" خلاف": مسرحية عن نهاية المقولات الكبرى.
2022 ,23 تشرين الأول
من مسرحية" خلاف" -العراق.
*دة. أمل بنويس:صوت العرب – بغداد.
مسرحية "خلاف" احد عروض مهرجان بغداد الدولي للمسرح،وهي مسرحية عن أحد أوجه التطرف الإيديولوجي باسم المقولات الكبرى او السرديات الكبرى بتعبير فرنسوا ليوطار، وهي عرض من  تقديم الفرقة الوطنية العراقية  للتمثيل، تأليف وإخراج مهند هادي، وتمثيل الفنان هيثم عبد الرزاق، سهى سالم ومرتضى حبيب . المسرحية تطرح قضية  في غاية الأهمية والراهنية وتحاول من وجهة نظر معينة أن تشرح اسباب التطرف الراديكالي وتجلياته  ثم نهاياته العدمية وتكشف من خلال حكي شخصيتها المركزية السيدة أمل الأم التي تخوض عقدها السادس والمفجوعة في فقد ولها الثلاثيني الذي اختفى في ظروف غامضة على أحد الشواطئ التركية. 
فكيف عبر الفنان مهند هادي كتابة وإخراجا عن هذه القضية الحساسة التي أسالت كثيرا من مداد الكتاب والمسرحيين ؟ 
ما مميزات عرض خلاف على مستوى التحقق المشهدي و الركحي ؟ 
ينفتح   المشهد العام على ركح  مستطيل فارغ إلا من علبتين  / خزانتين /  أو منفذين سيساهمان من خلال تحركات مضبوطة وفوق تربيعات الأرضية في تشكيل المشاهد واللوحات اللاحقة، توحي الإنارة الرأسية أيضا إلى أنه فضاء مستطيل معزول افتراضيا وكل حركة فيه ستكون مدروسة بشكل مسبق ولها معنى والتحرك خارج هذا النطاق المحدد سلفا غير وارد أيضا مما يعطي شعورا بكونه فضاء مغلق رغم انفتاحه فلا يكون فيه سبيل للخروج..هو فضاء أيضا متطور ومتحول يشكل المنزل أحيانا، الغرفة، الشاطئ، مخفر الشرطة وفضاءات رمزية أخرى تحاول إعادة خلق الإيهام بالواقع ليس إلا. 
سينوغرافيا تم الاعتماد على إسقاط ضوئي رأسي في الغالبية العرض يسمح بهيمنة الظلام كما يختزل ظلال الشخصيات في بقع سوداء تقزم حضورها الفيزيقي في الفضاء وتختزل وجودها فيما ينبعث من أصوات وعبارات، كما ترهن هذه الإنارة من  قيمة الزمن  وتسجن الشخصية في مكانها وزمانها و تلف المشهد ببرودة تقتضيها المشاهد أحيانا وتترجم توثر العلاقات الانسانية   بين شخصيات المسرحية الرئيسة، خصوصا أن الضوء المنبعث يميل إلى الألوان الغامقة التي غالبا ما  تمتصها الخطوط اللاصقة على الأرض فتطبع المشهد كليا بجو من الكآبة والحزن الذي ينذر بالمأساة، كما يترجم رمزيا عمودية الخطاب الايديولوجي وتعتيمه على ما سواه. 
إن الإسقاطات الضوئية في هذه المسرحية تجاوزت وظيفة الإنارة إلى وظيفة اقتراحية وتعقيبية أحيانا تضيف للمشهد معنى أو تفسيرا معينا كالتعبير عن الوحدة والعزلة التي تعيشها الأم  أو ذكريات الماضي التي تؤرقها وليس هذا فحسب وإنما أيضا تحكمت بشكل جيد في إيقاعات العرض وتنامي الحدث مادمنا هنا إزاء  حدث تطوري تتكامل عناصره وتتضح أركانه مع تطور العرض.
التوظيف الصوتي كان في مجمله على شكل إلقاء مباشر على لسان الشخصيات المحورية سواء في استرجاعات أو حوارات في العرض.  كما كان جزء كبير منه منبعثا عبر مكبر الصوت ويتعلق الأمر هنا بكل المقاطع السردية التي تلم فصول الحكاية وتجمعها فسقطت في فخ ملء فراغات العرض، صياغة المعاني الواضحة، بمعنى آخر أن الرؤية الاخراجية رغم تبنيها لنمط أقلوي يختزل الديكور وقطع الأثاث الا أن الصوت غطا على كل الفراغات فأضاع على المتلقي فرصة البحث وإمكانية افتراض تأويل للحلقات المفقودة  فجاءت كلها مصرح بها متسلسلة ومتكاملة البناء على لسان ساردها المفترض أحيانا أو على لسان الشخصيات  قبل لعب المشاهد .. 
الممثلين بدورهم قد تحكموا جيد بمفاصل الحوارات والكلام وايقاعاته ولحظات الصمت والسكون نظرا لحرفيتهم وتمرسهم وخبرتهم الفنية.
توظيف الصورة والفيديو كان حاضرا في العرض هذا، صحيح أن المخرج  لم يستعن بوسائط لعرض الصور أو الفيديو الكلاسيكية المعتادة في العروض والتي غالبا ما تكون في خلفية المسرح أو أرضيته ،  لقد استعان بثوب شفاف في أعلى الركح يسمح بمرور الاسقاطات الرأسية للضوء و يشكل شاشة معكوسة  عرضت عليه صور لمقطع فيديو  المد والجزر بشكل رمزي  وفي ذلك اجتهاد  يجعل المتلقي مرغما على مشاهدة الصورة لكن في اتجاه غير مألوف بشكل مقلوب  فيبقى تركيزه على صوت الممثلين لا على أجسادهم، وهو يحاول فهم الصورة المبثوثة.
 علاقة الممثل بالفضاء 
لقد ادى الحضور الحي للممثلين على حشبة المسرح وتحكمهم في الحركات والتنقلات على التربيعات التي تقسم المسرح لنطاقات وحدود الى استثمار مهم لفضاء الركح بل وتحقيق فعل المسرحة .. رموز العرض كانت واضحة تماما وواقعية،  صحيح أن الحكاية احتفظت بحل لغزها -إن صح التعبير- الى الأخير لكنها لم تتوان على التبدي سريعا أمام المتلقي كل مرة  لتجده يفترض الحدث احيانا قبل وقوعه .. 
علاقة الممثل بالمجموعة  كانت في تكامل فوق الخشبة وأحيانا ما كانت نفس المقاطع تؤدى من طرف شخصين أو أكثر في بعد تضعيفي لوجود الشخصية ولو ان المتلفظ واحد غير متعدد. حركات المجموعة كانت منسجمة خصوصا لما تقتضيه من دقة في التحركات فوق الخشبة واحترام النطاقات المحددة التي ترسمها الاسقاطات الضوئية وتفرض اتباعها بشكل مطلق .. وهو في رأيي اختيار إخراجي عكس جماليا  جوهر فكرة العرض الا وهي الأدلجة وما تفرضه من تعبئة   للأفكار وتعليب للمواقف  وإغلاقها للأفق،  إنها سطوتها تجثم على حرية الشخص فردا أو جماعة وتوجه حركته وقوله وموقفه حيث يدري ولا يدري. 
هذا العرض جمع بين أكثر من رؤية إخراجية وبين أكثر من رؤية..فبما  أننا كنا إزاء محاكاة تقترب من الواقع في كثير من الأحيان، فالأمر يتعلق باخراج واقعي في جملة من المشاهد.. 
وفي أحيان أخرى تم الاستعاض عن الواقع  ومحاكاته بحضور علاماتي قوي ، كالعلامة الحمراء التي انعكست على الشاشة الكاشفة في سقف الركح لحظة بوج الشخصية كانت ستلخص فصولا وفصولا من الكلام لولا هيمنة الملفوظ الذي كان يشرح ويوضح كل شيء وبتفصيل. إن الاخراج هنا لم يستعن بمادية النص ولم يقم بتشريحه بقدر ما استعان بعباراته وكلماته ووجد لها تمثيلا على خشبة المسرح وتحقق بصريا ممكننا ولهذا كان الاخراج في خدمة النص وتابعا له في مجمل لوحاته.
العلاقة بحقبة الكتابة.. 
خلاف هو عمل  راهني في اختياره الموضوعي، فمجتمعاتنا اليوم أكثر من ذي قبل لازالت تتخبط في غياهب العدمية والتطرف الديني والايديولوجي  والسياسي، وهو عرض يعيد تشكيل الفكرة وينتقدها من خلال ازدواجية البناء والهدم ( التطرف اليساري وكيف تشكل مع أمل الاشتراكية التي آمنت بشكل مطلق بكل ما عُبئت لأجله من طرف والدها ورفاقه اليساريين.. ثم التطرف اليميني وتشكله عند  كاميلو بدأ من مشاهدة مقاطع فيديو عبر يوتوب ومواقع التواصل وصولا للاستقطاب ضمن الجماعات السلفية الجهادية والانتحارية .. ) وانتهت المسرحية الى شرح وفضح المسكوت عنه  الا وهو مراقبة ورعاية السلطات والجهات العليا  لأشكال التطرف لحماية مصالحها من خلال استغلال هذه الجماعات الجاهلو بأسس اللعبة في الحرب ضد أعدائها لضمان استمرارها في أعلى مراتب السلطة.
فكرة العمل في مجملها تبدو مؤرقة لفكر كاتبها تنتقد كل اشكال الأدلجة والقولبة الفكرية والتحنيط القيمي، ويعتبرها وسيلة للقتل لا التنوير والحلم .. لأنها سلاح يأتي على صاحبها ويقتله سواء موتا عضويا ككاميلو في المسريحة أو كموت أمل اليسارية الاشتراكية التي ماتت  روحا وجوارحا بعدما سقطت فريسة سلطة انتقمت منها واخرست لسانها الذي طالما كان مزعجا .. الافكار الرنانة والاديولوجيات البراقة لا تنتهي بصاحبها بالضرورة  الى تحقيق أحلام وردية  وولوج الجنة سواء في الحياة  او الاخرة. وانما تنتهي بصاحبها في النهاية  الى العدم سواء كانت باسم الدين أو السياسة أو القيم أو الحرية .. 
العمل أيضا ينتقد قوالب التربية والتوجيه المفرط للابناء في تبني اختياراتهم الحياتية  ( رفض تربية الجد القاتل / الام القاتلة / الابن القاتل ..).  ورفض كل اشكال تحنيط الفكرة وتأليهها ممهما بدت شاعرية وحالمة وعاطفية .
*باحثة في المسرح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون