"هي الحرب" ..في العرض المسرحي السعودي"معرض الارجل الخشبية"للمخرج"د.مخلد الزيودي".
2022 ,24 أيلول
د.مخلد الزيودي ومحمد القواسمة ود. نجوى قندقجي
قراءة نقدية حول عرض "معرض الارجل الخشبية" قُدم خلال مهرجان صيف الزرقاء المسرحي العربي (21-28/ايلول-2022).
د. نجوى قندقجي :صوت العرب – الاردن.
الحكاية والبنية الدرامية
تخبر الحكاية المأخوذة عن المجموعة القصصية "دوزان" للكاتب الأردني يوسف ضمرة، عن فنان تشكيلي اسمه فرحان يحاول مغادرة بلدته التي دمرتها الحرب. وكان قد وثّق مشاهدها من خلال لوحاته التشكيلية، فطاردته أعين وأحاديث تجار الحروب، بحجة أنّه يسعى التشهير بهم. وهكذا تطلب منه نوال خطيبته أن يغادر البلدة على أول قطار، ويقيم معرضه لإيصال رسالته للعالم الخارجي، رغم أن الحرب أفقدتها ساقها واستبدلت برجل خشبية. ورغم إصرار فرحان على نوال أن ترافقه، فهي ترفض طلبه لتبقى شاهداً حي على ما جرى لها ولأبناء بلدتها، وتكتفي برسالة فرحان الفنان، فهو خير من يشرح قضيتهم التي وثّقها بصدق.   
يبدأ العرض بصفير القطار التحذيري ليعبر صوته، الفضاء المسرحي قاطعاً بمروره الفراغ والزمن، لتتشكل مجازياً مساحة للتردد القاتل تعيشها الشخصية، ولتجري أحداث المسرحية وتتوالى عندما يقف الإنسان عند تلك الحافة/اللحظة بين ضفتين/مفترقين لاتخاذ القرار والخيار، هل الأجدى البقاء أم الرحيل نحو عالم آخر مجهول. تخلق هذه الحيرة صراعاً بين الفنان وذاته أو ظلّ كينونته، لتتداعى الأفكار عبر مقاربة ذهنية للحرب، تبوح في نغمة وجع مكتوم، في بحث جدي يقدمه العرض عن كيفية مواجهة الحرب بالفن، والموت بالحياة. 
"هي الحرب" كما يعلنها فرحان، ليأتي الصدى على لسان ظله: أعرف إنها الحرب وإلا كيف يموت هؤلاء الناس؟ ولما يموتون أصلا؟ ومن أجل من؟، ولكن ما مصير الحب في زمن الحرب، والبلاد منحت نفسها للكراهية وباتت تلفظ أبناءها، بعد خنقهم بالخوف والفقد والتشرّد، مثلما يلهج به الفنان فرحان بلوعة وألم: "أخاف يا نوال من بلادي على بلادي... أخاف أنْ أغادرها أو تغادرني.. وهي أحبُّ بلادِ الله لقلبي". تبتلع الحرب أولادها كما فعلت مع فقدان شخصية سعيد، فالإنسان في زمن الحروب، قابل للموت بكل سبله وأنواعه: في انفجار أو في قوارب الموت، أو في حادث عبثي، وربما كان التورّط في الإرهاب، فقد تعدد الأشكال والأسباب وبقي الموت كمصير واحد أخذ سعيد، وغيره الكثيرين من مفقودي أبناء بلدته. 
هي الحرب، تقتل كل يوم، ليعيش الإنسان موتاً وكأنه بات عادةً وليس حدثاً، بل يُقتل الميت أكثر من مرة كما جاء في مشهد النعش المفخخ. وللمفارقة المؤلمة فإن الخشب الذي تصنع منه توابيت الموت، يُصنع منه الأرجل والأذرع الخشبية التي تساعدنا على المضي قدماً في الحياة، وهكذا تتحول أرواح البشر وأجسادها إلى عروض تجارية "اشتري تابوت والثالث مجاناً"، إنها معادلة الحرب الدامية بين جدلية الحياة والموت، والمُستمرة مع وجود تجّارها وأمرائها. فالأرجل الخشبية تتكاثر يوماً بعد يوم، والحرب كرةٌ نارية تتدحرج لتلتهم كل ما يعترض طريقها وتكبر لتصبح أكثر نهماً ووحشية.
في مواجهة هذا الفناء، لا يملك الفنان سوى فنّه ليحارب فيه، كما يصرّح "فرحان: لكل منا سلاحه في الحرب وهذا هو سلاحي". وترسو نهاية العرض عند ضفة وجدانية عالية، حين يرفض فرحان-الفنان المغادرة من دون ظلّه، من دون ذاته الموجِعة والموجوعة، إرثه المكلوم، الذي يأمره "غادر" فيصرخ في وجهه "لن أغادر من دونك"، وكأن حال نفسه تقول: إننا لا نعرف إلى أين سيأخذنا قطار الحياة، وإن كنا سننجح في الهروب من الحرب، لذلك يبقى ويختار البحث عن الأمل (الذي تمثّله نوال)، ولكن ليس قبل التصالح مع الذات، إنه السلاح الأهم للمضي قدماً نحو مواجهة حربٍ أشدّ ضراوةٍ، تجري خارج عن إرادتنا وأنفسنا وعلينا أن نخوضها. وهكذا تعود الشخصية وظلّها والعوارض المنزلقة وصافرة القطار المُنذرة، حول مساءلة طبيعة الوجود الإنساني ومعنى كينونته، لتبدأ دوامة الصراع من جديد، في استعارة لتمثيل لعبة الحرب وعبثيتها.
      يبرز العمل على النص الأدبي المقتبس بما يؤسس لنص درامي، يستنبط المفردات اللازمة لبناء آليات التمثيل والإخراج على حدٍّ سواء. لقد نجحت الدراماتورجية أن تدمج بين النفحة الأدبية الراقية، في مجازاتها وصورها المتضمَّنة في النص القصصي، وبين السرد الدرامي القابل للأداء والتجسيد، فقد دلّت الكلمات على الأشياء بمسمياتها، دون الوقوع في التنظير المباشر أو التسطيح، وجاءت بنية العرض على شكل لوحات درامية تمثّل الوجع الإنساني، وكأننا في معرض فرجوي، لمشهديات تنقل حالنا المعاصر.
مستويات الأداء وأدواته
      يقوم الأداء على تمثيل إزدواجية الأنا-الآخر، أي تجسيد الشخصية المادية وتلك الشخصية التصوّرية التي تعيش داخلها وتتصارع معها. حيث يتكرر السؤال "من أنت" كلما احتدم الخلاف بينهما، ولكن الصراع بين صوت العاطفة وصوت الحقيقة يتصاعد ولن يُحسم إلا خارج الخشبة، عندما يسمح بذلك الواقع، في تعبير مجازي عن انشطار الذات بسبب الحرب، وتزعزع الإرادة والأحاسيس والقناعات والأفكار والهواجس، التي تأكل الروح وتضنيها.
  تعطي الملابس المتشابهة إشارات أولى للتناظر، بل وتأخذ قطع الملابس عبر الفعل الأدائي دلالات توحّد الشخصيتين، كما في تبادل القبعات، بين الرأسين، لأنهما رأس واحد، وما يدور بينهما هو ما يجري داخل ذات الرأس، من هواجس وخواطر وصراعات ذهنية، لتأتي هذه الإزدواجية صراحة عندما تواجه شخصية الظلّ صاحبها، فيقول: "أنا أنت"، لينتقل ارتكاز المحور التناحري إلى مستوى آخر، في ارتقاء لولبي، بين خطين يحملان رؤية مختلفة، تجاه ما يعبران من مشهديات، تمثّل الواقع المحيط بهما.  
ومن جهة أخرى، جاء بناء التمايز بين الشخصيتين من خلال الأداء الصوتي والحركي على عكس التماثل في الشكل الخارجي. فكانت شخصية فرحان تولي الثقل المادي أداءاً واقعياً بمعنى الحضور، حيث الحركة محدودة المساحة، تعتمد الإيقاع الأبطأ، وطريقة الأداء تميل إلى الواقعية الموزونة حتى في حالاتها الإنفعالية الحادة، على عكس الشخصية المتخيّلة التي قام أدائها على حركة واسعة تفوق حيوية وحرية، وتلاعب انفعالي متقلّب، يدعمه في ذلك أداء صوتي متنوع في تنغيماته وطبقاته التصاعدية. ساعد هذا الإختلاف الأدائي على تكثيف درامية الشخصية وإبراز ملامحها المتباينة في صراعها ضمن عالميها الداخلي والخارجي، ليأتي التجسيد انسيابياً بين هذين العالمين، يقدّمه الممثلان بمهارة ما بين الداخل والخارج، فشخصية فرحان الموجودة في الواقع تبدو منكفئة على ذاتها وأوجاعها، بينما تبدو شخصية الظلّ هي من تريد أن تكسر جدران الوهم داخل عالم الشخصية النفسي، لتأخذها إلى الحقيقة-الواقع.   
لم يمنع هذا التمايز من الإنسجام الواضح ما بين الممثلين في تقنيات الأداء وتنوعاته، عند تقمّص الشخصيات الأخرى في لوحات متعددة، كما في مشهد تجسيد شخصيات تجّار الحرب ومشهد احتمالات اختفاء سعيد، إذ قام الممثلان بالخروج عن شخصياتهما وارتداء شخصيات مختلفة، بعض منها نسائية جاءت بنكهة كوميدية، حيث تجدر الإشارة إلى تطعيم الحوار بالعامية ما يكسبه طابعاً حياتياً ومصداقية واقعية مؤثّرة جداً.
اتسمت هذه التعددية في تمثيل الشخصيات بآلية أدائية مختلطة، جاءت بتلقائية وسلاسة في الإنتقال ما بين الحالات الدرامية الخاصة بحكاية الشخصية المحورية من جهة، وتجسيد الشخصيات الأخرى من جهة أخرى، ورغم هذا الأداء المتميز بتنوعه، فقد كان مدهشاً أيضاً كيفية الحفاظ على البعد النفسي للشخصية، وثباته عند تصاعد الإنفعال التدريجي لتجسيد الصراع ما بين الشخصيتين وما يتطلبه، أي حسب ما يسميه ستانيسلافسكي "خط الفعل المتصل"، ولكن دون الغوص أيضاً في ميلودرامية الأداء، والتي عادة ما تكون مغرية لكثير من الممثلين عند تقديم موضوعة الحرب، وكأن هناك مسافة شبه ملموسة تجاه المحتوى، ما يعطي الأداء نفحة تغريبية بريختية أيضاً.   
استطاع الممثلان الشابان (محمد آل محسن وكميل العلي)، أن يجسّدا برشاقة مستويات متنامية في الحالة الحسية، فقد برزت مهارة التعامل مع الغرض المسرحي، بما يحمله من دلالات متعددة مثل رقصة الشخصية الظل مع الوشاح، وتعاملهما مع الكراسي، فهي سلاح وعصا، وهي أرجلنا الصلبة الباردة البديلة، عندما نفقد أعضائنا العضوية الحيّة، كما تمّ تقديم المهارات الحركية في مشهد الركض وفي المشهد التعبيري عند دفاع شخصية فرحان عن لوحاته وسلاحه الأوحد، ألا وهو فنّه. وكان لافتاً مشهد تشييع الميت في أدائه الصوفي المبهر في تصاعده، حيث برزت مهارة الممثل كميل العلي الصوتية في الإنشاد، مما رفع المشهد إلى مستو يرتقي نحو مناجاة الله، أمام ما يرتكب الإنسان بحق إنسانيته.
الرؤية الإخراجية ودلالات المشهدية البصرية
تعتمد سينوغرافيا العرض المشهدية الشرطية كإطار للتجسيد العام، مما يجعلها بيئة غنية لتوالد التعدد الدلالي، على شكل متواليات فرجوية تحاكي طبيعة المدلول أدائياً، وتمنح حضوره معنى مغايراً ومتعدداً. وقامت الرؤية الإخراجية بالعمل على جميع المؤثرات الصوتية والموسيقى والإضاءة وقطعتي الديكور المتحرّكتين بشكل متناغم ودلالي بما يتناسب مع موضوعة العرض.
يواجهنا ضوء القطار القادم وصافرته في بداية العرض، يترافق مع قدومه إطارين حديدين على عجلات، هما على مستوى الاستخدام العملي بمثابة مشجب لتعليق إكسسوارات الشخصية اللازمة، وفي الشرطية المسرحية هما قاطرتين افتراضيتين، يأخذنا الإفتراض الدرامي عبرهما، إلى مساحات غير متوقعة وأحياناً إلى مسارات مغلقة، ليذكرنا بالخيار ما بين البقاء أم الرحيل، المواجهة أم الهروب، الحقيقة أم المجهول. إن انزلاق قطعتي الديكور -العارضتين الحديديين- على الخشبة، يمثّل انزلاق قطار الحياة الذي يشقّ القدر الإنساني  ويتحداه. 
وعلى المستوى البصري، تشكّل هذه العوارض بأقمشتها المعلّقة ساتراً، تختفي وتظهر من ورائه الشخصية في قطع فاصل بين حالة درامية وأخرى، وبين مشهد وآخر، إنها لوحات لمساحات حسيّة وانفعالية متتابعة تحمل كل منها ذروتها، مضمونها، معناها، كما تجلّت في رقصة الموت مع النعش في دلالة على وحشية الحرب وما تخلّفه من وجع وقتل وفقد وجشع. وهي أيضاً إطار لوحة الفنان المتخيّلة، حيث نراه يحمل فرشاة الرسم، يصارع هذا الفراغ ليعكس عالمه الداخلي المأزوم والحائر والمتآلم، دون أن تظهر للعيان رؤاه المرسومة على القماشة المعلّقة، وكأنه يرسم في الهواء، حيث فقدت الأشكال ظلالها وتوارت معانيها، وباتت الأماني أشبه بالسراب. 
وكانت الإضاءة مفردة بصرية تبرز الفعل المسرحي على المستوى الدرامي والدلالي أيضاً، كما جاء في تحديد وتأطير مصادر انبعاث الضوء ضمن أشكال مستطيلة في مقاربة لمعنى اللوحة، وكذلك كان فعل الموسيقى سواء في تكثيف البعد الحسّي للحظة الدرامية، أو في ملء الفجوات الإيقاعية بين اللوحات المشهدية، وكانت المواد المُغناة لا تنشد التنغيم المُطرب بل الأداء العاطفي الصادق متماهياً مع طبيعة العرض الدرامية ومقولته.
في كلمة ختامية، استطاعت الرؤية الإخراجية من قبل الأستاذ الدكتور مخلد الزيودي أن تبني عرضاً مكتمل العناصر، حيث برز أداء الممثل والكلمة والتعامل مع الغرض المسرحي والحركة والغناء والمؤثّرات الصوتية والبصرية، وجميع هذه المفردات تناغمت بشكل متوازن لتنقل فكرة جنونية. ومن الجدير الإشارة والإشادة بأداء الممثلين الشابين (محمد آل محسن وكميل العلي) اللذان أثبتا في هذا العرض أنّهما يخطوان بشكل ثابت نحو عالم الإحتراف.
ويبقى المحزن والمؤسف في واقع الحال، أن عالمنا مايزال يغلي بالحروب والبشرية مُهددة بالفناء، ولذلك "سيبقى هناك معرض للأرجل الخشبية..طالما هناك حرب"، "هي الحرب" كما صرخ الفنان الموجوع، الذي لم يثنه ألمه عن البقاء لتكون صناعة الفن في وجه صناعة الموت، وكذلك نحن، سنبقى على أمل، عسى مستقبلاً أن نشهد عرضاً مسرحياً لا يحمل عنواناً مستتراً "هي الحرب" بل "هي الحياة". 
المسرحية كتابة وتمثيل كميل العلي ومحمد آل محسن،وسينوغرافيا وإخراج د. مخلد الزيودي
 
 
 
د.نجوى قندقجي- المعقبة على المسرحية.
لقطة من مسرحية الارجل الخشبية
لقطة من مسرحية الارجل الخشبية
لقطة من مسرحية الارجل الخشبية
لقطة ل جمهور المسرحية
لقطة من مسرحية الارجل الخشبية
لقطة من مسرحية الارجل الخشبية
لقطة من مسرحية الارجل الخشبية
لقطة من مسرحية الارجل الخشبية
لقطة من مسرحية الارجل الخشبية
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون