نص مسرحية "ميدان القمقم"... تأليف "د.سامح مهران".
2022 ,10 حزيران
الدكتور سامح مهران.
 
*د. سامح مهران: صوت العرب – القاهرة.
 
 
استهلال .
د.سامح مهران،احد نجوم الكتابة المسرحية، موسوعي المعرفة،وضع لنفسه طريقا بعيدا عن المألوف وخارجا عليه، ولعل افضل من اقترب من توصيف شخصية وابداع "د.مهران" هو الناقد الادبي " عبدالقادر حميدة"، الذي قال عنه ""يدهشني سامح مهران- أستاذ الدراما بالجامعة، والكاتب بالمسرح التجريبي- بمعارفه الموسوعية، في مجال الثقافة عموما، بأفرعها المتعددة. وفي مجال المسرح على وجه الخصوص. مثلما تدهشني ذاكرة سامح مهران، ببراحها الشاسع المترامي، وامتلاءاتها المترعة بخلاصات العلوم الإنسانية، وهي في توازيها، وجريانها، واتساقاتها الفكرية.. مشعة بالنور، ساعية بأشواقها إلى سبر أغوار الإنسان، وفهم الكون. ومما يدهشني أكثر أن هذا الفنان المهموم بتحصيل المعرفة من ينابيعها الصافية، بكل هذا الظمأ، والترقب للجديد، المثير، والمدهش للعقل واع، ومتوفر إلى مغامر السباحات الطويلة، في المحيطات العميقة، المتلاطمة بأمواج الثقافات العالية، وتيارات المدارس الفنية المتصادمة! إنه مجبول بسجايا المبدع المفكر، تجاه التجوال المفترس في أروقة العقول المبدعة بالفكر. المفكرة بالإبداع مهتديا بمصابيحها على طريق الكشف عن جوهر ذاته المبدعة، في مدارجها العليا.. كاتبًا مسرحيًا، من فصيلة المغامرين بالتجريب" .
ويسعدنا في "صوت العرب للثقافة والفنون" نشر مسرحية" ميدان القمقم" للدكتور "سامح مهران".
 
المشهد الأول
في قاعة المرايا
حفل راقص. الملك والملكة كل منهما غارق في عالمه الداخلي. يراعى أن تعكس المرايا التي تحيط بالقاعة ملامح الملك والملكة، التي تتغير مع أو وفقًا لعالمهما الداخلي.
الملك: (في داخله وعبر البلاي باك) لقد وطأتها، فلم أحس بجسدها يصدق في معاشرتي، لم يرتعش، ولم يخبرني إلا بكوني غريبًا ينكح غريبة في ليلة ظلماء تغيب فيها الملامح، ويتردد في جنباتها صوت الصمت.
الملكة: (في داخلها وعبر البلاي باك) هذا التاج اعتلاني كجسد جامح، يستبيح ساحة اكتسبها كغنيمة حرب، جسد يصرخ في كل لحظة أنا الملك.
الملك: ليتني كنتُ رجلاً عاديًا، فأرى لمعة في عيون حبيبتي فرحة بساعة اللقاء.
الملكة: تباً لك كراسي الحكم أمام لحظات مسكونةٍ بالشوق، مسربلةٍ بلهفة اتحاد جسدي ينطوي فيه العالم الأكبر.
الملك: يبلغني أسوأ الظن أنها تكرهني
الملكة: ليته يموت، فأبعث من جديد.
الملك: ماذا لو أقمت في عالم غير مألوف لدي؟! عالم أكون فيه إنسانًا يعشق ويُعشق، يغضب عندما يعن له الغضب، لا يحسب خطواته، لفتاته، إنسان يستجيب لنبضه الداخلي، فيسكن في قلوب الناس، وتسكنه أمنيات وطموحات الناس.
الملكة: القليل من الفوضى تنعش القلوب المترددة، الخائفة، التائهة، فتنفلت من إسار زيفها إلي حبيب يختطفها إلي أراضي برية ممسوسة بالرغبة.
الملك: تبًا لسلطان التقاليد.
الملكة: تبًا لسلطان التقاليد.
(يظهر الملك الأب في كفنه، يتوقف الرقص ويبدو كلوحات منفصلة، حين يتكلم، وبين الجملة والأخرى يتحرك الراقصون وتتغير اللوحة بتغير أوضاع الراقصين)
الأب: يبدو أن الخمر قد لعبت برأسك!!
الملك: لطالما وددت أن أتخلص من إرثك الثقيل.
الأب: رسمت لك الطريق، الذي إن سلكته لن تضل من بعدي أبدًا.
الملك: أبحث عن طريق أعبده بسيري فيه.
الأب: من فات قديمه تاه يا بني.
الملك: هذا كلام الموتى، فعلى هذا القديم أن يثبت جدراته في المكان والزمان الجديدين.
الأب: أنت فى غنى عن ألعاب الكلام التي يجيدها كل من حمل كتابًا تحت إبطه.
الملك: لن أكون نسخة ناطقة منك، ينبغي أن أعيد اكتشاف اللحم والدم الذي أحكمه.
الأب: البشر فى كل مكان وزمان هم البشر، مجرد أفواه فاغرة نهمة، بيولوجيون لا يجيدون إلا التبرز والتناسل، ينفرون من التميز ويرهبون السوط والسلاح، فقط أطفئ المصابيح، ستجدهم على الفور يسرقون كل ما تقع عليه أعينهم وأياديهم.
الملك: أنت وحش وضعوا على رأسه تاجًا.
الأب: الوحش فينا كامن أيها الملك، ويجب أن يبقى على أهبة الاستعداد.
الملك: رائحتك كريهة تزكم أنفي.
الأب: ليتها تزعج عقلك، فلا يطمئن حتى لوسادته، فالشك يا بني هو قاعدة الحكم الأولى.
الملك: والحاكم الهين فتنة، وهذه قاعدة الحكم الثانية.
الأب: ولو اقتضى الأمر استقرار العرش وأمنه....
الملك: (مكملاً الكلام الذي سمعه من قبل) قتل ثلث أو ثلثي الشعب فلا تتردد، فهكذا أفتى الإمام ابن مالك، كلام سكبته في أذني آلاف المرات.
الأب: كلام جميل خرج من رحم التجربة.
الملك: لماذا لا تلزم قبرك؟ ارحل ودعني أدبر شئوني بنفسي.
الأب: سأرحل، لكن ليس قبل أن أهبك بقاءً أمنًا مستقرًا، فلا شيء يريده الآباء إلا أن يكون الأبناء أكثر منهم منعة وقوة وا وا وا وحصانه
الملك: أراك تتقمص الآن دور الظل الخبيث، فأقبح الأشياء تلبسها أجمل الثياب.
الأب: سمنى ما شئت من الأسماء، فلا فرق عندي أن أكون مرشدك أو شيطانك.
الملك: آه..، فالمهم عندك أن يسيطر الموتى على الأحياء.
الأب: هؤلاء الموتى الذين تسخر منهم الآن، حكموا بنصوص تحمل توقيعات الله، فهل تود إزالة التوقيع؟
الملك: يا لك من لاعب ماهر يسير على كل الحبال، أتهدد الآن بتكفيري؟
الأب: من حقي استخدام أمضى الأسلحة، كي تصير رابط الجأش، مكين، مستوٍ على عرشك، غير مأخوذ بشفقة على من هم دونك، أن تعطي بقدر وتمنع بقدر، وأن تعلم أن لكل إنسان موقع وخانة، لا يجب ولا يجوز أن يتخطاها، فتختلط المواقع، وتضيع الهويات، وتعم الفوضى (يذهب الأب ليجلس على كرسي العرش).
الملك: (يجلس في حجر الأب) كيف أتخلص منك؟
الأب: عندما أكون أنا أنت، وتكون أنت أنا.
الملك: (ينهض من على حجر الأب) لقد تغير العالم، وتغيرت الشعوب، وعلينا نحن أن نغير من أساليبنا في الحكم.
الأب: الشعوب.. الشعوب.. الشعوب، ما تفتأ تردد هذه الكلمة، هذى الشعوب تجد دائمًا من يحركها ويدفع بها إلي المحرقة، إنهم مجرد لافتات للإيجار، انظر إليهم وتمعنهم جيدًا، فهم يخافون القوة ويتمنونها، القوة نقطة ضعفهم ومبلغ أملهم، نفوسهم مخادعة، كنمور تتزيا بزي الكلاب، يظنونك غافلاً أو سكرانًا، وفي أحيان كثيرة أو قليلة عليك أن تجعلهم يحسنون الظن بظنونهم، فلا يدركون ما يبصرون، الشعوب لا تمل أبدًا اللعبة القديمة (يظهر جزرة من داخل كفنه، يتطلع إليها راقصو الحفل ويتقدمون إليها، فيبتعد الأب عنهم) أفلا يتفكرون ولو قليلاً، اللعبة هي نفسها (يضع الجزرة في كفنه مرة أخرى) والجزرة تبقى على حالها كسراب يشد إليه كل طامح أو طامع لا فرق. كم أود أن أقتلهم جميعًا، ولكن لا بد لكل ملك من شعب يحكمه، ووزراء وإدارة مهمتهم الوحيدة تتلخص في حماية الجزرة أو السراب، فهلا فهمت يا بني؟
الملك: كيف كانت أمي معك، أتزوجتك أم تزوجت الكرسي؟
الأب: أنت والكرسي كيان واحد، هو ردائك، إن نزعته بت عاريًا كرجل صوفي أخرق انسلخ عن جلده.
الملك: أأحبتك يوما ما؟
الأب: النساء يردن كل شيء، السلطة والثروة والفحولة، وكلها متع تتقنع عندهن بما يطلقن عليه الحب.
الملك: ألم يشاطرك أحدهم النبع الذي ترتوي منه؟
الأب: الينابيع كثر، والقصور تغلفها أستار وحجب، تخفي أسرارًا ومؤامرات، فإذا ما طلبت النجاة، عليك ألا تكشف عن شيء أخفاه الله عنك، فقط دع الأشياء تكشف عن نفسها بإذنه تعالى.
الملك: تتحدث كإنسان قُدَ من صخر.
الأب: كل من يقترب منك يريد أن يختلس ورقة من الشجرة الوارفة، وعلى تلك الشجرة أن تبذل أوراقها للطامعين، شريطة ألا يطمعوا في الشجرة نفسها، فإن فعلوا، قطعت الأذرع الطامعة.
الملك: أريد أن أحب وأُحب.
الأب: هذه مشاعر الأنقياء الأتقياء، وهي لا تليق بمن يجلس على العرش ويحكم. هؤلاء الأنقياء الأتقياء الذين جبلوا على الصلاح والعطاء، يحط العوام من شأنهم، فهم بممارساتهم النبيلة، جروح لا تندمل في نفوس العوام الذين – وفي كل لحظة – يرون نقائصهم في مرآة أولئك الصالحين. العوام أيها الملك يلتصقون أشد الالتصاق بك، إذا كانت أخلاقك هي أخلاقهم، ومباذلك من جنس مباذلهم، وفي مثل هذه الحالة فإذا ما فكروا في التضحية بك، فكأنما يضحون بأنفسهم.
الملك: هل أنت من ماء وطين مثلنا؟
الأب: أنا من ماء وطين ووسخ.
الملك: بهذه البساطة؟!
الأب: بل بهذه القوة التي تجعلك تهبط على رؤوس الجميع، فتقبع فيها ولا تغادرها فتصبح أنت الماضي والمستقبل، أنت الزمن والتاريخ.
الملك: لطالما اعتقدت أنني من نسل الطيور المجنحة، وها أنت تغرقني في مياه آسنة.
الأب: هذه المدن أعرفها وتعرفني، كلما ألقمتها حطبًا، طالبت بالمزيد.
الملك: غدًا سينادي المنادون بأن الملك قام بثورة على حكمه وحكم أبيه الملك الراحل – رحمة الله عليه – وعلى الشعب المعلم الأول للملك الحالي أن يختار من بين صفوفه الوزراء والخبراء المنوط بهم قيادة البلاد نحو التغيير والإصلاح المنشودين.
الأب: (ساخرًا) اللهم إني استودعتك نفسي وذريتي، فأحفظهم حفظًا يليق بعظمتك.
الملك: من أنت؟ أرجل دين أم رجل سياسة؟
الأب: وما همك فيما أكون، فأنا لك ولست عليك في تفهم النوايا الخبيثة للتاريخ التي تحول بين الحاكم والسير في اتجاه بعينه.
الملك: ها قد عدنا للعب ثانية.
الأب: والله إنك لولد غر، لا يفهم من الأمور أبسطها، عندما نلعب نتمكن، نكشف، نزيل الأقنعة، تفضح الانتماءات نفسها، نثير الفوضى، ثم سرعان ما نجنح إلي النظام بقوة أكبر في حدتها وجبروتها، فلا يخدعنك هتاف القوم بالوطن، فالقوم في السر غير القوم في العلن، هكذا قال شاعر أريب.
الملك: سأتحملك لعدة أسابيع، لن تنقص أو تزيد، لكنك لن تبرح قبرك بعدها أبدًا.
الأب: قبل أن أتوسد قبري سنروح جيئة وذهابًا بين الغابة والماضي القريب.
الملك: لماذا الغابة؟
الأب: هناك سنكمن حتى ينبلج نور الحق.
الملك: هيا بنا من الآن (يغادران قاعة المرايا).
إظلام
المشهد الثاني
(مسرح أسود، تبدو فيه الأشجار ثلجية، ويظهر الأب ككفن متحرك، في حين لا يبدو من الملك إلا رأسه فقط. يظهر أسد ثلجي يصطاد وعلاً)
الأب: انظر كيف انقض الأسد على الوعل.
الملك: الوعل لا حول له ولا قوة.
الأب: انتظر وراقب جيدًا ماذا ستفعل كائنات أضعف كثيرًا من الوعل بالأسد.
الملك: بالفعل، فها هو غراب يهبط وينعق في مواجهة الأسد.
الأب: الآن سيزأر الأسد، فيطير الغراب إلى من حيث أتى.
الملك: عاود الأسد انشاب مخالبه في لحم الوعل المسكين.
الأب: لكن اليوم ليس يوم الأسد، فثمة غرابان آخران يريدان مقاسمة الأسد في وليمته التي اغتنمها بقوته.
الملك: أتسمع، عاد الأسد وزأر من جديد في وجه الغرابين، فطارا إلي أعلى الشجر.
الأب: الأسد يتهيأ من جديد للنيل من الوعل.
الملك: الحظ التعس يحالف الأسد، أعداد من الغربان تحط على فريسته.
الأب: نعم، وهذا ما سيجعله يترك استحقاقه لمن هم دونه، فحذارًا من الكائنات الضعيفة، فمن الطبيعة نتلقى أول دروسنا.
الملك: لكنا تركنا الغابة والتحقنا بالمدينة منذ زمن، والمدينة يحكمها القانون.
الأب: ما زالت روح الغابة تحتل رقعتها في النفس، وهي تبعث من جديد عندما تتراخى قبضة الحكم عن الصولجان.
الملك: ما رأيناه منذ برهة، يثبت أن القوة وحدها غير كافية.
الأب: ها قد بدأ عقلك في العمل، نعم فالقوة وحدها لا تكفي، إذ لا بد أن تسندها الحيلة في المدينة، لذا فلنسافر إلي الأمس القريب، لترى جدك من علٍ.
الملك: من علٍ؟
الأب: نعم من علٍ (يطرقع بأصابعه، فيهبط من السوفيته حصانًا مجنحًا) اركب خلف ظهري.
الملك: لم أر في حياتي من قبل حصانًا مجنحًا (يركب خلف أبيه)
الأب: أو لم تسمع عن الأحصنة المجنحة أبدًا؟
الملك: سمعت عنها في حكايات الجدات للأطفال.
الأب: في ثقافتنا لم نشاهد أي شيء، فقط سمعنا عنه، فتعلم أن تصدق أذنيك، فما تراه العين هو سريرتك وسريرتي وسريرة الشعب، وإلا انزلقنا جميعًا إلي الانحلال والفوضى. (يرفع الملك الأب يديه إلي أعلى داعيًا) اللهم إني وكلتك أمري فأنت خير وكيل، اللهم ارفع مقامنا في الدنيا، وأثلج صدورنا وأصلح ذريتنا وأنر بصيرتهم، ولا تمكن عليهم أحدًا ومكن لهم (يرتفع الحصان إلي أعلى.. يشير الأب إلي أسفل) انظر كيف تصرف جدك مع بعضهم.  (يظهر موكب ضخم، وعبيد يحملون كرسي العرش وعليه الجد، جموع الشعب على الجانبين. يلاحظ أن جموع الشعب بملامح بشرية، أما الملك الجد والحراس فهم بلا ملامح. يعترض أحد الفلاحين الموكب).
فلاح: أيها الملك، جلالتكم تلبسون الحرير، ونحن نلبس الخيش.
الجموع: هذا حق، نحن نلبس الخيش.
الفلاح: جلالتكم تنامون على ريش النعام، ونحن نفترش القش.
الجموع: العدل، العدل.
الفلاح: تسكنون القصور، ونحن نزلاء الأكواخ.
الجموع: عيش، حرية، كرامة، إنسانية (يظهر أحد الشيوخ من بين الجموع) يأسنا، يأسنا.
الشيخ: يا قوم، عندما يريد الله حربًا يدهشنا بالأسلحة التي يختارها للمعركة، صبي يهلك مُلكًا، ماء يغرق قومًا، بحر يدمر جيشًا، بعوضة تُذل نمرودًا، أرض تبتلع قارونًا، طيور صغيرة تطحن إبرهة. (للملك) والذي بدد جيشًا، لقادر على أن يبدد يأسكم.
قائد الحراس: مولاي، ثورة تلوح في الأفق.
الجد: (مخاطبًا قائد الحرس) البحار الهائجة تصنع بحارة جيدين (ملتفتًا إلى الجموع) حفظ الله الرفاق من كل فراق، آدام الله عليكم الصحة والعافية (يعاود الحديث لقائد الحراس) الجنة عروس، مهرها قهر النفوس.
قائد الحراس: معذرة يا مولاي، لم أفهم مقصد جلالتكم.
الجد: ضعوا في كوخ كل فلاح من أولئك الجاحدين المتذمرين، خنزيرًا وبضع دجاجات.
قائد الحراس: ما زال بيني وبين كلام جلالتكم حجبًا سمكية لا تكشف سر الخنزير والدجاجات.
الجد: أما عن الخنزير، فإنه إن تغوط، امتلأت الأكواخ بالقاذورات والروائح الكريهة، وأصبحت الحياة مستحيلة. فيتغير الأمل والهدف؛ ليصبح مبلغه فقط أن نزيل الخنازير من الأكواخ، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت.
قائد الحراس: وماذا عن الدجاجات؟
الجد: قال ابن القيم، كلُ من ألف ضربًا من ضروب الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه، فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى، فإذا ما أكل الفلاحون واقتاتوا على لحم الدجاجات صاروا يتناقرون في كل شيء ولا يتوحدون على أي شيء، فيتشتتون وتذهب ريحهم.
قائد الحراس: بحكمتك تختال علينا.
الجد: (ضاحكًا) ها ها ها، هذه جملة ترددت في آذان كل الملوك، وتفوه بها كل قادة الحرس.
الأب: أحبط جدك الثورة في مهدها، فالقوة تسندها الحيلة.
الملك: لتبقى الثورة كامنة في الصدور كمرجل يغلي.
الأب: لن يرضى عنك الناس حتى لو أتيت لهم بجنات عدن.
الملك: وكيف إذن نرفع الظلم عن كواهل من يتبعوننا ونحن مناط أملهم ومبلغ رجاؤهم.
الأب: عالمنا مجبول على خالق ومخلوق، حاكم ومحكوم، ظالم ومظلوم، ونحن بين كل اثنين نميل إلي أحدهما تارة والآخر تارة أخرى، نروم توازنًا لن ندركه ما حيينا.
الملك: ثمة شر في الأجواء ينبغي القضاء عليه، والدال على الخير كفاعله يا أبي.
الأب: على المرء أن يسعى وليس عليه إدراك النجاح، فأوغل في الحكم برفق وإلا جرفتك الحياة إلي شواطئ مجهولة، هواؤها أسود.
الملك: إنما نعيش بالأمل.
الأب: بل يعيش الناس بالألم، يؤجرون عليه في الآخرة، وهو نعم الأجر والثواب.
الملك: هذا لا يعني أن نزيد في آلامهم.
الأب: بل نعلمهم أن العافية إذ دامت جُهلت، وإذا غابت عُرفت وأن الألم يذهب بسجدة وأن البهجة تأتي بدعوة.
الملك: داهية تتلاعب بالألفاظ وتسكنها المسكن الذي ترغب، وفي النهاية يضيع الطريق فلا نتقدم خطوة واحدة إلي الأمام.
الأب: ولماذا تخسر قديمًا ثبت صلاحه وصلاحيته على مر العقود، لا تضع قدمك في مجهول يبتلعك يا بني، أرجوك.
الملك: أراهن على المستقبل بحياتي وعرشي وكل ما أملك.
الأب: الرهان مفتوح على احتمالات المكسب أو الخسارة، ولكن السؤال الذي تعوزه الإجابة عندي هو كيف ستصل إلي ذلك المستقبل؟
الملك: ألم يحملنا حصانك المجنح هذا الذي نركبه الآن إلي الماضي، فليحملنا كذلك إلي المستقبل.
الأب: (وهو ينزل من على الحصان المجنح) هذا الحصان من إبداع الماضي، وإذا ما غادره يموت، يختنق، يصاب بالذعر، فقد يسخر منه أطفال المستقبل ويقذفونه بالحجارة، كما أننا سنعجز عن الوصول إلي مستقبلك المنشود بأدوات قديمة.
الملك: أما من وسيلة أخرى ترتحل بنا إلي المستقبل؟ فإذا ما مشينا إليه على اقدامنا خطوة خطوة فقد يستغرق ذلك عدة قرون وأنا أود القفز إليه دفعة واحدة.
الأب: على السواحل الشمالية من المتوسط، هناك رسامًا يدعى ليوناردو دافنشي رسم وخطط ونفذ آلة على هيئة طائر، وجربها وطار بها.
الملك: علينا بتلك الرسومات وتقليدها بدقة بأيادي صناعنا المهرة. يا لها من مغامرة أن نسافر في الزمن، ونرى أنفسنا في مرآة المستقبل.
الأب: قد يستغرق تصنيع آلة دافنشي عدة أشهر.
الملك: كف عن مناوراتك، اطمئن فلن انزلك إلي قبرك إلا بعد العودة من المستقبل واقتباس ما يصلح منه لحاضرنا.
الأب: أو تريد بالفعل أن اصطحبك في رحلتك العجيبة هذه؟
الملك: بكل تأكيد.
الأب: وما الدور المنوط بكل منا على حده؟
الملك: لا أعرف ليَّ دورًا حتى الآن، دعه يكشف عن نفسه من خلال التجربة، أما أنت يا أبي فدورك معروف، شيطاني الوسواس.
الأب: (مصفقًا) كم أحب دور الشيطان!!
الملك: ألهذا الحد تعشق هذا الدور؟
الأب: نعم، وهو دور مجيد، فلولاه ما عرفت الله.
الملك: غريب وعجيب أنت في ظاهرك وباطنك سبحان الله.
الأب: دعك منيَّ الآن، فلتفكر في أي هيئة سنذهب بها إلي المستقبل، فلا يجب أن يتعرف أحد على شخصياتنا الحقيقية.
الملك: هيا بنا نتنكر.
إظلام
 
المشهد الثالث
(الملك والأب يغطيان طائرة ليوناردو بملاءة بيضاء وتبدو من بعيد مبانٍ شاهقة لمدينة حديثة)
الأب: كيف طاوعتني نفسي على مرافقتك في نزوتك هذه.. كيف؟
الملك: هي الرغبة في البحث عما هو غائب عنك، ليصبح حاضرًا عندي.
الأب: من أين تواتيك هذه الأفكار التي تمرح بين حروفها وتعربد؟
الملك: (كاشفًا عما هو تحت جلبابه) من الأسفار التي أحملها تحت جلبابي.
الأب: أرجوك يا بني أرجوك، لا ترتكب الثقافة فهي لا تليق بالملوك وأبناء الملوك.
الملك: هذه الأسفار ما هي إلا مصابيح مضيئة في سبيل الوصول إلي الحقيقة.
الأب: حقيقة من؟
الملك: حقيقتنا نحن، حقيقة الشعب الذي نحكمه.
الأب: دائمًا أبدا تنهض الحقيقة على سلطة مصدرها التي هي نحن، فتعرش بعرشك أيها الملك، فالنفوس متربصة، والعيون متلصصة، والطامعون عملاء يوقظون كل فتنه نائمة.
الملك: دعك من حديث المؤامرة، انظر ما آلت إليه مدينتنا، مبانٍ شاهقة، وطرق مرصوفة.
الأب: شيء يسر الناظرين.
الملك: أشجار نخيل باسقة، ونهر يجري يفيض بحمولته على الزرع فيزداد اخضرارًا، كم أود أن افترش ذلك الزرع وأنام بجوار النهر، فتهدأ روحي المستنفرة.
الأب: فلتنم أنت وتهنأ، فما أنا إلا روح هائمة.
الملك: نسيت والله أنك ملك حيث لا تأخذك سنة من نوم ولا أملك عليك طولاً.
الأب: نم، وسأهش أنا عنك الذباب، وأحرس ذهبك.
الملك: آه.. صحيح لماذا أجبرتني على الاتيان بكل هذه الكمية من الذهب؟
الأب: الذهب يفتح المغلق، ويكسر الجامد، ويشق الصفوف، ويهزم المنتصر، يشتري كل بائع، يغلب ولا يغلب، ثم هو كلمة السر واللغة التي يتقنها كل لاعب، فقيرًا كان أو راغب في ازدياد.
الملك: جئنا إلي المستقبل طمعًا في تغيير الناس إلي الأحسن، والقيام على الباطل بهدف إصلاحه، لا لشراء الذمم.
الأب: لا تحفر قبورًا للكلمات غير الموافقات لما يعتمل في فؤادك الطفل.
الملك: (مغيرًا الموضوع) دعني أملي ناظري بهذا الميدان الرائع في مبناه.
الأب: في مبناه ومعناه، إذ يبدو لي الميدان كقمقم ضخم، ختم الله عليه لما يحتر به من أهواء مقموعة وأشواق ممنوعة.
الملك: بالفعل هو كقمقم، ولكني أراك تقحم الذات العلية فيما لا يجب ولا يجوز.
الأب: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه "صدق الله العظيم" انظر أمامك فإني أرى قومًا يحثون الخطو إلينا، ومن سابق خبرتي، هي فتن قادمة إلينا، أو نحن ماضون إليها، فقط دعني أتصدر المشهد والإجابة (يتقدم قائد الثورة إلي الرجلين ومعه بعض الأفراد).
قائد الثورة: أهلاً وسهلاً بالأخوان.
الأب: أهلا بكم، لقد كنا بأبتظاركم، فما بالكم قد تأخرتم؟!
فرد: (في الثورة) العيون ترقبنا، وأظنكم من العارفين بعسس الحكم، فهم لا يتورعون عن قتلنا إذا ما أحسوا بأقل حركة.
فرد: (آخر في الثورة) بل إنهم يقبضون الأرواح على نوايا أصحابها.
قائد الثورة: لا بأس عليهما، فقد أجادا التنكر.
الأب: هي هيئة تقطع دابر الشك من الأعين المتطلعة إلي الذهب الذي نحمله.
قائد الثورة: لم نطلب ذهبًا، فقط أموالا سائلة نملأ بها الأكف الممدودة، ونسد الأفواه الفارغة، ونحرك السواعد الكسولة.
الملك: (مندفعًا) والله هو نعم التدبير، فالبهائم تحتاج إلي برسيم (يضحك).
قائد الثورة: إذا كان ذلك هو رأي الأخوة في الخارج، وإذا كانوا ينظرون إلينا كبهائم تصنع ثورة..
فرد1: (مقاطعًا قائد الثورة، مسرًا له في أذنه) قد يكونا من المدسوسين علينا.
فرد4: (يزيح الفرد الأول، ويسر في إذن قائد الثورة) لا تتسرع يا أخي، أرجوك الحيطة الحيطة (ملتفتًا إلي الملك وأبيه) ما هي كلمة السر يا هذا؟
الملك: (ناظرًا إلي أبيه) كلمة السر!!
فرد2: نعم كلمة السر، فقط كي تطمئن القلوب.
الأب: مصحف وسيف.
قائد الثورة: أطفأتما نار الشك، وفتحتما دروب المحبة (يحتضن كلاهما) كل شيء على أهبة الاستعداد، والثوار في انتظار إشارة البدء بعد وفادتكما، فأبخرة الغضب تكاد تشق الصدور.
الملك: لا ينقصنا إلا حشو الجروح ملحًا لتنطلق كالسهام في وجوه أعداء الدين.
الجمع: تكبير.... الله أكبر..... الله أكبر.
الأب: (لقائد الثورة) كلفني الأخوة في الخارج بضرورة معرفة خطوات الثورة يومًا بيوم وساعة بساعة.
قائد الثورة: سنوزع أنصبة الذهب على الفرق التي تأتمر بأمرنا، ثم سننصب خيامنا حول ميدان القمقم الذي ترونه من على البعد، وفوق أسطح البنايات التي تحوطه، سيكمن القناصة المأجورين من قبلنا للنيل ممن يدسهم الحاكم بين صفوفنا، ثم تبقى المرحلة الأخيرة والأهم، وهي فض أختام القمقم ثم الحفر في طبقاته طبقة طبقة وإخراج ما في جوفه، فمن كان على نهجنا ومنهجنا يحرر ويعتق، ومن خالفه يختم عليه في القمقم مرة ثانية، وقبل كل هذا وذاك، علينا تصنيع الفوضى.
الأب: وكيف السبيل إلي تصنيع الفوضى.
قائد الثورة: ليس أمامنا إلا أن نعلو بالصوت كي نبلغ السيادة على الجميع، ثم ننال الزيادة منهم، وذلك عندما تطل القطعان برؤوسها التي أسكرتها رائحة ذهبكم (قائد الثورة مناديا) الشعب يريد إسقاط النظام.
الجميع: الشعب يريد إسقاط النظام.
فرد: فلنحرق قصور الأغنياء.
فرد: ونسبي نسائهم.
فرد: وننتهك حرمات دورهم التي بنوها من حبات عرقنا.
امرأة: ونفك أسر المحبوسين والمسجونين (ترتفع مشاعل النار في المباني المحيطة بواسطة أشرطة ضوئية بعد نثر الذهب فوق رؤوس الثوار).
الملك: (معتليا منصة) أيها الحشد الكريم، نحن لسنا غزاة؛ بل مصلحين، نبني ولا نهدم، فالتغيير لا بد أن يلازمه طهارة اليد والقلب واللسان، فانزعوا الكره من قلوبكم، واعتصموا بأصحاب القلوب النقية.
الجميع: لا دستور ولا قانون، الثوار قادمون.
قائد الثورة: الشعب يريد إسقاط النظام، لا دستور ولا قانون الثوار قادمون، أيها الحشد الكريم، أعدكم بالفوز في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا غنائم وفيء وعزة نفس ورأس مرفوعة على من سواكم، وفي الآخرة حور عين طولهن سبعون ذراعًا، تقضون وطركم معهن في سبعين سنة فلا يجهد القلب ولا يمل أو يكل البدن (هرج ومرج وحرق للدور).
الملك: أيها الحشد الكريم، البركة جند من جنود الله، فإذا حلت في المال أكثرته، وفي الولد أصلحته، وفي الجسم قوته، وفي الوقت غمرته، وفي القلب أسعدته، فكونوا طيبين مثل رذاذ المطر.
فرد: ما هذا الذي تقوله أيها المأفون، ألم تسمع من قبل "العطشان يكسر الزير" يا رفيق.
فرد: (ملتح) كما أن الضرورات تبيح المحظورات يا أخينا في الدين.
فرد: (مخنث) أرجوكم.. أرجوكم المحتاجة مغناجة (ينزل قائد الثورة من على منصته متجهًا إلي الأب).
قائد الثورة: قل لفتاك، أن روحه الطيبة تزعج رغبات الثوار وحوائجهم.
الأب: معذرة، فهو قليل الخبرة عديم التجربة (يذهب الأب إلي الملك) انزل من فوق منصتك، خطابك يليق بنبي، أنت تلحق بنا الشكوك من جديد.
الملك: أو نتركهم يحولون هذه المدينة الجميلة إلي قاع صفصف وصحراء قاحلة.
الأب: سبق وقلت لك دعني أتصدر المشهد والإجابة، كما لا بد أن تلازم أقدامك أقدامي، فما رضيت أن أصحبك في رحلتك الغريبة العجيبة إلا لأكونن مرشدك.
الملك: وها قد تحولت إلي شيطان.
الأب: ليس هذا أوان المحاورات والمناقرات والمسميات، فقط نفَّذ ما أقول، بيننا اتفاق (ينزل الملك من فوق المنصة).
الجمع: نبغي دولة حرة، العيشة صارت مرة.
الملك: أسفر الشر عن كامل وجوهه يا أبي، الكل يبحث عن ثروة وسلطة لا عن وطن.
الأب: جميعهم يقف على أرض واحدة الآن، يؤاخي بينهم الطمع والجشع وفساد السلوك الظاهر منه والباطن.
الملك: والله لو عدت بهم إلي حاضري وحاضرتي لوضعتهم في جُب يتضاءل بجانبه جبّ يوسف الصديق.
الجمع: الشعب يريد إسقاط النظام، لا دستور ولا قانون الثوار قادمون، نبغي دولة حرة العيشة صارت مرة.
الأب: الوطن أيها الملك ليس مكانًا فقط، الوطن زمن، ولكل زمن قانون، من غادره ضاعت روحه، وسخت نفسه إلي حد التلاشي، 
الملك: وما العمل الآن، وقد غاصت أقدامنا في الوحل؟
الأب: سنكون بينهم، ولن نكون منهم.
الملك: أهي ألغاز ملك ميت، أريد حلاً للوضع الذي تورطنا فيه.
الأب: إذن راقب ما أفعل، وإن تكلمت أكدت فقط ما أذهب إليه.
الملك: تحولني إلي مطية لك، كان هذا دأبك حيًا كنت أم ميتًا.
الأب: في كل مرة لا تكف عن تقليب عصاك في جمر صدرك والذي ما أن يوشك على الانطفاء تشعله من جديد.
الجمع: الشعب يريد إسقاط النظام، لا دستور ولا قانون، الثوار قادمون، (يتجه الأب إلي قائد الثورة).
الأب: إنما الحرب خدعة يا صاح.
قائد الثورة: دع ما ورائك أمامك وافصح.
الأب: بالتأكيد وأنت الخبير المحنك، تعلم أن الثورات تأكل أبنائها، وهناك كما لا يخفي عليك هسيس حركات ترهص بالخطورة، فكن شديد الإخلاص لعدم الإخلاص إلا لنفسك.
قائد الثورة: أهو تهديد ظاهر أم ترغيب مبطن؟
الأب: معاذ الله، الذي سيردنا إلي الحساب، فلم أظنك ضيق الصدر حتى تحرَّف معاني الكلام الذي بالتأكيد تحس بسنانه تجري في لحمك، إذ لم تعد تملك على الثوار حولاً ولا قوة، كما أرى.
قائد الثورة: أصدقني النصيحة، فلا بد أنك داهية.
الأب: عليك بالاحتجاب فورًا من ساعتك هذه، فغير المرئي يستزيد من مشاعر المهابة والإجلال في نفوس الثوار، فكن كالآلهة شريطة أن تعين أحدهم وبالأحرى فلا، ليقود بدلاً منك ويتلقى عنك أي ضربة من هنا أو هناك، فهو مبعوثك وأنت باعثه، فإذا ما أصابه لا قدر الله مكروهًا، وحتما سيصيبه، نجوت أنت وشكرت وحمدت وتسيدت وترأست.
قائد الثورة: فاتك أن من سيفض أختام القمقم سيطالب حتما بالرئاسة والسيادة.
الأب: وما أدراك ما بداخل القمقم، فقد يكون شرًا مستطيرًا، ينفث دخانًا ونار تحرق ذلك المتجرئ على فتحه، كما أن الإحسان غالبًا ما يجازي بشر، أو لم تسمع: اتق شر من أحسنت إليه.
قائد الثورة: والله قد مددت للود بيننا حبلا.
الأب: ادعو الله ليَّ ولك بألا ينقطع.
قائد الثورة: آن لطحيننا أن يخبز.
الأب: إذن عد من ساعتك هذه إلي ثوارك، وأخطب فيهم خطابًا يليق بمتجرد، عن السلطة زاهد، ومن رضوان الله طالب، وإذا ما عنَّ على رأسك باطل، غلفه بغلاف ديني، فيقبل عليك كل جاهل مقبلاً يديك، متبعًا مشورتك في كل عارض أو طارئ، فتعطيها له مغموسة بدهائك، وتوجهها الوجهة التي تتفق مع هوائك وهواك، فإذا ما تنافس الثوار وتسابقوا وتقاتلوا وتلاسنوا وتخرصوا على بعضهم البعض لم يتبق إلا أنت في النهاية، فتركب الكرسي آمنًا مطمئنًا، راضيًا مرضيًا، قال تعالى: ولسوف يعطيك ربك فترضى، صدق الله العظيم.
قائد الثورة: توكلنا على الله (يذهب ليعتلي المنصة) أيها الحشد الكريم، إن الغضب المشتعلة أعواده في الصدور ليس مطمعًا في مال نحوزه، أو لسلطان يلهب الأعين المتطلعة ويغشاها، وليس لحسد ملأ الأفئدة ونهش القلوب، فو الله الذي لا إله إلا هو، لم يكن غضبنا إلا لله ولنصرة نبيه، هو الغضب الباحث عن العدل، الذي لا نجده ولكنا سنوجده بسواعد شريفة، ووجوه قانعة، وأفواه تلهج بذكر الله، فالحق لا يحايده أحدهم إلا وحاد عنه.
فرد: تكبير.
الجمع: الله أكبر، الله أكبر (يستمر قائد الثورة في خطابه ولكن في الصمت)
الملك: (لأبيه) ماذا قلت له وبم أقنعته.
الأب: أن يأتي بأحدهم على أن يكون جميل الطلعة لا يفقه من الأمور أبسطها يدير عنه الثورة ويخطئ، فيسقطه الناس من أصحاب الحوائج والمطامع ويسلطون أخينا على أكتافهم وأعناقهم وأرزاقهم حاكمًا.
الملك: وما هدفك من وراء ذلك كله؟
الأب: إلهائهم عنا، وإحباط الأسئلة التي تكاد تنفجر في عقولهم عن مالنا وأحوالنا ومن أين أتينا، فهم سرعان ما سيكتشفون أننا لسنا من كانوا ينتظرون، وعندما يكون قائدهم بيننا سنكون بعيدين عن ألسنتهم المحقونة بسم التساؤلات، وستكون لنا – أنا وأنت – فسحة من الوقت للتفكير والتدبير والمرواغة، ثم الإياب إلي عرشنا الممتنع المنيع، مستغلين الفوضى التي حتما ستدب، والخطايا التي سوف تشب ويستعر أوارها عند فض أختام القمقم، مخلفة الخراب والدمار.
الملك: كنت أروم الإصلاح، لكنك تفسد في الأرض، كنت أنشد الوحدة وها أنت تغرق الجمع وتذهب بوحدتهم.
الأب: ليس هذا أوان البكاء والتباكي، ولئن صبرت وتصبرت لوجدت في لسانك ثقوبًا سوف تزيدها الأيام اتساعًا حتى تعجز عن رتقها فتصاب بالخرس من هول ما ستخبرك به عيناك عن عملاء ومأجورين، جهلاء جاهلين، عاصين، كارهين، حاسدين، عاقين بينهم فيهم. فخذ أيها الملك مسافة، واختزن المشهد بكامل مفرداته في ذاكرتك عله ينفعك في حاضرك وحاضرتك، وانتبه نحن في مستقبل غابر، فلا ضغينة عندي لأحد، فمن سلمَّ وسالم لا غبار، وتعلم أن القوم إن تنعموا ثاروا وإن تخشنوا قعدوا، فضيق عليهم اتساع الدنيا تكسب دنياك وعرشك وآخرتك.
الملك: يا إلهي، كم كنت ميتًا يا أبي حتى في حياتك.
الأب: الأغبياء الأدنى يقدحون، والأذكياء الأعلون يمدحون، سيحمل إلي الأثير وتراب القبر يوما ما، نبضات حبك.. أثق في ذلك.
إظلام
 
المشهد الرابع
(حلقات من المتظاهرين حول ميدان القمقم)
فرد: كيف يعين القائد مثل هذا الشاب رئيسًا علينا.
فرد: صحيح القوالب نامت والانصاص قامت.
فرد: هو ليس أهلا لفض أختام القمقم.
فرد: كما لم نره في مظاهرة واحدة، ولم يقم بأي من الأعمال التي قمنا بها.
فرد: قد يكون القائد رأي فيه ما لم نره نحن.
فرد: أبخسنا القائد هذا حقنا في الميزان.
فرد: والحق الإهانات بالرؤوس المرفوعة والهامات الممدودة.
فرد: من يتصور نفسه، فيختار علينا ولنا دون استشارة أو مقالة توضح كيف ولماذا؟
فرد: لا تتمادوا في الظلم، فيضيع منا الطريق، جل من لا يخطئ.
فرد: كما أن الله قد أعطاكم الدنيا كي تطلبوا الآخرة.
فرد: هع هع هع، أضحكتني يا رجل.
فرد: فلتصمتوا جميعًا، فها هو رئيسكم الجديد يخطو وسط عسسه وحراسه، بقضه وقضيضه.
فرد: وماذا في هذا؟ فهل هناك رئيس بلا شرطة وحراسة وأعين بصاصة ترقب الأحوال وتنقل الأخبار؟
فرد: فلتحذروا وإلا كانت مصائرنا في قبضة عزرائيل.
فرد: أنثور على ظالم لنأتي بأظلم.
فرد: والله لقد فعل بنا القائد منكرًا، ولم يجد من يرده إلي الحق، أما أنتم فمن المشائين بين الناس بالهمز واللمز والنميمة فلا تملكون صدق أحدهما القلب أو اللسان، فقط تنطق حروفكم بكراهيتكم حتى لأنفسكم، فلا يقين يثبت ولا شك يزول.
فرد: نحن جميعًا في حضرة الله ثم التاريخ ليحكم بما لنا وبما علينا.
امرأة: كل طغاة العالم تفوهوا بهذه العبارة بعد أن أضاعوا الله وزوروا التاريخ (يظهر منادي يحمل ميكروفونا) (هذا المنادي كان ضمن الكوكبة التي أحاطت بالرئيس الجديد المعين من قبل قائد الثورة).
المنادي: يبدأ رئيسنا المختار من قبل قائد الثورة عهدته بأقوال مأثورة عن مواقف مشهودة ينبغي ويجب ولا بد من استعادتها في هذه المرحلة الحرجة من مراحل النضال الوطني. إن فض أختام القمقم الذي تقمقمت فيه كل الآمال والأحلام لا يعني إلا إطلاق تلك الآمال والأحلام حتى لا يكون هناك جائع أو معوز يبيت على الطوي، هذه الأرض الطيبة آن لها أن تنبت عزًا ومجدًا لتتبوأ مكانتها اللائقة بين شعوب الأرض على أن تكون حقوق الجميع مكفولة، والمطالب مقبولة، فلا تفريق بين ذكر وأنثى واحترام ما بينهما من ثوالث مرفوعة (تصفيق) أما عن الواجبات فهي بقوة الدولة مضمونة، ولذلك فإن من سيكتب له الله الخروج من القمقم واستئناف الحياة هو من تتفق أراؤه مع أرائنا، ويكمل كلامه كلامنا، وتتطابق مواقفه مع مواقفنا، فنخطو إلي قدام بلا تلكؤ أو إبطاء، مبتعدين عن اللجاجة واللاكاعة واللغو التي تجعلنا عن الدنيا منقطعين وعن القوة ممتنعين، وعن السيف منشغلين، رغم أن الأعداء متربصين.
فرد: (مصححًا) متربصون – خبر إن.
المنادي: اتركها متربصين لأجل الوزن والنغمة.
فرد: (نفسه) ما هذا الكلام الفارغ.
المنادي: والآن حان وقت الامتحان والاختبار، فاختاروا من بينكم من ينوب عنكم في فض أختام القمقم، مع مراعاة تمثيل كل الفئات التي شاركت في إنجاح ثورتكم المباركة.
فرد: (صائحًا) لماذا لا يحدثنا السيد الرئيس بلسانه؟
فرد: نعم، دعه يخاطبنا ونخاطبه.
فرد: لا يجب أن يكون بيننا وبينه حجابًا يحجبنا عنه، ويحجبه عنا.
المنادي: فقط يعاني السيد الرئيس من علة بسيطة، تمنعه من التواصل المباشر مع شعبه ورفاقه.
فرد: إن عرف السبب بطل العجب.
المنادي: ليس هذا أوانه يا صديقي، فلتهدأ ودعنا نتفرغ لما هو أهم.
فرد: ليس هناك أهم من معرفة الرئيس عن قرب، فافصح عن ذلك الشيء الذي يمنعه من الكلام إلينا مباشرة، أم قد أكلت القطة لسانه؟
المنادي: (بسرعة) لا قطة في الموضوع.
فرد: إذن ماذا؟
المنادي: قطع النظام السابق لسان السيد الرئيس.
فرد: رئيسنا أخرس يا رجل؟
المنادي: نعم رئيسنا أخرس، فهلا هدأت من روعك الآن.
فرد: يا له من ضياع يسلمنا إلي ضياع.
المنادي: قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان، الوقت يداهمنا يا سادة، فقط نحتاج لثلاثة رجال من ذوي البأس كي يتسلقوا القمقم ويفضون أختامه قبل مغيب شمس اليوم وإلا ساءت العواقب.
فرد: أنا.
فرد: وأنا لها كذلك.
فرد: لا أترك والله صاحبي أبدًا.
المنادي: ليعش أهل القمقم فوق الأرض وتحت الشمس.
فرد: (ساخرًا) وفق كراسة الشروط المعلنة سلفًا.
فرد: (مستكملاً السخرية) لا لا، تطبق الشروط والأحكام أفضل (ضحكات).
المنادي: أفضل ما في شعبنا قدرته الفذة على تجاوز النكبات بالنكات، والانتصار على النائحات بالمقهقهات.
فرد: أوجز وأنجز يا سيدنا في حديثك قبل أن تغيب الشمس فنعطل عمل اليوم إلي الغد.
المنادي: معك كل الحق، على العمال الثلاثة ممن تطوعوا لفض أختام القمقم أن يتسلقوا سلالم الخيش التي تم تثبيتها من فوهة القمقم حتى قاعدته هيا، توكلوا على الله (يبدأ الرجال الثلاثة في تسلق السلالم الخشبية من زوايا ثلاث، وعند فوهة القمقم يبدأون في فض الأختام).
رجل 1: اللهم اعتق رقاب أهلينا.
رجل2: ورقاب الأحباب والأصحاب.
رجل3: يا لله لنا دعوة ببابك، اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعفو عنهم (يزيح فوهة القمقم، الذي ينفث دخانًا كثيفًا، ليظهر العفريت الأبيض ويتميز بعضلات مخيفة مبالغ فيها ورأس صغير ومؤخرة شبيهة بمؤخرات الغوريللات).
العفريت: شبيك لبيك، سيدك وتاج رأسك.
فرد: سيدي وتاج رأسي، عجبًا كنت عبدًا لمن يفض أختام القمقم في الروايات القديمة.
العفريت: ها قد قلتها بلسانك، في الروايات القديمة، والآن تبدلت الأحوال فأنا من يرفع رايات الحرية، وحقوق الإنسان بكل أشكاله وأنواعه وألوانه، أنا سيد العالم وفرضت عليكم الطاعة (يهز مؤخرته).
فرد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (ينزل العفريت ويبدأ في استعراض مؤخرته، متقافزًا أمام الجميع).
فرد: استرجل يا عفريت.
العفريت: الرجولة والأنوثة ثقافة وليست بيولوجيا.
فرد: اللهم أرحمنا، هؤلاء قوم إن مروا بأرض لن ينبت لها عشبًا.
العفريت: (وهو يهز مؤخرته أمام القائل السابق) كن عصريًا أفضل لك.
فرد: انقلب حال الدنيا يا رجال.
العفريت: (بنفس الحركة السابقة) بالعكس يا أخي في الإنسانية، فهكذا اعتدلت الدنيا، المؤخرات تدب مكان ما تحب.
فرد: هذا ترويج فاضح للشذوذ.
العفريت: (ممسكًا بالقائل السابق من أذنه) قل علاقات مثلية ولا تقل شاذة، هذب لسانك ولا تجرح الآخر في الـ ستايل أوف لا يف الذي اختاره بمحض إرادته. عليكم جميعًا مراعاة فروق التوقيت، فقد اكتظت الكرة الأرضية بمليارات البشر، وجميعنًا سيعاني من أزمة غذاء في العقود اللاحقة، وأنا وحبيبي حتمًا، قسرًا وبالتأكيد سنعجز عن الإنجاب بما يعني في التحليل الأخير الحفاظ على الكرة الأرضية من الاكتظاظ، الأشياء بخواتيمها يا أحباب.
فرد: واحسرتاه على أيام العفريت الأسود.
العفريت: لا فضل لعفريت أسود على عفريت أبيض إلا بالحرية.
فرد: أعيدوا هذا العفريت إلي القمقم مرة أخرى.
العفريت: (متقافزًا بين الجميع، مخرجًا قنبلة دخان يلقيها وسطهم) من سيعارضني هو الداخل إلي القمقم بغير رجعة، هيا أخرجوا ما في جوف القمقم ودعوا سجنائه يتنسمون نسمات الحرية، ولا تتباطئوا فينالكم مني سوء العقاب.
المنادي: فلتخرج طبقة الفقهاء.
فقيه 1: حبيبي أنت يا عفريت، أفديك بدمي وروحي، فقد أفتيت وأفنيت عمري مخلصًا لاجتهادي، فنلت شظف العيش وبئس المصير.
المنادي: بم أفتيت.
فقيه 1: أفتيت بأن على الرجل المسافر لأجل عمل أو دراسة تستغرقه سنينًا طوالاً عليه أن يؤجر فرج امرأته لجاره منعًا للزني والعياذ بالله.
المنادي: وما قول السيد العفريت فيما ذهب إليه الفقيه؟
العفريت: هذا طبيعي، فالجار أولى بالشفعة.
فقيه 1: (مقبلاً يد العفريت) أدامك الله لنا ذخرًا، فقد قضينا في القمقم سنينًا وسنين لا تعد ولا تحصى، فكان لنا المستقر والمقر، حيث تغيرت هيئاتنا وتبدلت سحناتنا وأبيضت عيوننا حزنًا.
فرد: هذه إهانة للدين لا يمكن القبول بها.
العفريت: (وهو يهز مؤخرته في وجه القائل السابق) المقاومة ممنوعة والمقاطعة مرفوعة (يلتفت ويضرب القائل السابق على فمه) سأكتفي هذه المرة بضربك على فمك، وإذا ما أطلقت لسانك مرة أخرى بما لا يرضينا، سأدخلك إلي القمقم بدلاً منه.
فرد: (هامسًا لمن بجواره) إنهم يدعون لدين جديد.
فرد: لم أسمعك، وأنت لم تقل شيئًا، والأفضل أن تبحث لك عن مكان آخر تجلس فيه.
فرد: أنت صديقي.
فرد: كنت صديقك، خالتي وخالتك، واتفرقت الخالات (ينهض من الجوار).
المنادي: فليخرج الفقيه الثاني.
فقيه 2: ويلي من ذلك الشطاف الذي أودى بي إلي القمقم.
المنادي: عن أي شطاف تتحدث؟
فقيه 2: شطاف رمضان.
المنادي: أهناك شطاف ماركة رمضان.
فقيه 2: بالطبع لا، فرمضان هو شهر الصيام المبارك الذي يبطله الشطاف فقد أفتيت بأنه يدخل الماء إلي المعدة، فالإفطار قد يكون عن طريق الفم أو المؤخرة.
فرد: أهذا اليوم هو يوم المؤخرات أم ماذا؟
فرد: فليرفع الله عنا غضبه.
العفريت: نعم الفتوى، فرأيك يحتمل كل الصواب، ورأى غيرك فيه كل الخطأ، فلتنعم بفتواك وفتاويك.
المنادي: الفقيه الثالث.
فقيه 3: الحمد لله الذي أعانني، والله الذي لا إله إلا هو، فإني لم أطلب من دنياياي مغنمًا ولا حتى درهما، فنعيم الدنيا لا يقاس بنعيم الأخرة.
المنادي: بم أفتيت، خلصنا، نهارنا طويل.
فقيه 3: أفتيت بأن أقل نصيب للمسلم في الجنة 2000 هكتار، وأن المسلم في الجنة إذا ما نظر إلي طائر واستشهاه، فإن الطائر يسقط من فوره أمامه مشويًا ليلتهمه بالهناء والشفاء.
العفريت: هذا يعني أنه لا يحق لغير المسلمين التملك في الجنة يا فقيه، وهذا تمييز وتعصب لا يليق برجل دين.
فقيه 3: هذا مبلغ علمي، غفر الله لي ولكم، والرأي الأول والأخير لك سيدي العفريت.
العفريت: أعيدوه إلي القمقم فنحن مع التسامح ولا نقبل بأي تطرف.
فرد: العفريت الأبيض ينفع في اليوم الأسود.
المنادي: (يصرخ) طبقة المواطنين.
العفريت: هؤلاء عددهم كبير، وقد ازدحم بهم القمقم، لذا فلننتخب من بينهم من يمثلهم، ثم هي طبقة طويلة عريضة لا تثبت على رأي ولا تقتنع باختيار.
المنادي: ينفذ قرار العفريت الأبيض، ويعمل به من فوره وساعته، ثم ينشر في الجريدة الرسمية.
فرد: ونعم الديمقراطية.
فرد: عفريت رائع بحق.
فرد: رب العزة سيفضحكم جميعًا يا من تمالئون هذا المسخ.
فرد: لماذا تنظر دائمًا إلي نصف الكوب الفارغ؟
فرد: اغتربوا تصحوا، فطول إقامتنا في نفس المكان يبلي أرواحنا وأجسادنا.
فرد: في أي مكان سنذهب إليه، سنجده ملأن بالعفاريت البيض.
المنادي: سيدي العفريت، تمت الانتخابات بشفافية ونزاهة.
العفريت: اظهر وبان عليك الأمان ممثل طبقة المواطنين (يظهر المواطن مصحوبًا بموسيقى وطنية).
العفريت: عرَّف بنفسك.
المواطن: مواطن شريف.
العفريت: أهذا هو اسمك؟
المواطن: بل إنها صفتي، بها عشت وبسببها عوقبت.
العفريت: أفهم من حديثك أنهم وضعوك في القمقم بسبب شرفك.
المواطن: نعم فكل جريرتي تتلخص في احتساب من ظلمني إلي الله، وكانت دعوتي والحمد لله مستجابة.
العفريت: سنرد عنك كيد الظالمين شريطة أن تدعو لنا دعوة عند ربك.
المواطن: يا رب فلتعط العفريت الأبيض، وفي سبقه من العفاريت، ومن سيلحقه من التابعين على قدر نياتهم يا رب (النار تشب في مؤخرة العفريت، وفي أجساد بعض الحضور وخاصة الفقهاء).
العفريت: (صارخًا) انزلوه إلي أسفل طبقات القمقم، فمن كان مثله، وعلى شاكلته من المواطنين يجب ألا ينشر لهم ديوان ولا ينصب ميزان (يوضع المواطن في القمقم مرة أخرى) كاد يفتك بنا الملعون في كل عصر وأوان.
المنادي: ما جرى على المواطنين من انتخابات، يجرى كذلك على طبقة النسوان.
العفريت: هذا أوانهن، فنحن نحتاج إلي الترويح عن أنفسنا والتسرية عن أرواحنا فالنكحل الأعين بمرأى الأجساد الطرية والنهود الناهدة. ما استتر منها وما ظهر (تظهر الملكة).
فرد: جمال آخاذ.
فرد: شفافة مثل الزجاج.
فرد: بل هي تشعل في الرجال نارًا.
الملكة: عالم الرجال، عالم بلا قلب.
العفريت: هذا حديث رومانسي تجاوزته الحضارة.
الملكة: وددت لو ألغي التاريخ، فكله أنقاض تتراكم فوق أنقاض.
العفريت: ابدأي من هنا والآن، استمتعي وتلذذي باللحظة.
الملكة: وكيف أنسى؟
العفريت: برفض أي مرجعية، وكل مرجعية.
الملكة: دائمًا كنت أتحدث من وراء حجاب يخفي ملامح وجهي الحقيقية غير أنه لا يخلو من ميزة إذ جعلني اكتشف لغة الأعين التي تفضح كل كاذب، أدمنت الحيلة، وأصبحت ديدني ودنياي، كرهت الشعور بأن يتملكني أحدهم حتى لو كان ملكًا، حلمت بيد وعين حانيتين، من يحوزهما يملكني فينام هانئا في حضني كأنه ابني مثلما هو حبيبي. لا أدري ما الذي جرى معي، غير أني تمنيت موت زوجي لأنعم بنسمات الحرية، ولما لم يمت انقطعت عن العالم ووجدت نفسي في القمقم.
العفريت: لقد تغير العالم وانتصرت اللحظة السرمدية التي لا تنتهي، كل يوم فيه الجديد، وكل جديد يلغي ما قبله، نحن في مرحلة الـ سنجل وومن، وال love wins وبالعربي الفصيح الحب يكسب ويربح.
الملكة: لا أعرف شيئًا عن هذا، فهو مجهول لدي.
العفريت: فلتجربين، فحين تجربين لن تضيفين إلي خسارتك خسارة أخرى.
الملكة: وأين الإفادة والاستفادة.
العفريت: براعة التجربة نفسها، الدهشة، سلوك سبل غير مألوفة، ضرب كل القواعد وإحلال غيرها تفصح عن شخصيتك أنتِ ولا أحد سواك.
الملكة: غواية كلامك تعني المغامرة.
العفريت: ويفوز باللذات كل مغامر، جسدك عنوان وجودك، فأفرجي عن مكبوتاتك واطلقي سراح حواسك لتعانق فضاءات جديدة متعددة، وساعتها لن تكوني أنتِ التي تعرفينها.
الملكة: مع ما يحمله ذلك من ضياع؟
العفريت: حينما نكسب أرضًا نخسر أخرى، هيا لا تضيعي وقتك وقتنا، انطلقي واهنائي بجسدك ومفاتنك (تغادر القمقم فتتلقفها الأيادي).
فرد: هذه المرأة ليَّ.
فرد: أنا أعلى منك شأنًا.
فرد: وأنا أغنى منكما.
فرد: لن يرضى هذه المرأة أيًا منكم! فهذا الجسد الثائر يعوزه من يستنفر خباياه ويستخرج عطاياه، وأني لهذه المهمة لقادر (تصرخ الملكة وتخرج هاربة من المشهد).
المنادي: سيدي العفريت، لم يتبق في القمقم إلا طبقة السائرون بظهورهم.
العفريت: اخراج من غير قيد أو شرط.
المنادي: سيدي ستكون هناك فوضى عظيمة، فهؤلاء سيعودون بالناس قرونًا إلي الخلف.
العفريت: هناك أشياء لا تعلمونها، أنا أعلمها، كما أنني كنت دائم الاتصال بهم في القمقم، وعلاوة على هذا وذاك فمن حقهم المشاركة في الحياة السياسية بعد ثورتكم المباركة، فأهلا بهم شركاء في الأوطان (يظهر السائر بظهره خلفه مجموعة من التماسيح برؤوس بشرية هو يمشي بظهره وكذلك التماسيح).
السائر بظهره: المسلمون ما عادوا مسلمين، فإما أن يستتابوا أو يقتَّلوا ككافرين.
التماسيح: الجهاد، الجهاد.
السائر بظهره: نحن نعيش زمن الجاهلية الأولى، وما هذه البلاد إلا دار كفر، السلوك والأخلاق والعادات عهر.
التماسيح: الجهاد، الجهاد.
السائر بظهره: حاد الناس عن الإسلام واتبعوا تقاليد عفاريت الأمريكان ولكم أسوة حسنة في إخوانكم من الأفغان.
فرد: والله ستوردهم تلك السجعة موارد التهلكة.
فرد: أسفر الشر عن كامل وجوهه.
فرد: (ملتح) انزعوا وسوسات الشيطان من قلوبكم.
فرد: العفريت ذو السبعة ألسنة هو السبب فيما نحن فيه.
فرد: لا بد من استأصالهم لهم جميعًا من الجذور.
فرد: (ملتح) أنت من لا بد حافر قبره بيده يا كافر.
فرد: بعد لحظة ستغمض عيناك عن النور إلي الأبد يا إرهابي.
فرد: (ملتح) تكبير.
التماسيح: الله أكبر.. الجهاد الجهاد.
فرد: (ملتح) فليعيننا الله على الشياطين حتى يسلمون.
فرد: والله هي فتنه أرادها العفريت.
فرد: صدقت في لهجتك وعبارتك.
فرد: اكسروا أعناقهم، فالعدو بيننا فينا ولا يعرف للعدل إقامة (تدور رحى حرب أهلية على خشية المسرح مع موسيقى أغاني المهرجانات..).
العفريت: (مقهقهًا وكالحواة ينفث نارًا من فمه) شبيك لبيك سيدك ومالك إيديك.
إظلام
 
المشهد الأخير
(داخل خيمة الملك والأب يستطلعان المشهد خارجها)
الملك: انفجر بركان من الفوضى.
الأب: لن ينجو منها أحد، ماذا تنتظر من أمة يلهو بها الجميع.
الملك: لكنا شاركنا في تلك الفوضى يا أبي.
الأب: سبق وحذرتك من مغامرتك هذه، لكنك كنت عاقد العزم على القيام بثورة على أركان حكمك.
الملك: أتنكر أن الفساد كان مستشر وكامن حتى في عقول أولئك الذين لم يفسدوا حتى تواتيهم لحظة الفساد والإفساد.
الأب: لن أخوض معك حربًا كلامية فاللحظة غير مواتية، ولكن إليك نصيحتي الأخيرة، الإصلاح يفرض بقوة القانون وإرادة تنفيذه على الجميع بلا استثناء، وبالسيف في مواجهة كل عاصٍ، بعيدًا عن أهواء العوام ومن يحركهم في الداخل أو الخارج.
الملك: أكان خطأ أن أضع ثقتي في الناس.
الأب: جرَّم السلف الصالح الخروج على الحاكم حتى لو كان فاسدًا، لأن درأ المخاطر مقدم على جلب المنفعة، وقد ورد في قرأننا العظيم عبارة "القرى الظالم أهلها" ولم يقل الظالم حكامهم.
الملك: لم نفقد الأمل بعد، فقائد الثورة هو الأقدر على حسم الفوضى التي ضربت الجميع كزلزال.
الأب: حبال أمالك واهية، فقائد الثورة حينما أحس أن قيادته قد أفلتت من بين يديه، أظهر نفسه وخرج من مكمنه، ولما أصبح مرئيًا قتله السائرون بظهورهم الذي يسابقون الزمن في العودة إلي الماضي.
الملك: بطائرة دافنشي سنكون الأسرع في العودة إلى مملكتنا.
الأب: ألم أخبرك أن طائرة ليوناردو قد احترقت من جراء الحرب الدائرة خارج الخيمة، وقد رأيتها بأم رأسي وهي تحترق على مقربة من ميدان القمقم حيث تركناها، نحن عالقون في الزمن يا بني.
الملك: ماذا؟ أأصبحت شريدًا بعد ما كنت ملكًا، ألا أستطيع أن أتقدم ولا أستطيع أن أتراجع؟
الأب: هذا قدرك ومصيرك الذي صنعته بنفسك، هيا قم بدفني، آن لروحي أن تستقر.
الملك: اتتركني وحدي؟
الأب: سيحمل الأثير لك كل أمانيٍ الطيبات، وكذا أنفاس حبي التي ستتردد داخلك ما حييت، فقط أغرس فوق قبري شجرة.
الملك: سأحتمي بظلها وأتذكر عزنا ومجدنا الذي كان (يحفر الملك قبرًا... تغيير في الإضاءة يفيد مرور زمن.. الملك يجلس تحت شجرة.. تمر به الملكة).
الملكة: هل لي بشربة ماء (يقدم الملك لها الماء).
الملك: يخيل إلي أنني أعرفك.
الملكة: كلما مررت من هنا داهمني نفس شعورك.
الملك: ما أسمك؟
الملكة: صدقني لا أعرف لي اسمًا.
الملك: أصدقك، فأنا أشبهك تمامًا، بالتأكيد لكِ أهل يعرفون الاسم.
الملكة: لا أعرف شيئًا عنهم، فكأنني ابنة لهذا الفضاء، ضاعت مني الملامح والوجوه والأسامي، أمشي وحيدة ابحث عن شيء غامض، حرة تمامًا لكني كما لو كنت تخلصت من قيد ظاهر، لتحوطني من كل جانب قيودًا أخرى غير ظاهرة أو يتجاهلها الرجال لأنها من صنعهم.
الملك: لا أحدًا آمن، رجلاً كان أم إمرآة
الملكة: الكل طامع في مال أو سلطة أو جسد.
الملك: تضعين اصبعك على الجرح.
الملكة: (وهي تنهض) ارتحت قليلاً بالحديث إليك.
الملك: سأكون بانتظارك كلما رغبت في لقائي.
الملكة: أو كلما أصابني العطش (يضحكان).
الملك: ظل الشجرة يمكن أن يضمنا سويًا.
إظلام.
 
*استاذ الدراما بالجامعة ،والكاتب بالمسرح التجريبي.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون