذين الفضائين، وهذا لن يتحقق مالم تتوافر لدى الممثل تلك المرونة التي تمكّنه من تحسس مكوّنات الشخصية الداخلية وإدراكها وبالتالي التفاعل معها ضمن محاكاة شاملة (من تبنّي أو نفي أو حيادية). إنها عملية تشبه آلية عمل الدماغ البشري، حيث حركة السيّالات العصبية التي تنقل أوامر الخلايا العصبية المتمركزة في الدماغ نحو أعضاء الجسم كي تتحرك تنفيذاً لهذه الأوامر. إنها عملية لا تحمل الخلل، لأن أي انقطاع في بناء هذا الفعل الداخلي النفسي/الإدراكي سينعكس على انسابية الحركة أثناء التجسيد، وسيفقد الفعل الأدائي أثره المنشود .     
 
ثانياً- الفضاء الفيزيائي: يحضر جسد الممثل ضمن الفراغ مستعداً للأداء عبر فعل-الحركة وفعل-القول، ويمكن تحديد مكوّنات هذه الصيرورة، إنطلاقاّ من التعريف الميكانيكي للحركة "تتم عندما يغيّر الجسم مكانه خلال فترة زمنية أم شرح ووصف هذا التغيير في المكان والزمان يتم بقياس المسافة والزمان، وما ينتج عنهما، السرعة والتعجيل اللتان يمكن قياسهما" إضافة إلى تعريف آخر للحركة أنها "تعني عمليات التغيير المكاني أو الوضعي بالمقارنة مع بعض النقاط أوالعلامات الدالة" (نقلاً عن الباحث العراقي عبود، عبد الكريم. الحركة على المسرح بين الدلالات النظرية والرؤيا التطبيقية. دار الفنون والآداب، منشورات ضفاف، 2014. ص 25). تؤكد هذه التعريفات أن الفضاء يوفّر حاجة فعل الأداء كونه عملية تحوّل عبر الزمن والمكان، ولأن الفضاء كيان مادي ساكن، فإن الفعل عبر الحركة بين مكوّنات بنيته الثابتة يخلق المعنى، ليس ذاك المرتبط بمفهوم الشخصية المؤداة وإنما على صعيد مفهوم الفضاء المحيط أيضاً، فالفعل الفيزيائي هو الذي يحدّد طبيعة هذا الفضاء كونه المحرّك الأساسي في توليد الدلالات وتحوّلاتها. ولكن من جهة أخرى، فإن هذا لا ينفي ان خصائص الفضاء الفراغية لا تؤثّر على أداء الممثل، بل يعيش الممثل تفاعلات حسية وحركية طوال عمله على جميع مراحل بناء الأداء وتغيّراته، منذ بدء التدريبات الأولى ضمن فراغ عام، وصولاً إلى التدريبات النهائية عند إكتمال تصمم الفراغ سينوغرافياً، وانتهاء بالعرض، حيث يشكّل الجمهور جزءاً من مركّب الفضاء المسرحي.
 
اتجاهات عامة لتجارب الفضاء المفتوح:
ربما خير مثال على ذاك الإرتباك تجاه تقنيات الممثل الأدائية واختلافها عندما يغادر العلبة الإيطالية ، في تلك الحادثة التي يستذكرها المخرج الروسي ميخائيل  روم حين أراد ستانيسلافسكي في إحدى الأمسيات، تأدية أحد المشاهد من عرضه المسرحي شهر في القرية، الجاري تقديمه آنذاك، في الحديقة تحت ضوء القمر الحقيقي والذي يضيء الشجرة والمقعد تحتها، ما يشبه كثيراً ديكور العرض، ولكنه توقّف عن التمثيل بعد الكلمات الأولى، فقد شعر بأن الكلمات باتت مزيفة أمام الطبيعة الحقيقية، كتب ساخراً "ويقولون أيضاً، أن مسرحنا قد وصل إلى الطبيعية...كم نحن في الحقيقة بعيدون عن الواقع الحقيقي، عن الحقيقة" (روم، ميخائيل. (1981). أحاديث عن الإخراج السينمائي. ترجمة عدنان مدانات، دار الفارابي، بيروت. ص 216)، وتحمل هذه الحادثة أهمية كبيرة في دلالاتها المتعددة على صعيد تقنيات الأداء في حيثياتها الداخلية من جهة، وعلاقتها بالفضاء الخارجي من جهة أخرى، ما سيدفعنا لرصد تلك التغييرات بين طبيعة التقنيات الأدئية وتكيّفها مع تغيرات الفضاء المفتوح أيضاً. 
 
نستطيع وضع اتجاهات عامة لعروض الفضاءات المفتوحة وما ينتج عنها من اختلاف في متطلبات الأداء وتكيّفه تبعاً لطبيعة الفضاء وتوجّه العرض على صعيد المحتوى:
 
- مسرح الشارع: جاء تعريف مسرح الشارع  حسب د.بشار عليوي، مؤلّف أول كتاب عربي يتناول مسرح الشارع باللغة العربية "كل عرض مسرحي يقدم في الشارع والساحات والأماكن العامة متّخذاً من الناس المتواجدين عشوائياً جمهوراً له ومستلهماً موضوعاته من الواقع اليومي بهدف إيصال أفكاره عن طريق المشاركه التفاعليه مع العرض" (مسرح الشارع.. حفريات المفهوم والوظيفة والنتاج. دار الرضوان للنشر والتوزيع في عمان وبالتعاون مع مؤسسة دار الصادق الثقافية في بابل). ومن أهم مظاهره أنه مسرح إحتياج احتجاجي، كون تعريفه من حيث المفهوم  "كل عرض مسرحي يصادف المتلقي خارج العمارة المسرحيه ويناقش قضاياه اليوميه خالقاً حالة ديالكتيكية تجعل المتلقي يشارك في بلوغ الغايات الدلالية للعرض" (حسام الدين مسعد. الخلط الشائع في مسرح الشارع (ملخص لدراسة بحثيه) الحوار المتمدن-العدد: 6702- 2020/10/13- المحور: الادب والفن). وتقوم هذه العروض على قدرة الممثل على الإرتجال المحكم بضوابط الموضوع المطروح وإطاره الفكري والثقافي، ويتشكّل الأداء بشكل تراكمي مستمر، يختلف بين عرض وآخر، تبعاً لطبيعة الجمهور وتفاعله، حيث لا يمكن لعرض أن يشابه الآخر.
 
- مسرح الطقوس والعروض الكرنفالية: والذي بدأ تاريخياً وعلى نطاق واسع في القرون الوسطى مع ما يُسمى "Pageant"، أي الموكب أو المهرجان، والذي يحمل طابعاً مسرحياً حيث كانت المسابقة هي العربة التي تُؤدى فيها النصوص الدينية مثل المسرحيات الغامضة. ونظراً لأن المسرحيات كانت مرتبطة بالاحتفال والمشهد، فقد جاء المصطلح للإشارة إلى أي حدث درامي باهظ أو احتفال ملون. غالبًا ما تعمل المواكب على التعبير عن الهوية المشتركة لمجتمع أو جماعة دينية. (حسب موقع بريتانيكا). يندرج ضمن هذه الظاهرة المواكب الرسمية والإستعراضات والتي استمرت في العصر الحديث مثل ماردي غرا- Mardi Gras (الثلاثاء البدين- اليوم الأخير قبل الصوم الكبير- أربعاء الرماد) الذي بدأ في فرنسا وانتشر في دول أمريكا اللاتينية إلى جانب مواكب الكرنفال الأخرى. وهو ما يتوافق أيضاً مع الشعائر الدينية الشرقية مثل احتفالات المولد النبوي وطقوس عاشوراء. وقد كان هذا الشكل الأدائي جذور طروحات الفعل لدى آرتو الذي اعتبر أن المسرح الشرقي عرف كيف يحافظ على فكرة المسرح سليمة، على عكس ما فعله الغرب. فقد دعى أن يتحرر المسرح من الكلمة كونها شيء ملك الكتاب، بينما على الخشبة على الممثل أن يتكلّم لغته الملموسة عبر الحركة "فالفعل في مسرح القسوة عند آرتو هو الطقس، والانفعال عنده يجب أن يترجم الى لغة جسدية قوامها الاستعارات من الأساطير، وكل ما هو بدائي" (رشيد، يوسف. (2009). الفعل الأرسطي مصيره ومظاهر في المسرح الحديث. مجلة كلية التربية الأساسية، ملحق العدد (60)، المجلد 15، جامعة المستنصرية، بغداد.)
 
- العروض الدرامية: وهي العروض المسرحية في الفضاء المفتوح على غرار المسرح اليوناني، حيث يكون العرض مكتملاً من حيث المفردات الدرامية (الحكاية وبنيتها) ولا يقوم أدائه على التفاعل المباشر مع المتلقي، وغالباً ما تقوم هذه العروض خلال المهرجانات أو ضمن حملات التوعوية والترويج الثقافي والفني في المدارس والمخيمات والمصانع والسجون. وهنا تندرج تجارب بوال وكانتور وتجربة الفرقة الأمريكية "خبز ودمى"، إضافة إلى عروض المهرجانات المختلفة مثل أفنيون وجرش وغيرها، وفي سبيل الحفاظ على سوية العرض جمالياً، أصبح هناك مسارح في فضاءات مفتوحة، تمّ تصميمها معمارياً لتكون ثابتة وجاهزة للعرض المسرحي بأحدث التقنيات الفنية منتشرة في دول عديدة. ويحصل أن يتمّ تصميم العرض بشكل خاص ليكون في هذه الفضاءات، أمّا في حال نقله من المسرح المغلق، فهذا يضع الممثل أمام تحديّات أدائية جديدة كما تمّ التطرّق إليها. 
 
 
- العروض اللادرامية: وهي العروض التي تمثّل الفنون الأدائية التي بدأت مع "فن الواقعة-Happening" الذي طرحه آلان كاربو متأثراً بتجارب أستاذه الموسيقي الأمريكي جون كيج في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. وامتدت هذه العروض لاحقاً مع ظهور مارينا ابراموفيتش في السبعينيات كأحد أهم مؤسسي الفنون الأدائية في العصر الحديث "جدة فن الأداء الجسدي"، لتكسبها أبعاداً نفسية وفيزيولوجية عميقة ومركّبة من خلال طرحها أن جسد المؤدي هو الوسيط الأساس ما بين فضاء الأداء والمتلقي. ودخل الحضور الجسدي، كمشارك ومحرّك أساسي في كثير من الإتجاهات الفنية المعاصرة مثل الفن البيولوجي والفن المفهومي وفن التجهيز وغيرها، مع الإشارة إلى ذاك التطوّر المتسارع في ولادة أنواع جديدة من تمازج الفنون نتيجة الثورة الرقمية، التي وفّرت وسائط تكنولوجية غيّرت من طبيعة ومفهوم العمل الفني والأداء على حدّ سواء. 
 
مشاركات ومشاهدات شخصية:
سنحت لي تجربتي الشخصية كممثلة تجريب الأداء في الفضاء المفتوح عندما قدمنا عرضين لمسرحية "الخادمات"، نص الكاتب الفرنسي جان جينيه المعروف، مع الزميلة الممثلة مجد القصص في جرش عام 1995، وكان العمل من إخراج زياد جلال وكريم رشيد. ورغم مرور الزمن لم تفقد هذه التجربة أهميتها على صعيد الخبرة والتحديات في مسيرتي المهنية ما جعلها محطة أدائية تحمل سحراً خاصاً ما زلت أشعر بتوق شديد لتكرارها.
الخوف تجاه خوض التجربة هو الشعور الأول الذي انتابني عندما أخبرتنا مجد، والتي كانت منتجة العرض آنذاك، أننا سنقدم العرض ضمن فعاليات مهرجان جرش. يبدأ الهلع منذ لحظة التخيّل أننا سنغادر البيت المسرحي المغلق، الذي نشعر بحماية جدرانه ودفئه نحو الفضاء المفتوح، هذه الجدران التي تساعد على شحن طاقة الأداء والتفاعل مع النظّارة وتصعّد حلقة التغذية المرتدة معهم نحو مستويات متفاوتة، لتحضر فكرة الأداء في فضاء مفتوح على شكل صورة مخيفة وكأنه تمّ تجريدنا من أحد أهم أسلحتنا. كان مقاومة هذا الخوف هو المهمة الأولى التي كان علينا مواجهتها، والبدء بطرح الأسئلة حول كل مفصل تقني وأدائي من المسرحية، حول ما هو الممكن في العرض والذي يمكن إبقاؤه كما هو، وإيجاد حلول بديلة لتفاصيل أخرى تطال الحركة والتعامل مع قطع الديكور والإكسسوار والإضاءة. كان من الضروري تحديد هذه الأسئلة والتي أخذناها معنا نحو المكان للتعرف عليه والبحث عن الأجوبة. 
التعرّف الأول على المكان جرى خلال النهار لتعذّر إجراء التدريب خلال المساء رغم أن وقت العرض سيكون كذلك. استخدمنا التخيّل والتقدير حول ما ستؤول إليه الرؤية والمشهدية الفنيّة، وأخذنا نمرّ على مسارات العرض وكل ما يخصّها من الحركة والتوقيت وتحديد منافذ الدخول والخروج، لنكتشف أن المكان يقدّم حلولاً في الميزانسين تحمل جمالية مختلفة ومضافة، تجعل اللحظة الدرامية أكثر تأثيراً. فقد أصبحت إحدى المونولوجات المهمة في تحوّل الشخصية التي أؤديها على إحدى الشرفات الحجرية، ليكتسب تأطيراً بصرياً أعطى المشهد بعداً مختلفاً وآسراً، إذ تمّ اختيار أحد المشاهد ليكون على مصطبة عالية جداً ضمن نوافذ الخلفية الحجرية كان الوصول إليها مغامرة جديّة، جعلت الحضور يشهق عند رؤيته وأنا أصعد الدرجات إلى ذاك المكان المحلّق في السماء، وليأتي المشهد ملحمياً بامتياز انتهى بالتصفيق. كان الإنفتاح على تفاصيل المكان والتعرّف عليه بحريّة وإطلاق الخيال، قد فتح حلولاً بديلة لا تقلّ جمالية عن تلك الموجودة في نسخة العرض الأصلية، ولكن هذا لم يمنع من ظهور التفصيل الطارئ ومواجهته أثناء العرض. 
الظرف الطارئ قد يتجاوز المتوقع، والتعامل معه يتطلب مرونة في التنازل عن قدسية اللحظة الدرامية نحو طرافة اللحظة الواقعية، ولا ضغينة فنيّة في ذلك، فالعرض المسرحي ذاته هو عرض لواقع طارئ في النهاية. وهذا ماحدث عندما مضى عشر دقائق على زمن العرض في جرش، وإذ يصدح آذان صلاة العشا من إحدى جوامع البلدة ليغطي بشكل كامل صوتنا رغم استخدامنا مكبّرات للصوت (ميكروفونات). في البداية ترددنا، ماذا نفعل، تبادلنا نظرات الحيرة أنا وزميلتي، كان لابدّ من التوقف عن الأداء احتراماً للآذان مع تثبيت حالة التكوين الوضعي بأجسادنا (كأننا صورة جامدة) كي لا نفقد الإحساس الداخلي بالمشهد، لننطق ونتابع عند انتهاء الآذان. ورغم إيجاد ذاك الحل أدائياً، فما فعلناه في اليوم الثاني في تجاوز هذا التفصيل الطارئ هو بدء العرض متأخراً بعشر دقائق ليكون بعد الآذان. يعدّ الصوت من أهم التحديّات في العروض الخارجية، ما يجعل التمثيل بمساعدة الميكروفونات المحمولة أمر لا مفرّ منه، وإن كان هذا يشكّل حالة من الأمان لإيصال الصوت ولكن يبقى مفردة جديدة (اكسسوار مضاف) بالنسبة للأداء يجب معرفة التعامل معها. وحدث بسبب عدم درايتنا التقنية بشكل كاف حول عمل هذه الوسائط ، أن بقي الميكروفون شغّالاً عند دخول إحدانا إلى الكواليس، لينقل ما يجري في الداخل من سعال وقرقعة، وعلى ذات مستوى الصوت الذي تؤديه الشخصية الأخرى وهي في قمة الإنفعال الدرامي الجدّي، وما كان من الحضور أمام هذه المفارقة التغريبية إلا أن يضحك، لنتعلم كيفية إطفاء هذه الميكروفونات في يوم العرض التالي. 
المتعة التي يمنحها الفضاء المفتوح للممثل، لا يمكن تقدير المدى الذي يمكن تصل إليه، لما تمتاز به من اختلاف تام عن تلك التي نعيشها في العلبة الإيطالية، خاصة أن التجربة برمّتها ترتبط بالتحدي والقدرة على تطويع الخوف وتكثيف التركيز والطاقة الروحية للأداء، لتخلق تجربة عيش حسي جديد، ويغدو الفضاء المفتوح مسرحاً سماوياً يصارع الممثل ليمتلكه ويحلّق فيه. يكبر امتداد الأداء وتتكاثف ارتدادته وظلاله في الفضاء المفتوح، وتتغير مسارات الطاقة التي يثيرها الممثل وطريقة التحكّم بها، وكأنه في أدائه الحركي- الصوتي يحاول أن يكتسح كامل الفراغ ويغطيه بطاقته المتدفقة، ليشعر أنه عملاق ذو جسامة. ويعمل هذا الإحساس على تغذية الأداء ليجنح نحو تألّق غير محدود، وتكتمل ثنائية تفاعلية استطرادية ما بين الأداء والمتعة لتستمر وتعلو على طول العرض. 
لا يمكن حصر جميع مشاهداتي لتجارب العروض في الفضاء المفتوح، ولكن من الجدير استحضار مسرحية " أنتيغون" لسوفوكليس من إخراج المخرج اللبناني الكندي وجدي معوّض، التي عُرضت ضمن مهرجانات بيت الدين عام  2014، بعد أن كان عرضها  للمرّة الأولى في مهرجان أفينيون وهي جزء من ثلاثية التراجيديات السوفوكلية التي عمل عليها المخرج. يشكّل قصر بيت الدين إطاراً فعلياً للعمل، فقد كانت الخشبة شبه عارية إلا من بعض المواد (التراب) الذي تتعامل معه أنتيغون عند مونولوجها النهائي في رمزية لقبر أخيها. يبني معوّض مستويين متوازيين في السرديات والمشهديات جعل العرض في حالة تغريبية، ما بين تاريخية المكان والحكاية والرؤية الإخراجية المعاصرة، فالنص الإغريقي يؤديه ممثلون في ثياب معاصرة، كما يبدأ العرض بأصوات طائرات تقصف، وأصوات صواريخ تنفجر، واستبدل المخرج الكورس الإغريقي بفرقة موسيقية حديثة، شملت عازف باص وغيتار كهربائي مع حضور متميز للمغني المبدع برتران كانتا Bertrand Cantat مغني فرقة Noir Désir  للروك. 
لعبت الحوارات مع الفرقة الموسيقية والتي جاء امتزجت بالأغاني دوراً مسانداً ينهض بأداء الممثل نحو تكريس ملحمية النص مع اضفاء طابع إحتفالي، فكان الممثل يعتمد الحركة الواسعة بفضل رحابة الفراغ، وكان التناغم الصوتي ما بين صوت الغناء والموسيقى والممثل، كون جميع مصادر هذه الأصوات يتم نقلها عبر المكبّرات. ومع ذلك جاءت بعض المشاهد خلت تماماً من هذه الأصوات الإلكترونية، فرضت صمتاً مهيباً وانصب تأمّلنا على أفعال الممثلين الحركية، وكأن المخرج أراد التنوّيه أن هذه السيطرة الصوتية التي تغمر المكان ليست إلا حاجة تقنية، وأن يعيدنا إلى لحظة العرض الآنية. كانت لحظة محيّرة غمرتنا في هيبة مسرحية درامية لم يستطع الفضاء المفتوح أن يشتتها بل أكسبها متعة حسيّة خاصة.   
تحديّات أدائية:
على اختلاف الفضاءات والمفردات التي تعمل عليها التجارب الأدائية في الفضاء المفتوح، فإن الممثل عليه أن يواجه التحدّيات التالية:
- تطويع خصائص الفضاء المفتوح، عبر محاولة معرفة مكوّناته وتوظيف الجوانب الإيجابية، وتجنّب السلبية منها.
- الحرص على عدم الإنقاص من حساسية الفعل (الداخلي/الخارجي)، وبذل الجهد الأدائي اللازم لإبرازه.
- ارتفاع مستوى المهارة الحرفية في الأداء عبر زيادة التحكم الإدراكي والتعبيري الحركي، بما يمثّل إدارة محكمة لهذه التقنيات الأدائية. 
- تجاوز مسارب التشويش التي يمكن أن يتعرض لها كلّ من المؤدي والمتلقي وإتقان التعامل مع الطارئ.
- الإنتباه لضبط الطاقة بين الحضور من خلال تقوية طاقة الإرسال لدى الممثل، التي كان يؤمنّها فضاء المسرح المغلق بشكل أسهل وبجهد أقل.
- مهارة الإرتجال، حتى في العروض الدرامية المغلقة في بنيتها، واللعب على مواجهة الطارئ بشكل مرن ومرح، وإن خرج عن النوع الدرامي المُؤدّى.  
آفاق أدائية:
يمكن أن يمنح الفضاء المفتوح بعض النقاط الإيجانية على صعيد الأداء وتقنياته:
- التجديد على المستوى الإبداعي في خلق أساليب وأشكال أدائية وأنواع فنية مستحدثة.
- توسيع فرصة التجريب على تقنيات أدائية تحتاج بحثاً وتطويراً بما يختلف عن تلك الخاصة الفضاء المغلق.
- تقوية القدرة التفاعلية القائمة على الإرتجال وما تتطلبه هذه التقنية من مرونة أدائية وفهم متين لجوهر الفعل المؤدى.
- خلق فسحة أدائية خاصة لتتحول إلى تجربة عيش جديدة تكتسب خصوصيتها وتتمايز حسب خصائص الفضاء ذاته.
- الحميمية الإجتماعية لخروج العمل المسرحي عن شكله المتأصّل والمتعارف عليه كفن.
- الرحابة في مساحة الأداء نتيجة امتيازات الفضاء المفتوح وما يمنحه من الإتساع أو الجو العام وتعدد مستويات اللعب.
- الوصول إلى فئات مختلفة من الجمهور، أولئك الذين لا يمكنهم الحضور في مسرح مغلق (بمكوّناته الكلاسيكية) لأسباب موضوعية أو ذاتية.
مخرجة واكاديمية مسرحية.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون